العقل الديني.. بين نصر حامد أبو زيد والسيد مرتضى الشيرازي

د. خالد عبد النبي عيدان الأسدي

2025-09-23 04:22

إنماز العقل الإسلامي في القرون الخمسة الأخيرة بالانفتاح على الثقافات الغربية والشرقية مما جعله يكتسب من هذه الثقافات، ما أفاد منها في جانب وتضرر بها من جانب آخر؛ إذ دخلت الأفكار من الشرائع الأخرى -كالمسيحية واليهودية وصابئية؛ و(اللَّا دينية) كالإلحاد وااللا أدرية وغيرها-، وبذلك جرت الصراعات الفكرية واشتبكت المفاهيم وانمزجت التقاليد والأخلاق فيما بينها، فتهجَّنت بعضها وانزوت، وحافظت بعضاً منها، واختلطت في بعضها الآخر.

 وبذلك سقط مفهوم المقدَّس الذي كان محاطاً بهالة قدسيَّة لا يجوز اقتحامها في البحوث الأكاديمية، فبدأت الدراسات والبحوث تظهر تحت يافطة (موت المؤلف) وهو مفهوم يَدْرُسُ النَّصَ بما هو نص بعيداً عن سلطة المؤلف؛ وقد أطلق عليه بعد ذلك بمصطلح (البنيوية)، التي تدرس النص بذاته ومن أجل ذاته.

مصطلح العقل الديني

مصطلح العقل الديني يُستخدم لوصف الطريقة التي يفكر بها الأفراد والجماعات الدينية حول قضايا الإيمان والشريعة والعلاقة مع الإله أو مع المقدَّس، وله مفاهيم تعدُّ من أسسه؛ كالتفسير الذي يُشير إلى الطريقة التي يفسر بها الأفراد والجماعات الدينية النصوص الواردة في الدين والشريعة.

وكذلك المنظور المقدَّس: إذ ينظر عبره الأفراد والجماعات الدينية إلى العالم والوجود والغاية من الحياة وهي وجهات النظر التي أُحكمت بقبضة الشرع.

بالإضافة إلى التفكير الديني: الذي يدور حول الطريقة التي يفكر بها الأفراد والجماعات الدينية فيما يخصُّ قضايا الإيمان والمقدَّسات والشريعة والدستور الأوحد والعلاقة مع الإله.

روافد العقل الديني

 لكلِّ مصطلح -مرَّ بمطبَّات عدَّة حتى استوى- قنوات وروافد يُغذي بها مدخلاته فيستعين بها ليؤتي أكله في الانتشار؛ والعقل الديني له مظانُّه المتعددة التي يستقي مادَّته الرئيسة منها، وأهمَّها: النص الديني، حيث يعتمد العقل الديني على النصوص الدينية والشريعة في فهم العالم والوجود وعلى أساسه يُصدر أحكامه، وهذا لا ينحصر تحت طائلة دين معيَّن؛ وإنَّما ينسحب على جميع الشرائع الموجودة على الأرض، وكذلك رافد الإيمان الذي يُعدُّ من أبرز الروافد للشرائع الدينية من وجهة نظر العقل الديني، ويرتكز على الإيمان بالمسائل الغيبية؛ إذ يعتقد العقل الديني بوجود الغيب والمتعالي، ويؤمن بالحقيقة المطلقة، وله الحق بالفرض والتخطيط والتطبيق، بالإضافة إلى الأخلاق والقيم والتقاليد الموروثة، فعبارة -هذا ما وجدنا عليه آباءنا- لها وقع خاص في العقل الديني ويشدد عليها وعلى أهمية الأخلاق والقيم في الحياة اليومية.

