الوعي الديني في زمن التكنولوجيا الرقمية

باسم حسين الزيدي

2025-09-07 06:00

يشكل الوعي الديني أحد أهم مرتكزات بقاء الأمم واساس نهوضها الحضاري والفكري والاخلاقي، إذ إنه يمثل البوصلة التي تهدي الإنسان في مسارات الحياة المادية المختلفة، وتمنحه القدرة على التمييز بين الحق والباطل، والخير والشر، والهدى والضلال، وتعطيه الفرصة لإعادة تقييم الفرص والتحديات وفق منظور اخلاقي وفكري متوازن. 

وحينما يتعرض هذا الوعي لاهتزاز أو تشويش، فإن انعكاس ذلك يكون مباشرا على بنية الفرد اولاً والمجتمع ثانياً ووجهته الحضارية ثالثاً، وفي هذا المعنى، يشهد عالمنا المعاصر تحولات عميقة غير مسبوقة بفعل الثورة الرقمية التي اجتاحت كل جوانب الحياة، وأعادت صياغة أنماط التفكير، وطرق التواصل، وآليات اكتساب المعرفة، الى جانب الكميات الهائلة من النفايات المعرفية الرقمية في ضل غياب الوعي الواعي وسيطرة الذكاء الاصطناعي واداوته على المشهد في الوقت الراهن.

لقد أحدثت التكنولوجيا الرقمية نقلة نوعية في حياة الإنسان، بحيث لم يعد العالم مقسما إلى جغرافيات منفصلة، بل صار قرية صغيرة مترابطة، يتأثر فيها الفرد بأحداث تقع على بعد آلاف الكيلومترات في لحظات قليلة، هذه الثورة التكنولوجية، على الرغم مما تحمله من فرص عظيمة، أفرزت تحديات جذرية تمس الوعي الديني للأمة الإسلامية، والاجيال المسلمة، حيث أصبح الدين حاضرا في الفضاء الرقمي حضورا واسعا، لكنه في كثير من الأحيان مشوها، مجتزأ، أو مشحونا بالسطحية والانفعال.

من هنا تبرز الحاجة الملحة إلى مناقشة ودراسة "الوعي الديني في زمن التكنولوجيا الرقمية"، ليس باعتباره ترفا فكريا، بل ضرورة حضارية ملحة لمواجهة أزمة التدين السطحي، والانفتاح غير المنضبط، والفتاوى العشوائية، والتوظيف الأيديولوجي للدين في فضاءات الإعلام الجديد.

إن الإسلام -بوصفه رسالة خاتمة- يمتلك من المرونة والقدرة ما يجعله قادرا على التفاعل مع كل عصر وأدواته، شريطة أن يفهم فهما رساليا محمديا أصيلا، بعيداً عن التقليد الأعمى أو الانغلاق الجامد، وقد أكد القرآن الكريم على مركزية الوعي والتبصر في الدين لقوله تعالى: (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي).

والبصيرة هنا ليست مجرد معرفة، بل وعي عميق يترجم في الموقف والسلوك، كما ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): "ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر، ولا علم ليس فيه تفهم، ولا عبادة ليس فيها تفكر"، ليؤكد أن جوهر الدين هو الوعي، لا مجرد الممارسة الشكلية، وعليه، فإننا محاولة استجلاء معالم الوعي الديني في ظل التحولات الرقمية، من خلال دراسة إيجابياتها وسلبياتها، ودور النخب والمؤسسات الدينية، وصولا إلى بلورة رؤية لوعي ديني رقمي رشيد يوازن بين الأصالة والمعاصرة، هي مسؤولية كبيرة ينبغي تسليط الضوء عليها بشكل مفصل.

الوعي الديني والتحول الرقمي

الوعي الديني ليس مجرد معرفة بالمفاهيم العقائدية أو الاطلاع على الأحكام الشرعية، بل هو إدراك شامل لطبيعة الدين، ومقاصده، وأبعاده الحضارية، ويمكن تعريفه بأنه: القدرة على فهم الدين فهماً عميقاً يترجم في السلوك الفردي والجمعي ويؤسس لرؤية متوازنة للعالم والحياة.

لقد شهدت العقود الأخيرة ثورة معرفية غير مسبوقة بفعل التكنولوجيا الرقمية، فمنذ انتشار الإنترنت في تسعينيات القرن الماضي، ثم بروز وسائل التواصل الاجتماعي في العقدين الأخيرين، تغيرت طبيعة المعرفة من كونها محصورة في الكتب والمؤسسات الأكاديمية، إلى فضاء مفتوح تتداوله الجماهير بضغطة زر، هذه النقلة حملت معها إيجابيات عديدة مثل:

1. إتاحة المعرفة للجميع بعد أن كانت حكراً على النخب.

