إذا لم يكن ترامب صقراً ولا حمامة، فماذا يكون؟

FOREIGN POLICY

2025-07-16 04:42

بقلم: إيما آشفورد

تحركات الرئيس الأخيرة لا تتماشى مع الثنائيات المعتادة في السياسة الخارجية الأميركية، لكن هناك سابقة تاريخية.

شهدت الأسابيع القليلة الماضية تقلبات حادة في سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط: من الدبلوماسية إلى الضربات العسكرية على منشآت إيران النووية، ثم عودة إلى التهدئة. وبينما تحدث الرئيس بنفسه لفترة وجيزة عن تغيير النظام عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فقد جاءت الضربات، عملياً، محاولةً دقيقة للموازنة بين عدم التدخل والحرب الشاملة، ضربات جراحية ضد أهداف محددة تلتها مباشرة عملية خفض تصعيد. وكانت النتيجة سياسة لم ترضِ لا الصقور ولا الحمائم داخل ائتلاف دونالد ترامب، وتركت المراقبين في حيرةٍ أكبر بشأن ما إذا كان ترامب من صقور الجمهوريين التقليديين أم مؤيدًا لعدم التدخل.

ومع ذلك، فإن تصرفات ترامب تجاه إيران لا تتنافى مع طريقته المعتادة في الحديث عن السياسة الخارجية أو ممارستها. فالأعمال العسكرية المحدودة ولكن الحازمة من أجل تعزيز مصالح الولايات المتحدة -والتي توصف غالباً بأنها "جاكسونية"، وربما من الأفضل وصفها بأنها نوع حديث من "الحملات العقابية"- تتماشى تماماً مع هذا التصور للعالم. إنها فقط لا تتماشى مع الممارسات المعتادة للسياسة الخارجية الأميركية خلال العقود الأخيرة.

مصطلح "الجاكسونية" يأتي من الباحث والتر راسل ميد، الذي جادل بأن هناك أربع مدارس فكرية رئيسية في السياسة الخارجية الأميركية:

 الويلسونيون -نسبة إلى الرئيس الذي أنشأ عصبة الأمم- يؤمنون بتعزيز القيم الليبرالية والديمقراطية حول العالم. أما الهاميلتونيون، فيركزون أكثر على الشؤون التجارية، ويدفعون الولايات المتحدة إلى اتخاذ دور نشط في حماية التجارة الدولية، كما فعل الرئيس جورج بوش الأب حين سعى لحماية أسواق النفط خلال حرب الخليج. 

ووفقاً لميد، فإن الجيفرسونيين يميلون إلى تجنب الانخراط الخارجي والتركيز حصراً تقريباً على الشؤون الداخلية؛ وقد كانت هذه النزعة ممثلة بشكل ضئيل بين الرؤساء الأميركيين في العصر الحديث.

أما الجاكسونيون فيركزون على الداخل، ويتخذون نهجاً قومياً عميقاً يعطي الأولوية للسياسة الداخلية على حساب الخارجية. لكنهم أيضاً لا يمانعون في الإنفاق على الجيش، ومستعدون تماماً للقتال من أجل قضايا يرون أنها مركزية للمصالح الأميركية. وكما وصف المؤرخ هال براندز الأمر، فإن "هدفهم في القتال هو تحقيق النصر الأميركي، لا إنقاذ العالم".

إذا كان ترامب جاكسونياً بالفعل، فإن ذلك يشير إلى تحول قومي ملحوظ في السياسة الخارجية الأميركية، بل وربما نهاية حقبة ويلسونية شبه مطلقة، والتي رأت في الولايات المتحدة "الأمة التي لا غنى عنها" في العالم. فرؤساء الولايات المتحدة منذ جورج بوش الأب اعتنقوا أحياناً سياسات جاكسونية، لكنهم دفعوا، في العموم، باتجاه رؤية أكبر لنظام عالمي تقوده الولايات المتحدة. وإذا كان تركيز ترامب فعلاً منصبًّا أولاً على المصالح الأميركية، فسيكون على الدول الأخرى -سواء الحلفاء أو الخصوم- أن تتكيف مع حقبة قد تتصرف فيها الولايات المتحدة بطريقة مختلفة تماماً على المسرح العالمي.

على مدى العقود الماضية، تبنّى كثيرون في واشنطن قاعدة "بوتري بارن": إذا كسرت شيئاً، فعليك شراؤه. فعندما تبدأ الولايات المتحدة حرباً، كما قال وزير الخارجية السابق كولن باول للرئيس جورج بوش عام 2002، فعليها أن تكون مستعدة لتحمّل تبعات ذلك، بغض النظر عن حجم الالتزام. حتى كثير من منتقدي الإجماع في السياسة الخارجية يقبلون بقاعدة بوتري بارن؛ هم فقط يجادلون بأن على أميركا ألا تتدخل من الأساس.

