التكالب على المعادن الـحَـرِجة
بروجيكت سنديكيت
2025-07-27 04:30
باريس ــ اكتسبت القوى العظمى العالمية شهية لا تشبع للمعادن الـحَـرِجة الضرورية لتحولات الطاقة والتحولات الرقمية الجارية، بما في ذلك المعادن الأرضية النادرة (اللازمة لإنتاج أشباه الموصلات)، والكوبالت (لإنتاج البطاريات)، واليورانيوم (لتشغيل المفاعلات النووية). وتتوقع وكالة الطاقة الدولية أن يتضاعف الطلب على هذه المعادن إلى أكثر من أربعة أمثاله بحلول عام 2040 لاستخدامها في تكنولوجيات الطاقة النظيفة وحدها. ولكن، في سباقها للسيطرة على هذه الموارد الحيوية، تجازف الصين وأوروبا والولايات المتحدة بالتسبب في إحداث أضرار جسيمة في البلدان التي تمتلك هذه المعادن.
في ظل الوضع الراهن، تتصدر الصين الرتل، بعد أن اكتسبت الملكية أو السيطرة على ما يقدر بنحو 60-80% من المعادن الـحَـرِجة اللازمة للصناعة (مثل المغناطيس) والتحول الأخضر. تمتد هذه السيطرة عبر سلسلة التوريد بالكامل: فالصين تستثمر بكثافة في التعدين في مختلف أنحاء أفريقيا، وآسيا الوسطى، وأميركا اللاتينية، وكانت عاكفة على بناء قدرات المعالجة.
من منظور القوى الغربية، يبدو شبه احتكار الصين للمعادن الـحَـرِجة خطرا يهدد الاقتصاد والأمن القومي. وهذا الخوف ليس بلا أساس. ففي ديسمبر/كانون الأول من عام 2024، فرضت الصين قيودا على الصادرات من المعادن الحرجة إلى الولايات المتحدة ردا على القيود الأميركية المفروضة على الصادرات من الرقائق الإلكترونية الدقيقة المتقدمة إلى الصين.
منذ ذلك الحين، أجبر الرئيس الأميركي دونالد ترمب أوكرانيا على التخلي عن حصة كبيرة من معادنها الـحَـرِجة للولايات المتحدة في إطار ما يقدمه على أنه سداد للدين المتمثل في الدعم الأميركي لها في حربها ضد روسيا. كما يريد ترمب فرض سيادة الولايات المتحدة على جرينلاند الغنية بالمعادن، الأمر الذي أثار استياء الدنمارك. واقترح أن تصبح كندا، بكل مواردها الطبيعية، الولاية الأميركية الحادية والخمسين. من جانبه، سعى الاتحاد الأوروبي إلى إبرام عقود تعدين، كما فعل في جمهورية الكونجو الديمقراطية، التي توصف بأنها "المملكة العربية السعودية للمعادن الـحَـرِجة".
من التكالب على أفريقيا في القرن التاسع عشر إلى المحاولات الغربية للاستحواذ على نفط الشرق الأوسط في القرن العشرين، من الواضح أن مثل هذه المحاولات للاستيلاء على الموارد ليست جديدة. وهي تعكس تباينا أساسيا: إذ تميل الاقتصادات النامية الأقل تصنيعا إلى استهلاك مقادير من الموارد أقل مما تنتج، في حين أن العكس صحيح بالنسبة للاقتصادات المتقدمة ــ وفي الوقت الحاضر يأتي دور الصين.
من حيث المبدأ، يخلق هذا التباين ظروفا مثالية لاتفاقيات المنفعة المتبادلة: تحصل الاقتصادات الصناعية على الموارد التي ترغب فيها، وتحصل الاقتصادات غير الصناعية على مكاسب غير متوقعة، والتي يمكنها استخدامها لدعم جهود التنمية لديها. ولكن، في حقيقة الأمر، أثبتت الهبات الهائلة من الموارد الطبيعية أنها نقمة أكثر من كونها نعمة، حيث تتطور البلدان الغنية بالموارد غالبا ببطء أكثر من نظيراتها التي تفتقر إلى الموارد.
أحد الأسباب الرئيسية وراء هذه الحال هو أن الاقتصادات المتقدمة تتمتع بنفوذ اقتصادي، وتكنولوجيا متقدمة، وقوة عسكرية أكبر ــ وجميعها أمور تستخدمها للحصول على الموارد التي تسعى إلى الحصول عليها. على سبيل المثال، استخدمت القوى الإمبريالية الأوروبية في القرن التاسع عشر تكنولوجيا المحركات البخارية لمساعدة نفسها على استكشاف واستغلال الموارد في أفريقيا مثل النحاس، والقصدير، والمطاط، والأخشاب، والماس، والذهب. وهذا، إلى جانب الأسلحة الأكثر تقدما وغيرها من التكنولوجيات، كان يعني أنه القوى الأوروبية، بعيدا عن تقديم تعويض عادل للمجتمعات المحلية عن مواردها القيمة، كان بوسعها إخضاع تلك المجتمعات واستخدام عمالتها لاستخراج ونقل كل ما تريد.
