الصياغة الجديدة لميزان القوى في المنطقة
ابراهيم العبادي
2025-07-15 05:06
كان المشهد رمزيا لافتا، حينما اصطف عشرات من مقاتلي حزب العمال الكردستاني (PKK) في مسرح معد بعناية غربي مدينة السليمانية، ليقوموا أمام الكاميرات بإلقاء أسلحتهم في حوض معدني تتأجج فيه النيران، بدا المشهد أقرب إلى “مراسيم إنهاء صراع”، لا مجرد استعراض إعلامي. تركيا، التي خاضت مع هذا التنظيم المسلح حرب استنزاف دامت أكثر من أربعة عقود، وجدت نفسها أخيرًا في موقع “المنتصر”، وقد حققت أحد أهدافها الاستراتيجية الكبرى المتمثل في تحييد تهديد داخلي مزمن.
يتزامن هذا الإنجاز مع انعطافة تركية كبرى في الحضور الإقليمي، حيث أخذت أنقرة تعزز موقعها في ضفتي المتوسط، وتوسّع نطاق نفوذها في القوقاز وآسيا الوسطى وأفريقيا، وتضطلع بدور فاعل في التوازنات السياسية العربية، خاصة بعد تراجع محور “الممانعة” بقيادة إيران، إثر سلسلة من الضربات الأمنية والعسكرية.
في هذا السياق، يبدو أن تركيا تقترب من تحقيق حلمها الاستراتيجي الطويل: بناء عمق جيوسياسي واسع، يمتد عبر مناطق ناطقة بالتركية وأخرى عربية، يمثل مجالًا حيويًا اقتصاديًا وأمنيًا وثقافيًا، يحقق لأنقرة موقع القيادة الإقليمية. هذه الرؤية تتقاطع مع مفاهيم “الواقعية الجديدة” التي تنظر إلى النظام الدولي بوصفه ساحة تتنافس فيها الدول وفق ميزان قوى يتحدد بالموقع الجيوسياسي والإمكانات العسكرية والتفوق الاقتصادي والتكنولوجي.
منذ عام 2023، يشهد النظام الإقليمي تحولات جذرية. فالدور الإيراني انتكس بصورة ملحوظة بفعل ضربات نوعية استهدفت البنية الأمنية والعسكرية لطهران، وأفقدتها زمام المبادرة في ساحات نفوذها التقليدية. في المقابل، واصلت إسرائيل صعودها المتسارع بدعم مباشر من الولايات المتحدة، فيما اختارت السعودية مسار التحول الاقتصادي والانكفاء الاستراتيجي، ضمن رؤية تقوم على تقليل المخاطر وتعظيم المكاسب.
في ضوء هذا المشهد، يمكن القول إننا أمام إعادة صياغة لميزان القوى في الشرق الأوسط. تتقدم إسرائيل، وتركيا، والسعودية كمثلث إقليمي مؤثر، يشكّل في حقيقته تحالفًا غير معلن يقوم على توازن مصالح وليس بالضرورة على وحدة المواقف السياسية.
هذا التكوين الجديد لا يُبنى على مفاهيم القوة التقليدية فقط، بل يعتمد على “مركب القوة” الذي يشمل، إلى جانب القدرات العسكرية، عناصر الاقتصاد والتكنولوجيا والتأثير السياسي والدبلوماسي. ان المفهوم الجديد للأمن الإقليمي لم يعد يقوم على توازن الردع، بل على “القوة التي تفرض السلام” وفق تعبير منظّري الواقعية البنيوية.
فالدولة أو الكيان الذي يملك تفوقًا تقنيًا وعسكريًا واقتصاديًا قادر على فرض قواعد اللعبة، وتحديد شكل النظام الإقليمي. إسرائيل، اليوم، تستفيد من هذا التحول لتكريس تفوقها الإقليمي، مستخدمة خطابًا جديدًا يخلط بين الأمن والدين والقومية والابتكار، وتعمل على “تطويع” الأطراف العربية نحو نموذج سلام قائم على الهيمنة لا الشراكة أو المقبولية.
في الوقت ذاته، تبرز تركيا كفاعل قوي، لكنه مثقل بتاريخ مثير للريبة لدى شعوب المنطقة، ولا سيما العرب الذين لم ينسوا ميراث السلطنة العثمانية، رغم المشتركات الدينية والمذهبية. المفارقة أن أنقرة تحظى بقبول نسبي في الشارع السني، بسبب تراجع الخيارات الأخرى، وغياب قوى عربية محورية قادرة على ملء الفراغ .تكمن المشكلة في أن هذا التكوين الجديد لا يعبّر عن إرادة شعوب المنطقة بقدر ما يعكس ترتيبات فرضتها موازين القوة.