لكن ضربات ترامب لا تنسجم بدقة مع الثنائية المعتادة في السياسة الخارجية الأميركية، والتي تميل إلى اعتبار العزلة الخيار الوحيد مقابل الانخراط. فقد وصف المراقبون ترامب بأنه جاكسوني منذ فترته الأولى، ووصل الأمر إلى أن قال ميد نفسه عام 2017 إن "الشعبوية الأميركية المميزة التي يتبناها ترامب متجذرة في فكر وثقافة أول رئيس شعبوي في البلاد، أندرو جاكسون". ترامب لا يخاف من استخدام القوة العسكرية؛ بل يحب فكرة القوة العسكرية، ويكره بوضوح الحملات الليبرالية العالمية والتحالفات. وقد أطلق على سياسته الخارجية اسم "أميركا أولاً"، مستعيراً شعاراً من الفترة بين الحربين وجاعلاً إياه شعاره الخاص.

ضربات إيران عززت فقط هذا التشبيه. فبحسب رواية ترامب نفسه، شعر بأن إيران تماطل الولايات المتحدة في المفاوضات، ورأى فرصة سانحة خلقتها التحركات الإسرائيلية. وقبيل الضربات، وبينما كان الإعلاميون والناشطون الجمهوريون في السياسة الخارجية يخوضون معركة علنية شرسة حول ما إذا كان ينبغي على الولايات المتحدة أن تدخل حرباً مع إيران، بدا أن الأصوات من كلا الجانبين قد استوعبت فكرة أنه لا يمكن أن يكون هناك شيء اسمه تدخل محدود. اشتبك تاكر كارلسون مع السيناتور تيد كروز، وأصدر ستيف بانون تحذيرات شديدة اللهجة بأن ضرب إيران سيغرق الولايات المتحدة في حرب شرق أوسطية جديدة. في المقابل، كان الصقور مثل مارك ليفين يتلهفون عملياً لسقوط النظام في طهران.

لكن الجاكسونيين سيرفضون أساس هذه القاعدة تماماً، معتبرين أن لا بأس في "تحطيم الأشياء والرحيل". فالجاكسونيون، الذين غابوا عن المشهد منذ ثلاثينيات القرن العشرين، لم يخوضوا الحروب إلا عندما تعرضت الولايات المتحدة أو مواطنوها للتهديد أو الهجوم، كما حدث بعد بيرل هاربر أو تدمير السفينة "يو إس إس ماين" عام 1898. وهم أيضاً منفتحون على الحملات العقابية أو الضربات الجراحية التي تهدف إلى معاقبة أو إجبار الدول الأخرى، مثل قرار الرئيس رونالد ريغان عام 1988 بتدمير جزء كبير من الأسطول السطحي الإيراني رداً على هجمات استهدفت الشحن في مضيق هرمز.

في الوقت الحالي، يبدو أن الجاكسونيين قد ثبتت وجهة نظرهم. فوقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل صامد، والولايات المتحدة تجنبت تنفيذ ضربات إضافية، ولم يتحقق أسوأ سيناريو، وهو تورط الولايات المتحدة مجدداً في حرب عبثية بالشرق الأوسط بينما تواصل الصين صعودها الحتمي. نائب الرئيس ج. د. فانس أشاد بهذا "العقيدة الجديدة للسياسة الخارجية" التي تركز على "المصلحة الأميركية الواضحة" وتجنب "الصراعات الممتدة".

ومع أن توازن ترامب بين التدخل وضبط النفس يبدو ناجحاً، علينا أيضاً أن نفهم حدود المقاربة الجاكسونية للعالم. فالضربات الجراحية والتدخلات المحدودة قد تكون مفضلة على عقود من بناء الدول والحروب الدائمة، لكنها تنطوي على مخاطر خاصة بها.

فأولاً، نادراً ما تحل الضربات الجراحية المسألة الجوهرية في أي نزاع دولي. قد تكون عملية "براينغ مانتيس" التي شنها ريغان قد دمرت البحرية الإيرانية، لكنها لم تفعل شيئاً لحل التوتر بين الولايات المتحدة وإيران. والضربات الموجهة ضد قادة إرهابيين قد تقتل الشخص المستهدف، لكنها لا تفعل الكثير للنيل من نفوذهم السياسي أو الأيديولوجي.

استراتيجية إسرائيل في "جز العشب" سيئة السمعة في هذا الصدد، إذ تسمح لها بالسيطرة على التهديدات ضد سكانها من الجماعات المسلحة من دون تقديم تنازلات دبلوماسية للفلسطينيين أو للدول المجاورة. لكن يجب جزّ العشب بانتظام كي لا يعلو كثيراً، ولهذا السبب وجدت إسرائيل نفسها -نتيجة لهذا الخيار الاستراتيجي- مضطرة للتدخل في لبنان وسوريا وغزة عدة مرات خلال العقد الأخير وحده. فالضربات "الواحدة وانتهينا" نادراً ما تكون كذلك فعلاً.