العقل الديني بين أبي زيد والسيد مرتضى الشيرازي

بدافع الحرية الفكرية؛ اتجه بعض الأكاديميين إلى قراءة النصوص الدينية الإسلامية كما قرأ الغربيون النصوص التوراتية والإنجيلية، وراحوا يُشيرون إلى آنيَّة النزول وتاريخانية المُنْزل، وأبرز مَن قال بذلك هو الأكاديمي المصري نصر حامد أبو زيد(1)، حيث ذهب إلى نقد العقل الديني واتهمه بالراديكالية (الرجعية)، وذهب إلى أن الهرمينوطيقا(2) ضرورية لفهم القرآن الكريم بشكل موضوعي، وشدد على أهمية التأويل كعملية علمية لا يمكن فيها إهمال أي من طرفي النص والمفسر، وعلى هذا الأساس أعطى أبو زيد الحق للقارئ أن يفهم النص بحسب مرجعياته الثقافية ولا علاقة للفهم بالتقديس(3).

في حين أن السيد مرتضى الشيرازي يرى أنَّ مفهوم القراءة النصية للنص المقدَّس يجب أن لا تحكمه المرجعيات الثقافية للقارئ، لأنَّ القارئ يُسلِّط ثقافته على فهم النص الديني فحسب؛ بل سيقوم بإصدار حكمٍ عليه، وبهذا سيكون الذوق حاكماً على النص الديني مما يؤدي ذلك إلى حاكمية القارئ على النصوص، ومن الممكن أن تجد مبرراً للحاكمية على النصوص الأدبية أو اللغويَّة؛ إلَّا أن هذه الحاكمية لا يمكن قبولها وفرضها على النص الديني، فالنص الديني له اليد الطولى في توجيه الأذواق لا العكس(4).

مفهوم الهرمينوطيقا بين أبي زيد والسيد الشيرازي

تُشير الهرمينوطيقا إلى تعدد القراءات وقبولها من دون حاكمية إحداها على الأخرى، والغرض من هذا المفهوم هو إخضاع جميع النصوص -بغض النظر عن الباث أو المُرسِل - للثقافات المتعددة، فتكون النصوص محكومة للأذواق أو العلمية الفردية أو الاحتمالية؛ ومنها إلى رفع التقديس عن جميع النصوص، والتأويلية تفرض رأيها مستندة إلى الروافد المعرفية التي تدعمها من قبل القارئ.

يذهب نصر حامد أبو زيد إلى التأويلية الشاملة والمطلقة، لأنَّها تنظر للنصوص على أنّ الفهم المتعدد يخرج عن دائرة المدوَّنة المغلقة إلى النص المفتوح؛ فهو يعتقد أنَّ جميع النصوص -بما فيها القرآن الكريم- هو نص مفتوح يحتاج إلى التأويل لاكتشاف معناه الحقيقي وهذا مبسوط لكل زمان، ولا يمكن تحجيم أو توحيد دلالته على أساس فهم المفسرين في العصور الغابرة له، وإنَّما تتجدد قراءاته ودلالاته بحسب الزمان والمكان.

بينما يذهب السيد الشيرازي إلى نسبية الهرمينوطيقا وعدم شموليتها، فهي لا حاكميَّة لها على النص القرآني؛ لذا تعذر فهم النص القرآني من دون بيانه من قبل عِدْلهِ؛ إذ قال تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)(النحل/43)، فإذا كان بالإمكان فهم القرآن الكريم بالاستقلالية عن أهل الذكر؛ فلا حاجة للإشارة إليهم، نعم تنطبق القراءات المتعددة على النصوص الأدبية لا على النص المقدَّس(5).

الايبستيمولوجيا بين أبي زيد والسيد الشيرازي

مصطلحٌ فلسفي لنظرية المعرفة، أدخله الباحثون في الدراسات الحديثة للنصوص على أساس نقد الهرمينوطيقا، والتي تعني العلم عند نصر حامد أبي زيد، وفكرته تقوم على نقد التأويلية السائدة بأسس معرفية جديدة ومنها إلى تحرر العقل من الراديكالية لفهوم النص المقدَّس، والمعرفة عنده مطلقة وممكن الحصول عليها في أزمنة متفاوته.