2. تسريع تداول المعلومة وتحديثها بشكل لحظي.

3. إزالة الحواجز الجغرافية، فالمسلم في أقصى الشرق يمكنه الاستماع إلى درس عالم في أقصى الغرب مباشرة.

لكن في المقابل، أفرزت الثورة الرقمية تحديات سلبية خطيرة، منها:

1. فوضى المعلومات حيث يصعب التمييز بين الصحيح والزائف.

2. سطحية التلقي إذ اعتاد المتلقي على النصوص القصيرة والمرئية السريعة.

3. تراجع الموثوقية بعدما أصبح كل فرد قادراً على إنشاء محتوى ديني ونشره دون ضوابط.

التحدي الأكبر الذي يواجه الأمة الاسلامية اليوم هو كيفية المحافظة على عمق الوعي الديني في ظل هذه التحولات، إن وفرة المعلومات الدينية على المنصات الرقمية قد تعطي انطباعا كاذبا بالمعرفة، في حين أن كثيرا منها يفتقر إلى الضبط العلمي والدقة.

ولذلك، فإن الوعي الديني الحقيقي في هذا السياق يقوم على ثلاثة عناصر أساسية:

1. النقد والتحقق: أي التمييز بين المصادر الموثوقة والمصادر المجهولة.

2. العمق في الفهم: تجنّب اختزال الدين في الشعائر الشكلية أو النصوص المبتورة.

3. القدرة على التفاعل الواعي: أي استثمار التكنولوجيا فيما يعزز قيم الدين بدل أن يفرغه من محتواه.

لكن من المهم معرفة ان الدين والتكنولوجيا ليسا مجالين متناقضين بالضرورة، فالتكنولوجيا أداة او وسيلة محايدة يمكن أن تسخر في فعل الخير أو الشر والإشكال يكمن في طريقة الاستخدام، فحينما تستثمر التكنولوجيا لنشر علوم القرآن الكريم والعلوم الدينية ومقاصد الشريعة المقدسة وتيسير الوصول إلى المراجع الموثوقة في هذا الامر، فإنها تكون نعمة للمتلقي، خصوصاً مع الصعوبة والشدة التي كانت سابقاً في استحصال نفس هذه المعلومة، أما حينما تستغل التكنولوجيا لتتحول إلى منابر رقمية للجدال الديني العقيم من اجل توظيف لغايات المضلل، فإنها تصبح نقمة، وقد أشار النبي محمد (صلى الله عليه واله) الى هذه الامر بقوله: "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق"، أي أن التعامل مع الدين يحتاج إلى حكمة وتدرج، وهو ما ينسحب على التعامل معه في الفضاء الرقمي، بحيث لا يختزل في مقاطع عابرة أو جدالات افتراضية لا تسمن ولا تغني.

نشر الدين والمعرفة

لقد أوجدت التكنولوجيا الرقمية فرصا غير مسبوقة في نشر المعارف الدينية، فاليوم يمكن للشاب المسلم أن يصل إلى القرآن الكريم وتفاسيره عبر التطبيقات، وان يقرأ الكتب الدينية النادرة والحديثة عبر هاتفة المحمول مجانا ومن دون شراءه من المكتبة، وأن يشاهد ويستمع إلى خطب ومحاضرات العلماء من مختلف أرجاء العالم، وأن يشارك في النقاشات الدينية عبر المنصات الاجتماعية، وادت الى الانتشار الواسع للمحتوى الإسلامي مع توفير مصادر متعددة للتفقه في الدين او التعرف على تفاصيله وعلومه، اضافة الى القدرة على مخاطبة الشباب بلغة جديدة ووسائط حديثة، وقد أكد المرجع الراحل الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) هذا المعنى بقوله أن: "الوسائل الإعلامية الحديثة من أكبر الوسائل لتبليغ الإسلام إذا استعملت بشكل سليم".

لكن رغم الإيجابيات الكبيرة التي يمكن الاستفادة منها، إلا أن هناك تحديات خطيرة تواجه الوعي الديني في العصر الرقمي ولا يمكن تجاهلها بأي حال من الاحوال لعل أبرزها:

1. انتشار المعلومات المغلوطة: حيث يختلط الصحيح بالباطل، ويصعب على المتلقي التمييز بينهما دون وعي نقدي.