تشير المعلومات الاستخباراتية بالفعل إلى أن الضرر الذي لحق ببرنامج إيران النووي قد يكون أقل مما افترض، وربما بقيت أجهزة الطرد المركزي ومخزونات اليورانيوم المخصب دون مساس. وحتى لو كانت التقديرات المتفائلة للإدارة صحيحة، فإن غياب الدبلوماسية اللاحقة لتأمين البرنامج الإيراني يعني أن ترامب أو خليفته سيجد نفسه في الموقع ذاته مجدداً خلال بضع سنوات.

أما المجموعة الثانية من المشكلات المرتبطة بالضربات الجاكسونية فتتعلق بالتحكم في التصعيد. فالكثير يتوقف على رد فعل الخصم. هناك نكتة مرحة انتشرت على منصة "إكس" بعد القصف، وهي صورة لميم تسخر من منشور ترامب وتنسبه إلى الإمبراطور هيروهيتو بعد بيرل هاربر، مختتماً بعبارة "الآن وقت السلام" على طريقة ترامب.

تلك النكتة تلخص تماماً عبثية الدعوة إلى السلام بعد إسقاط القنابل مباشرة؛ فلا شيء على وجه الأرض كان ليجعل الأميركيين يقبلون بالدبلوماسية والسلام في الأيام والأسابيع التي أعقبت بيرل هاربر.

هذه المرة، كانت إيران قد أُضعفت بشدة بفعل أسابيع من الضربات الإسرائيلية، فكانت عاجزة إلى حد كبير عن الرد على الولايات المتحدة، باستثناء ضربات رمزية. تخيل لو كانت قادرة على الرد بقوة ساحقة، أو حتى لو أن ردها الرمزي انقلب كارثياً وأدى إلى مقتل جنود أميركيين. أو تخيل أن ضربات الولايات المتحدة على المنشآت النووية، بالتوازي مع التحركات الإسرائيلية، قد نجحت بشكل غير متوقع في إسقاط الحكومة الإيرانية. حينها، كانت موجات اللاجئين والفوضى التي اجتاحت أجزاء من شمال أفريقيا والشرق الأوسط بعد ليبيا والعراق ستبدو ضئيلة مقارنة بتداعيات تغيير نظام غير مقصود في إيران، البلد الذي يضم أكثر من 90 مليون نسمة.

وربما تكون أسوأ مشكلات الضربات الجاكسونية من هذا النوع أن النصر قد يولّد ثقة مفرطة. فمن السهل جداً على صانعي السياسات والجمهور على حد سواء أن يروا نجاحاً عسكرياً ويدفعوا نحو المزيد. وقد استقبلت وسائل الإعلام المحافظة، وعلى رأسها فوكس نيوز، ضربات ترامب لإيران بمديح بالغ. وقد يتطلب الأمر صانع سياسة منضبطاً بحقّ كي يقاوم إغراء مزيد من التدخل في مثل هذا الجو. ولا حاجة للقول إن "منضبطاً بحق" ليست عبارة تُستخدم عادةً لوصف الرئيس السابع والأربعين، ولا قاعدته الشعبوية الجاكسونية.

لذا، فإن الخطر حقيقي بأن تؤدي النجاحات الظاهرة في الأسابيع الماضية إلى قرارات سيئة في المستقبل. وعندما يحين وقت اتخاذ خطوات قادمة، قد يكتفي الكونغرس والإعلام بتذكير الرئيس بنجاحه الساحق ضد برنامج إيران النووي. وقد سمح له النهج الجاكسوني الذي اتبعه بتحدي كلٍّ من الصقور والحمائم لإيجاد وسط بين التدخل المطلق والامتناع الكامل. لكن من غير المرجّح أن تنجح هذه المقاربة في كل مرة.

* إيما آشفورد، كاتبة عمود في مجلة فورين بوليسي وزميلة أولى في برنامج "إعادة تصوّر الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة" في مركز ستيمسون، وأستاذة مساعدة ملحقة في جامعة جورجتاون، ومؤلفة كتاب النفط، الدولة، والحرب.

https://foreignpolicy.com/

ذات صلة

دور النهضة الحسينية في إعادة تعريف العلاقة بين الحاكم والمحكومضعف الثقة الشعبية في الانتخابات النيابية: نظرة تحليليةعاشوراء: أيقونة الثورة ومثابة الثوارتوم برّاك إذ يفتح النار على سايكس- بيكو وينافح عن بلاد الشامالقُوَّة