على الطريق إلى جبال إيلام

عباس سرحان

2025-09-15 07:04

 جاسم عُبيد شاب تجاوز العشرين من عمره، تحمل ملامحه سمات السومريين ممن سكنوا هذه الأرض منذ فجر التاريخ. عينان واسعتان كالعيون السومرية المنحوتة على تماثيل أور، تلمعان بذكاء حاد.

 قامته الطويلة الممشوقة كسعف نخيل ينحني بتواضع فوق أرض العكيكة، في الناصرية. التي تغفو على جزء من بقايا مملكة سومر العظيمة على حافات هور الحمّار الغربية قبل تجفيفها.

ذات مساء، بينما كان جاسم يجلس مع أسرته، بَثَّ التلفزيون قائمة بأسماء المواليد المطلوبين للالتحاق بمعسكرات التدريب، قبل أن يُزَجُّوا في جبهات القتال ضد إيران، حيث كانت الحرب في أوجِها.

 سقط من يد أمه الستينية طبق الصيني الذي كانت تملأه بالرز المطبوخ بالحليب، قبل ان تضعه على المائدة وساد صمت حزين ملأ ارجاء البيت وأوقف ضحكات الصغار واعتلى وجوههم البريئة.

بعد ثلاثة أشهر قضاها في معسكر تدريب المشاة في محافظة واسط، علّموه كيف يقتل قبل أن يعلموه كيف يحيا، وجد نفسه الآن في سيارة الإيفا العسكرية المتجهة إلى الجبهة.

 كان يحمل في حقيبته البالية زيًّا عسكريًّا بلون التراب، وحرز من أمه. وبين جنبيه قلبًا مثقلًا بذكريات ثلاثة أشهر من القسوة والتدريب على القتل والكراهية.

تذكر أيام التدريب في معسكرات واسط، حيث كان الضباط يصرخون في وجوههم "أنتم لستم طلابًا.. أنتم بنادق في هذه الحرب. وإذا لم تقتل فإنك تُقتَل!". 

تذكر التدريب على الرماية وإطلاق النار على أهداف ورقية تشبه البشر، وتذكر شعوره ويده التي ترتعش كلما ضغط على الزناد.

الآن، بعد انتهاء التدريب، تم نقلهم إلى جبهات القتال. السيارة العسكرية تحملهم كما تًحمل الأغنام إلى الذبح. 

جاسم جلس في زاوية من سيارة الإيفا المزدحمة، يحاول أن يخفف من غبار الطريق الذي يتسلل إلى أنفاسه من كل صوب.

 كانت جبال إيلام تلوح في الأفق، شامخة وكأنها حُجُبٌ أسطورية، وتحتها، بدت دباباتنا كَنَمَلٍ يتسلق جسدا عملاقا.

فجأة، دوى انفجار قذيفة محاذية للطريق. توقفت السيارة لحظات ثم عادت إلى السير. وتصاعدت سحابة الدخان كشبح أسود. همس في رعب "هل ستكون نهايتي هنا في هذه الارض الغريبة بعيدا عن ربوع العكيكة؟".

بعد هدوء نسبي، سمعوا أناشيد عسكرية مصرية تملأ الأجواء "يا أهلًا بالمعارك يا بخت من يشارك...".

كانت احدى وحدات التوجيه السياسي تبثها لرفع معنويات الجند. لكن الاناشيد لم تقدر على منحهم مبررات معقولة لدوافع تلك الحرب التي شنها صدام ضد جارته ايران وهي منشغلة بثورتها الفتية.

 نظر جاسم حوله فرأى الوجوه الشاحبة، والعيون المتسائلة، والأيدي المرتعشة. سأل بصوت مكسور "من أي مدينة أنتم؟".

أجابوا كأنهم تلاميذ في فصل دراسي: "من البصرة"، "من الديوانية"، "من السماوة"، "من كربلاء".

لم يكن بينهم أحد من الرمادي أو صلاح الدين أو حديثة. فكر جاسم "غريب.. أين أبناء الشمال والغربية؟ أليسوا جزءاً من هذا الوطن؟".

وكأن زميله حيدر زامل من العمارة أدرك حيرته، فقال "كل من في السيارة من الجنوب". نظر جاسم نحو مقدمة القافلة حيث سيارات الضباط، فسأل بحدة "وأولئك؟ من أين هم؟".

أجابه حيدر بهمس مرير "هؤلاء أيضا من هناك"!

في تلك اللحظة، اكتملت الصورة القاتمة. تذكر جاسم كيف كان ضباط التدريب في معسكر واسط كلهم من (هناك)، ومدير ناحية العكيكة والمحافظ ومدير الامن والمخابرات من هناك. بينما الجنود كلهم من الوسط والجنوب. 

نظر نحو الأفق حيث جبال إيلام الشامخة، فخاطبها في داخله "يا جبال.. كم أم جنوبية تودّع المغيب بالنحيب على أبنها الذي يتوسد صخورك وهي لا تعلم أن ابنها صار رقماً في حرب طائفية؟".

أغلق عينيه وراح يستمع إلى دوي المدافع البعيدة، كأنها أصوات الموت يتوعد شبابا لم يعرفوا من الحياة سوى اناشيد الحرب وموت مجاني تحت سماء باردة.

أدرك جاسم ان العراقيين في وسط وجنوب العراق وهم الاغلبية ليس لهم نصيب من الوطن سوى الشعارات الوطنية الزائفة ومن يعترض منهم ينعتونه بـ"الذيل او العميل". 

وأن الوطن بخيراته وموارده ومناصبه من نصيب فئة قليلة استولت عليه، فهمس مع نفسه" ليتهم اعطونا الوطن وأخذوا الوطنية".

ذات صلة

حماية الحرية الفكرية وإتاحة النقاش للجميعفعالية القيادة بالتكلفة في الأسواقحول نهاية عملية العزم الصلب في العراقبعد الهجوم على قطر: نحو نظريَّة للأمن الإقليمي الشاملالعزلة الصامتة وكراهية الذات