الجغرافيا السياسية تحسم الانتصار: من حروب الأرض إلى معركة المضائق البحرية

د. مظهر محمد صالح

2025-07-12 05:31

1- تمهيد:

في عصر لا تُحسم فيه الحروب بالمدافع وحدها، تبقى المضائق البحرية "أوردة الأرض"، فمَن يسيطر عليها يكتب مسار التجارة والسياسة والحرب. فالجغرافيا، وإن بدت صامتة، تظل اللاعب الأساس في لعبة الأمم وحروبها.

في عالم متشابك تهيمن عليه التجارة البحرية والنفط والطاقة، أصبحت المضائق المائية نقاط ارتكاز أساسية في التنافس الجيوسياسي والصراع على النفوذ. فمَن يسيطر على هذه الممرات يملك مفاتيح الاقتصاد العالمي، ويمكنه أن يستخدمها كأداة ضغط أو وسيلة ردع استراتيجية، أو حتى كوسيلة لحسم الحروب دون إطلاق رصاصة الحسم قبل إعلان الفوز.

2- منذ العام 1948 وحتى 2025:

لم تكن نتائج الحروب تُحسم فقط بالسلاح، بل تُحسم في كثير من الأحيان عبر الجغرافيا السياسية. وإذا كانت إسرائيل قد فرضت واقعًا على (الأرض) في الاحتلالات والتوسع الجغرافي في كل حرب من حروبها القصيرة الأجل مع النظام الرسمي العربي، وتحديدًا في ثلاث حروب مركزية بين الأعوام 1948، 1967، 1973، فإن التغيير الحقيقي جاء وللمرة الأولى من حرب رسمية بينها وبين الجمهورية الإسلامية الإيرانية، حيث تحوّل ميدان الصراع القصير الأجل من التهديد باحتلال الأرض إلى سيادة الجو، لتحسمها في اللحظة الأخيرة. نُقِل ميدان عمليات الحرب الصاروخية الجوية إلى عسكرة مفاجئة لواحدة من أخطر الممرات المائية في العالم وأشدها حذرًا، وهو مضيق هرمز البحري.

3- الجيوبوليتيك البحري بدّل استراتيجية الرصاصة الأخيرة في احتلال الأرض:

بعبارة أخرى، تاريخيًا لم تُحسَم الحروب النظامية بين العرب وإسرائيل منذ العام 1948 بأي نتيجة تُجبر إسرائيل على التراجع، بل واصلت احتلال الأرض وتوسيع النفوذ. لكن مع اندلاع الصراع غير المباشر بينها وبين إيران، دخل عامل جديد قلَّب المعادلة، إذ قامت إيران بالتهديد بإغلاق مضيق هرمز، وهو شريان عالمي للطاقة.

فأرقام الحسم الجغرافي تُظهر أن هرمز هو مضيق الطاقة العالمية الذي جعل الصين تحديدًا تتحول إلى (وسيط خفي) تتسارع إليها الأمم عبر إثارة مصالحها في إيقاف الحرب، كونها المستورد والمنتفع الرئيس للنفط الخام، والمُشغِّل لعجلاتها الصناعية والطاقوية التي تمر تجهيزاتها عبر هرمز بنسبة تقارب 50% من أصل استيراداتها للنفط الخام البالغة 10 ملايين برميل نفط يوميًا. وهو الأمر الذي حوّل الصين من حليف خفي شبه استراتيجي لإيران إلى ضاغط لوقف الحرب، بانتصار الجغرافيا السياسية الإيرانية قبل أن تتوقف عجلات الصين بكونها مصنع العالم وآسيا كلها.

منوهين أن 20% من النفط العالمي، و30% من الغاز المسال، و45% من القيمة السوقية للطاقة المصدَّرة عالميًا، تمر عبر مضيق هرمز. حيث تستورد الصين يوميًا حوالي 5 ملايين برميل من النفط الخام من منطقة الخليج والشرق الأوسط. هذا ما يعكس اعتمادًا ذا أهمية على الممرات الاستراتيجية، ولا سيما مضيق هرمز، ما جعل الجغرافيا البحرية أداة ضغط فعّالة في السياسة الدولية، والجيوبوليتيك البحري بدل استراتيجية الرصاصة الأخيرة في احتلال الأرض.

وإن أي تهديد لهذا الممر (كالتهديد الإيراني بإغلاق هرمز في اليوم العاشر للحرب) عجّل وبشكل مباشر في مخاوف الاقتصاد الصيني، بكونه الاقتصاد الأول عالميًا في استيراد موارد الطاقة النفطية من منطقة الخليج عبر ممرها المائي، قبل أن تمتد آثار تلك الحرب نحو آسيا وعموم اقتصاد العولمة.