2. فوضى الفتاوى: حيث ينشر بعض الأفراد فتاوى دينية دون علم أو ضبط علمي، مما يضر بالوعي الديني العام.

3. الاستقطاب المذهبي والطائفي عبر الشبكات: إذ تستخدم المنصات الرقمية أحياناً لتفخيخ الانقسامات بين المجتمعات واستغلال العقل الجمعي لتنميطه باتجاه وغاية معينة.

4. تسطيح الوعي: حيث يقتصر استهلاك المحتوى على المقاطع القصيرة دون فهم معمق للمعاني أو السياق.

وقد حذر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) من السطحية في العلم فقال: "قيمة كل امرئ ما يحسنه"، أي أن قيمة الإنسان بقدر عمق ووعي فهمه ومعرفته، لا بما يردده من شعارات أو مقاطع عابرة، ويشير الإمام الشيرازي الى هذا المعنى بالقول: "التدين لا يكتمل إلا بالوعي والفهم، وأي سعي في الفضاء الرقمي يجب أن يكون مقرونًا بالعلم والرصانة".

دور المؤسسات الدينية 

تلعب المؤسسات الدينية بمختلف مسمياتها (الحوزات العلمية، المدارس الدينية، المراكز الاسلامية الفكرية، المواقع الدينية الالكترونية، المراجع ورجال الدين...الخ) دوراً كبيراً في ضبط الوعي الديني، فهي ليست مجرد أماكن لتدريس الفقه ونشر العلوم الدينية، او تلقي العلوم والمعارف الدينية، بل تعد مراكز لإعداد الإنسان والوعي، ومساعدة الفرد والمجتمع في الوصول الى التكامل الروحي والاخلاقي والفكري كما أكد الإمام الشيرازي: "الحوزات ليست مجرد أماكن لتدريس الفقه، وإنما هي مراكز لتغيير المجتمع إلى الأفضل"، ومن هنا، على النخب أن تستثمر الأدوات الرقمية، وتنتج محتوى أصيلًا رصينًا، قادرا على مخاطبة العقل والوجدان معا، وأن توظف الوسائل التقنية في خدمة الدين دون تشويه أو اختزال.

إن المطلوب اليوم ليس رفض التكنولوجيا ولا الانغماس الأعمى فيها، بل إقامة توازن رشيد يقوم على:

1. التمييز بين المعلومة والمعرفة، بمعنى فهم المحتوى بطريقة اكثر عمقاً وليس فقط تكراره أو مشاهدته من دون تمييز او دراية او تحقيق.

2. تربية الاجيال الناشئة على التفكير النقدي والتحقق من مصداقية المصادر، اذ من الضروري ان يتعلم الشباب كيف يفرق بين الصحيح والزائف.

3. الجمع بين الأصالة الدينية والمعاصرة التقنية من خلال استثمار أدوات العصر الحديث دون التفريط في جوهر الدين.

التوصيات

يتضح مما تقدم أن الثورة الرقمية تشكل سلاحا ذا حدين أمام الوعي الديني، فهي من جهة وسيلة عظيمة لنشر الإسلام وتعزيز الوعي إذا استعملت بحكمة وصلاح، وهي من جهة أخرى خطر مدمر إذا تركت بلا توجيه ولا ضبط، ويمكن اقتراح مجموعة من التوصيات التي يمكن ان تعزز الاستفادة منها كوسيلة مهمة من وسائل نشر الوعي والصلاح والاخلاق والمعرفة:

1. إنشاء منصات رقمية رسالية متطورة من قبل المؤسسات الدينية الرصينة لتكون مصدراً موثوقاً للمعرفة الدينية بمختلف معارفها.

2. إعداد جيل واعٍ قادر على التمييز بين الصحيح والزائف في الفضاء الرقمي.

3. تبني خطاب ديني أصيل يواكب العصر من دون تفريط ولا إفراط.

4. التدريب المستمر للنخب الدينية ورجال الدين على استخدام الوسائل الرقمية بكفاءة.

5. إشراك الشباب في صناعة المحتوى ليكونوا جزءا من الوعي الرقمي، لا مجرد متلقين او متأثرين.

* مدير مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2025

http://shrsc.com

ذات صلة

ألغام تهدم القلوب والمجتمعاتالابتزاز الإعلامي في زمن الديمقراطيةالمدن الذكية بين الرفاهية التقنية والضرورة المستقبليةأين القطة الآن؟هل يجوز ان تنفذ الاحكام القضائية جبرا بواسطة الدائن؟