ولكن السيد الشيرازي يُشير إلى نسبية المعرفة من جهة؛ وافتراقها عن مفهوم العلم من جهة أخرى، لذا لا يمكن للعقل الناقص أن يحصل على المعرفة الكاملة ليوظفها في فهم النص الكامل (القرآن الكريم)، وليس كل ما يعرفه العقل الإنساني بالإمكان توظيفه واستعمال مرجعياته المكتسبة في فهم النص المقدَّس.

تاريخيَّة القرآن الكريم

بعض الباحثين المحدثين ينظر إلى النص القرآني على أنَّه نصٌّ نزل في تاريخ معيَّن وقد فُهِمَ عند نزوله فهماً يليق بذلك الزمان، فيجب أن لا يسري ذلك الفهم مع الأزمنة، وهذا ما اعتقده أبو زيد، فهو يرى أن القرآن له تاريخية، بمعنى أن النص القرآني نزل في سياق تاريخي معين وتأثر بالظروف الاجتماعية والثقافية والسياسية في ذلك الوقت.

يشدد أبو زيد على أهمية فهم السياق التاريخي للنص القرآني لتفسيره بشكل صحيح، فعنده مفاهيم تاريخية القرآن تخضع للسياق التاريخي؛ إذ يؤكد على أهمية فهم السياق التاريخي للنص القرآني، بما في ذلك الظروف الاجتماعية والثقافية والسياسية التي نزل فيها، وكذلك التأويل: فهو يرى أن التأويل هو عملية ضرورية لفهم النص القرآني، ويجب أن يتم في ضوء السياق التاريخي والثقافي للنص، والقرآن الكريم عنده عبارة عن نتاج ثقافي: فهو يُشير إلى أن القرآن الكريم هو منتج ثقافي يتأثر بالثقافة العربية في ذلك الوقت، ويجب أن يُفهم في ضوء ذلك.

أمَّا السيد الشيرازي فهو يؤمن بنظرية التأويل؛ إلَّا أنَّه يؤكد على المُبيِّن للنص القرآني وليس لأحد أن يؤول ما لم يكن عِدلاً للقرآن الكريم، حيث قال تعالى: (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ)(آل عمران/7)، والسياق التاريخي له فهمه الخاص في كل زمان ومكان وهذا ما يفهمه الراسخ في العلم الذي أشارت إليه الآية المباركة، وهو الذي تتنزل عليه الملائكة في ليلة القدر، لا أنَّها مبسوطة لفهم الجميع، فمدوَّنة القرآن مغلقة عن فهم العقل الناقص لا العقل الكامل؛ إذ أرشد الله تعالى الناس إليه، ولا يمكن أن يكون القرآن الكريم منتجاً ثقافيَّا -كما يراه أبو زيد- إذن لجاءوا بمثله !!، وهذا ما لا يتأتَّى للجميع، (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)(الإسراء/88).

الاستنتاجات

مما تقدَّم ننستنتج الآتي:

1- يرى نصر حامد أبو زيد انغلاق العقل الديني على فهم النصوص القديمة؛ لذلك أصبح راديكاليَّاً، في حين يجد السيد الشيرازي العقل الديني منفتحاً على أساس ثقافيِّ بناه الدين ليحوطه عن الرذائل.

2- الهرمينوطيقا عند أبي زيد مطلقة، وعند السيد الشيرازي نسبية لا يمكن لها التحديد المفهوم بتعدد القراءات.

3- يُرادف أبو زيد بين العلم والمعرفة ويستند عليها في فهم الهرمينوطيقا، ولكنَّ السيد الشيرازي يُفرِّق بين العلم والمعرفة وكلاهما نسبيَّان بالاكتساب فلكلٍّ منها فهم طرف من أطراف الهرمينوطيقا.

4- استند نصر حامد أبو زيد إلى التاريخ النزولي وحجَّم الفهم الثقافي للقرآن الكريم في ذلك العصر، إلَّا أنَّ السيد الشيرازي يرى تاريخ النزول ما هو إلا وجه من وجوه فهم القرآن عند أهل الذكر، وعليه؛ يجب إرجاعه إلى المُبَيِّن للإيضاح.