فمع تراجع فاعلية الفواعل غير الدولتية (كحزب الله والحوثيين والفصائل)، وتضعضع التحالفات العقائدية، تحوّل الإقليم إلى ساحة تنافس بين القوى الصاعدة، التي تسعى لفرض نموذجها أو تأمين مصالحها، بغض النظر عن تطلعات المجتمعات المحلية.تفتقر هذه التوازنات الجديدة إلى عنصر التوازن الداخلي؛ إذ تُركّز على إرساء استقرار هش، قائم على نزع السلاح، وتطبيع العلاقات، وتحويل بوصلة الصراع من “القضية الفلسطينية” إلى “تهديد إيران”، ومن “حقوق الشعوب” إلى “استقرار الأنظمة”.
هذا ما تسعى إسرائيل لتكريسه ضمن استراتيجيتها طويلة المدى: تفكيك الصراع إلى ملفات طائفية وعرقية وإثنية، وتفريغ القضية الفلسطينية من بعدها القومي والديني، وتسويق مشروعها الإقليمي كضامن للاستقرار بالاعتماد على دعم اميركي غير مشروط .
تعبيرات مثل “محور الشر الشيعي” لم تعد محض تصريحات متطرفة، بل باتت تؤسس لسياسات عملية في ميادين الاقتصاد والتسليح والامن .
تقدم الواقعية الجديدة، ولا سيما أطروحات كينيث والتز، إطارًا تحليليًا مناسبًا لفهم هذا التحول. فالنظام الإقليمي في الشرق الأوسط يعيد إنتاج نفسه بفعل التحولات في توزيع القوة، لا وفق تحالفات أيديولوجية أو هوياتية. ومع تفكك بعض القوى الفاعلة، وظهور أخرى بمقومات متقدمة، يعاد رسم خرائط النفوذ من جديد.ووفقًا لهذا المنظور، فإن اللاعبين الإقليميين يتصرفون وفق منطق “البقاء في بيئة فوضوية”، حيث لا ضامن إلا القوة الذاتية، ولا استقرار إلا عبر الردع والتأثير. لذلك، فإن تقدم إسرائيل وتركيا والسعودية يعكس إعادة تموضع في النظام الإقليمي، وهو ليس نتيجة تواطؤ أو مؤامرة بقدر ما هو نتاج طبيعي لانهيار الموازين السابقة، وفشل المشاريع الايديولوجية .
يبقى التحدي الأكبر هو موقع العرب من هذه التحولات. فغياب مشروع عربي موحد، وافتقار الدول العربية إلى رؤية استراتيجية، يفتح الباب واسعًا أمام تفاعلات لا تملك فيها الدول العربية سوى خيار التكيف. فبينما تنهمك مصر في معالجة أزماتها الاقتصادية، وتنشغل دول الخليج بمشاريعها التنموية، يغيب عن الساحة الإقليمية “الفاعل العربي الموازن”، الذي يمكن أن يعيد تعريف الصراع ويطرح نموذجًا بديلًا.
نقطة الضعف الجوهرية في المشروع التركي، رغم تقدمه النسبي، هي أنه لم ينجح في طمأنة شعوب المنطقة بأنه شريك لا وصي. فالخطاب التركي، وإنْ كان جذابًا في مضامينه الإسلامية، إلا أنه يثير قلقًا متزايدًا من “النموذج المتعالي” الذي يسعى لفرض نفسه باعتباره الأخ الأكبر. وهذا ما يجعل فرص المشروع التركي محدودة في حال فشل في تطمين البيئة المحيطة وضمان عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.أما إسرائيل، فمأزقها الأكبر أنها، رغم تفوقها، لا تملك الشرعية الأخلاقية ولا الشعبية في الإقليم، ويعتمد بقاؤها على تحالفات خارجية وقوة ردع مؤقتة، لا يمكن أن تصمد أمام تغيرات كبرى في الوعي الجمعي العربي أو الإسلامي.
ما يجري اليوم في الشرق الأوسط هو إعادة هندسة لموازين القوى وفق منطق القوة الصلبة والمصالح المتغيرة. المنطقة مقبلة على نظام إقليمي جديد لا يستند إلى الشرعية ولا إلى التوافق بقدر ما ينبني على فرض المعادلات من الأعلى، بواسطة القوة والدبلوماسية المتحالفة، وبين انكفاء المشروع الإيراني وتحفظ السعودية وصعود تركيا وهيمنة إسرائيل، يتشكل شرق أوسط بملامح مختلفة، لا يعبر بالضرورة عن طموحات شعوبه، بل عن توازنات فرضها غياب البدائل.