4- الاستنتاجات:

إن التهديد بغلق مضيق هرمز هو مَن أوقف الحرب للمرة الأولى في تاريخ حروب الشرق الأوسط، ولصالح طرف خصم لإسرائيل منذ العام 1948، بغية تقييم مَن هو المنتصر.

إذ جاء انتصار الجيوبوليتيك للممر المائي بضغط العولمة ومصالحها التجارية، بدلًا من تقاليد النصر في حروب إسرائيل القديمة القائمة على توسيع جغرافيتها الحدودية الأرضية مع محيطها الإقليمي العربي عند كل حرب توسعية خاطفة. إذ خسرت تل أبيب ورقة التفوق السياسي والعسكري بورقة احتلال الحدود والأراضي لدول الجوار المتحاربة والضم القسري لها، كما حصل في ثلاث حروب رسمية كبرى، لتجعل الحرب الصاروخية والجوية الأخيرة تدفع بالتحول في نمط الجغرافيا السياسية للإمساك بالممر المائي لاقتصاد العولمة بيد الخصم الجيوسياسي لإسرائيل، ذلك للمرة الأولى منذ العام 1948 في بلوغ معنى الانتصار بالحرب بين مفاتيح البحر المتوسط ومغالق الخليج العربي في هرمز.

وبهذا لم تعد القوة العسكرية وحدها كافية، فالانتصار الآن بات يُحسم بورقة الجغرافيا السياسية المائية بالرغم من استخدام الجو على نطاق واسع: فمَن يملك المضائق اليوم، والتحكم بالمعابر، والمنافذ البحرية، يملك قدرة وقف الحرب أو إشعالها في جغرافية سياسية شديدة التعقيد.

وفي هذا السياق، تكون إيران قد حققت أول انتصار استراتيجي غير مباشر على إسرائيل دون إطلاق الرصاصة الأخيرة أو الصاروخ الأخير، إذ كانت استراتيجية احتلال الأرض كشرط المنتصر الذي يوقف الحرب، كما فعلتها إسرائيل في حروبها التقليدية الرسمية مع البلدان العربية منذ العام 1948، قد انتهت، بعد أن استلزمت الحرب الجوية بالتحول حالًا عبر التحكم في نقطة اختناق بحرية جيو اقتصادية عالمية للطاقة والتجارة والنفوذ العسكري، بعد أن فرضت الممرات البحرية دورها للمرة الأولى كانتصار جغرافي من طعم ونمط آخر، مثلها الممر المائي الخطير لهرمز كورقة ذكية في اختبار توازن الردع والردع الصاروخي المتبادل.

وبهذا أصبحت المضائق المائية عنصرًا مركزيًا في معادلة الهيمنة الشرق أوسطية. فبينما تتغير توازنات القوى على اليابسة والجو، يبقى مَن يتحكم بالمصالح البحرية هو مَن يملك القدرة في التأثير على القرار السياسي والاقتصادي وعلى المستوى الإقليمي والدولي. إنها استراتيجية الهيمنة البحرية التي تصنع الفارق في معارك اليوم والغد.

5- ختامًا:

وبهذا حُسمت معركة الأيام الاثني عشر لمصلحة إيران، وعبر بوابات هرمز في اليوم العاشر للحرب الجوية المتبادلة بين الطرفين. حيث غدت المضائق ومرور المصالح الدولية الضّاغط الأكبر في رسم خرائط وقف الحرب وتحديد مَن هو المنتصر أو الفائز فيها بقوة الجغرافيا السياسية والاقتصادية قبل غيرها من عوامل القوة وأنماطها، ذلك في خضم فواعل باتت فيها بلدان محيط العالم تفرض توازن القوة الجغرافية السياسية البحرية في النظام السياسي والاقتصادي العالمي المركزي. إنها معادلة اختبرت فيها إسرائيل قدراتها وتحولها الصعب المتعثر والأوحد من (قطب مركزي مهيمن) على أرض الشرق الأوسط الجديد إلى (كيان محيطي) في النظام الإمبريالي العالمي في تقرير مناخات الحرب وقواعد الاشتباك.

ذات صلة

كيف تنال الحظ السعيد، وتحرز نصيبك من الدنيا؟دور مؤسسات المجتمع المدني في دعم وتعزيز حقوق الإنسانعندما يبقى جسد الإمام الحسين ثلاث أيام على أرض كربلاءغزة و-الثمرة المُرّة-توفير الماء والطعام.. جوهر العقد الاجتماعي