الفساد يكتب شهادة وفاة المباني
مصطفى ملا هذال
2025-09-08 12:28
يبدو ان الأيام لم تمنحنا الوقت الكافي لجر الانفاس وتقبّل مرارة الاحداث الماضية حتى زادت الطين بلة، ورسمت في نفوسنا صورة مأساوية عما يدور في البلد، ولا مكان للفرح او التفاؤل.
مرة أخرى فُتحت نافذة الحزن في نفوس العراقيين بعد انهيار مجسر الحسينية الواقع على طريق كربلاء – بغداد اثناء عملية صب الخرسانات الكونكريتية، ومع هذا الانهيار انهار ما تبقى من ثقة الناس بمؤسساتهم الحكومية.
الحادثة ليست مفاجئة بقدر ما هي فضيحة مدوية تكشف حجم الاستهتار الممنهج بأرواح المواطنين وأموالهم، فالمشروعات التي من المفترض عن تكون آمنة في جميع مراحلها بدءا من وضع الاساسات الى مرحلة الانهاءات، وتُشيد لخدمة الشعب، تحوّلت الى خطر يهدد حياة المواطنين.
هل هي لعنة اصابت العراق؟
هل هي المرة الأولى التي تهاجم فيها المواد الكونكريتية المواطنين وتزهق ارواحهم؟
بالتأكيد لا
فلو لم تحصل هذه الحادثة، وتمر مرحلة الصب بسلام، لم يبق امام المسؤول الى انتظار حفل الافتتاح ويكتفي الجميع بالتصفيق لما يقوله، وكأنه محرر الشرق الأدنى من أعتى الاقوام همجية ودموية، جاءت لتبطش بحياة الملايين الأبرياء من المواطنين.
المأساة الحقيقية وما يثير الاشمئزاز ليس الانهيار بل طريقة التعامل الحكومي مع الحادث، وكأنه الحدث الأول الذي يحصل في المشروعات الحكومية، فهي – الجهات الحكومية – تحاول ان تتناسى تسريب المياه في مجسر بغداد الجديدة - الزعفرانية، بعد دخوله الخدمة لفترة وجيزة.
وتحاول أيضا ان تتناسى الإخفاق في الوصول الى نتائج حقيقية، ومرضية من قبل لجان التحقيق في المشكلة او الحادثة المعينة، وعادة ما تنتهي هذه اللجان الى نتائج معروفة مسبقا، حتى باتت الجماهير لا تعير أي اهتمام لبياناتها، لإنها لا تتوقع سماع شيء مختلف عما قيل في وانتشر على مواقع التواصل الاجتماعي.
وما يضاعف المأساة هو التسارع الحكومي إلى إطلاق بيانات باهتة، تُقلل من حجم الخسائر، وتُطمئن الناس بأن "هذه حوادث طبيعية تحدث في كل مكان"، وكأنهم يطلبون من المواطن أن يصفق لموته البطيء، أو يقبل أن يتحول إلى رقم في قائمة ضحايا الإهمال.
هل سمعنا يوما عن مبنى حكومي في الدول المتقدمة انهار اثناء التشييد، او بعد سنوات قليلة من إنشائه؟ أم أن العراق وحده محكوم بأن يعيش في حلقة مفرغة من الرداءة والتبرير؟
كل كارثة في العراق تُواجه بالسيناريو نفسه، لجان تحقيق لا تعلن نتائجها، ووزارات تتقاذف التهم، ومقاولون يختفون بهدوء خلف أبواب الفساد، والمواطن يُدفن تحت الركام، بينما المسؤول يخرج أمام الكاميرات ليعزي الشعب، وكأن التعزية تعويض عن الدماء، أما المحاسبة فهي كلمة محرمة لا مكان لها في قاموس الحكم.
كلمة أخيرة ... الاستمرار في تبرير هذه الجرائم هو مشاركة في القتل، ومن المؤلم أن تتحول الحكومة إلى ماكينة دعائية تبيع الوهم للناس بأن ما يجري طبيعي، لا ليس طبيعيا أن تنهار المنشآت الحديثة، وليس طبيعيا أن يموت الناس تحت الركام، وليس طبيعيا أن يُدفن الفساد مع الضحايا ثم يُغلق الملف بـ"لجنة تحقيق".