5- يُشير أبو زيد إلى أن القرآن الكريم منتج ثقافي خاضع للبيئة المحيطة بالنزول، ولو نزل في بيئة أخرى؛ من الممكن أن يأتي بغير سياقات وغير ألفاظ، بينما يؤكد السيد الشيرازي على أنَّ القرآن الكريم لا تحكمه ثقافة معيَّنة؛ بل يُخضِعُ جميع الثقافات والسياقات النصيَّة لسياقه؛ ولذلك يتعذر ترجمته لأنَّها تسلب منه روح التعبير الدلالي المقصود.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2025

http://shrsc.com

.........................................

[1) ولد نصر حامد أبو زيد في إحدى قرى طنطا في 10 يوليو 1943، ونشأ في أسرة ريفية بسيطة. في البداية لم يحصل على شهادة الثانوية العامة التوجيهية ليستطيع استكمال دراسته الجامعية، لأن أسرته لم تكن تستطيع أن تنفق عليه في الجامعة، لهذا اكتفى في البداية بالحصول على دبلوم المدارس الثانوية الصناعية قسم اللاسلكي عام 1960م. إلا أن طموحه لم يتوقف فدرس أثناء عمله إلى أن حصل على شهادة الثانوية العامة مما أهله لدخول الجامعة والدراسة فيها. كانت دراسته في قسم اللغة العربية والفلسفة. ويقص أنه بكى لأنه نجح في السنة الأولى، من دراسته الجامعية بتقدير جيد فقط. ولهذا انكب على الدراسة وأزاد من عزمه حتى أصبح ينجح بامتياز وكان الأول على زملائه، وحتى التخرج، له كثير من المؤلفات، أبرزها:

• الاتجاه العقلي في التفسير (دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة) وكانت رسالته للماجستير

•فلسفة التأويل (دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي) وكانت رسالته للدكتوراه، في كلية الآداب جامعة القاهرة قسم اللغة العربية

•مفهوم النص دراسة في علوم القرآن

• إشكاليات القراءة وآليات التأويل (مجموعة دراساته المنشورة في مطبوعات متفرقة

• نقد الخطاب الديني

 عاد إلى مصر قبل أسبوعين من وفاته بعد إصابته بفيروس غريب فشل الأطباء في تحديد طريقة علاجه، ودخل في غيبوبة استمرت عدة أيام حتى فارق الحياة في صباح الإثنين 5 يوليو 2010 التاسعة صباحا في مستشفى زايد التخصصي، وتم دفنه في مقابر أسرته بمنطقة قحافة بمدينة طنطا بعد صلاة العصر

[2) الهرمينوطيقا: مصطلحٌ لم يكن بِدعاً من الدراسات والبحوث؛ حيث استعمله الباحثون القدامى في البحث للدراسات اللاهوتية الخاصَّة في النصوص المقدَّسة، وإن لم يُعيّنوا المصطلح إلا أنَّه كفكرة كانت مستعملة؛ فهي تُشير الى مجموعة من القواعد التي يتبعها مفسر أو مفكك السُّنن لفهم النص الديني. وإنَّ تاريخ الهرمينوطيقا (النظرية التأويلية) كثيراً ما عانى من مشكلات وتناقضات كثيرة؛ ولذا يتعسر الوصول الى تاريخ واضح وجامع وبيِّنٍ كامل لهذه النظرية لما فيها من مطبات وتعرجات في المسيرة البحثية، والهرمينوطيقا تؤكد على تعدد القراءات بحسب المقام والزمن وتهاجم الدلالة الموحدة.

[3) يُنظر: نقد الخطاب الديني، نصر حامد أبو زيد: 78-85.

[4) يُنظر: نقد الهرمينوطيقا، السيد مرتضى الشيرازي: 123.

[5) يُنظر: نقد الهرمينوطيقا، السيد مرتضى الشيرازي: 28.

ذات صلة

المشاركة في الانتخابات من خارج القفصمنطق القيم ومنطق المصلحةعن الأمن القومي العربي المُستعارموقع العراق الجيوسياسي في معادلة الأمن الإقليميالضربة الإسرائيلية على قطر تصعيد جيوسياسي