ولكن حتى البلدان التي تُـصَـدِّر مواردها من أجل تحقيق الربح واجهت غالبا صعوبات في إحراز تقدم حقيقي في مجال التنمية، ليس فقط بسبب الصفقات غير المتوازنة مع مستوردي الموارد الذين يتمتعون بقدر أعظم من القوة، بل أيضا لأن حكوماتها كانت غالبا تُـسيئ إدارة الثروات المرتبطة بها. ولا يساعد في هذا الصدد أن البلدان والمناطق الغنية بالموارد مبتلاة عادة بصراعات داخلية وخارجية.
لنأخذ على سبيل المثال المقاطعات الغنية بالمعادن في جمهورية الكونجو الديمقراطية، مثل كاتانجا وشمال كيفو، التي عانت طويلا من أحداث العنف والخروج على القانون، والتي تغذيها دول مجاورة مثل رواندا وأوغندا. واليوم، يؤجج تقدم متمردي حركة 23 مارس/آذار المدعومة من رواندا إراقة الدماء في شرق الكونجو ــ ويخلق الفرصة التي تنتهزها قوى خارجية للوصول إلى المعادن الـحَـرِجة. الواقع أن اتفاقية السلام بين جمهورية الكونجو الديمقراطية ورواندا التي توسطت فيها إدارة ترمب تَـعِـد بهذا الوصول على وجه التحديد، مقابل ضمانات أمنية.
لكن لعنة الموارد ليست حتمية، وخاصة في البلدان التي تتمتع بمؤسسات قوية موجهة للخارج لإدارة علاقات الاقتصاد الخارجية، بما في ذلك قدرة قطاع الموارد على جذب الاستثمار وتوليد الإيرادات لصالح الدولة، ومؤسسات موجهة للداخل للتحكم في كيفية استخدام هذه الإيرادات. إذا كان لأي بلد أن يترجم ثرواته من الموارد إلى تنمية اقتصادية وتحسينات في رفاهة الإنسان، فيجب أن يضطلع كل من هذين النوعين من المؤسسات بدور حاسم.
يجب على المؤسسات التي تتعامل مع الخارج أن تتفاوض على عقود تعدين عادلة وشفافة مع الشركات المتعددة الجنسيات وأن تعمل على تعزيز قدرة الحكومات المحلية على القيام بالمثل. ينبغي لهذه العقود أن تتضمن متطلبات المحتوى المحلي، بما يحافظ على مزيد من أنشطة المعالجة ذات القيمة المضافة العالية في الداخل، ويزيد من فرص العمل المحلية، ويعزز قدرة الموردين والمقاولين المحليين. منذ استحواذها على حصة 15% من شركة De Beers، سعت بوتسوانا إلى ضمان أن يجري قطع الماس ــ وليس فقط تعدينه ــ محليا، الأمر الذي يتطلب أن تعمل المؤسسات الداخلية على توفير استثمارات كافية في هذه القدرات.
ويتعين على المؤسسات التي تتعامل مع الداخل أن تتولى أيضا إدارة المخاطر المرتبطة باستخراج الموارد، بدءا من الأضرار الصحية والبيئية (إزالة الغابات وخسارة التنوع البيولوجي والتلوث) إلى انتهاكات حقوق العمال (بما في ذلك عمالة الأطفال). من المؤسف أن كثيرا من البلدان الغنية بالمعادن تقصر كثيرا في هذا المجال، الأمر الذي يدفع بعض المراقبين إلى الدعوة إلى مقاطعة المعادن الـحَـرِجة القادمة من مناطق النزاع أو البلدان التي تستخدم العمالة القسرية. وفي حين أنه من غير المرجح أن تؤثر مثل هذه المقاطعة على هذه الحكومات، فإنها قد تقنع الشركات المتعددة الجنسيات والحكومات الأجنبية بمطالبة البلدان التي تتعامل معها بتطبيق أفضل للمعايير البيئية والاجتماعية.
ولكن في نهاية المطاف، يعود الأمر إلى البلدان الغنية بالمعادن للدفاع عن مصالحها وتحقيق أقصى قدر من الاستفادة من ثرواتها. ويبدأ هذا بجهود تعزيز المؤسسات.