العنف الرمزي: مجالاته ومآلاته
د. لطيف القصاب
2024-10-26 04:09
العنف الرمزي هو مصطلح صاغه عالم الاجتماع الفرنسي البارز بيير بورديو، ويصف نوعا من العنف غير الجسدي يتجلى في فرق القوة بين الفئات الاجتماعية، ويرتكز هذا العنف على فرض معايير المجموعة الأكبر من حيث القوة الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية على معايير المجموعات الأضعف، وبعبارة أخرى فإن العنف الرمزي هو ممارسة فوقية لفئة ضد أخرى تُعزز الفوارق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بين الجماعات الإنسانية المختلفة.
وذلك حين تُفرض نماذج (ثقافية) معينة، وتوسم هذه النماذج بالرفعة أو المقبولية في حين تُستبعد نماذج أخرى بدعوى انحطاطها أو مخالفتها لشروط القبول، والغاية التي يسعى لتحقيقها الممارسون لضروب هذا العنف -سواء أعلموا بذلك أم لم يعلموا- هو تحقيق (مبدأ عدم المساواة)...
يرى بيير بورديو أن اللغة تمثل آلية للسلطة تعكس وتعزز التسلسل الهرمي الاجتماعي، بمعنى مسؤوليتها عن إيجاد التقاطع الطبقي بين المتحدثين المختلفين لغويا، ويمكن أن يسلك هذا العنف سلوكا استهزائيا من طريقة حديث مجموعة معينة من الناس قصد إشعارهم بالدونية سواء أحدث هذا السلوك من ناطقين بلغة ما ضد لغة أخرى أم كان في نطاق لغة واحدة ذات لهجات متعددة؛ والنتيجة المترتبة على هذا السلوك تنقسم إلى ردتي فعل مختلفين: الأول يتمثل بتمسك أصحاب اللغات أو اللهجات المتهكم بها بلغاتهم أو لهجاتهم بصرف النظر عما يدفعونه من أثمان باهظة؛ إذ قد ينتقل الموقف في بعض اللغات التي يصر الناطقون بها على تداولها من منطقة العنف الرمزي إلى العنف السافر كما هو الحاصل في دول معينة تقوم بممارسة الاضطهاد اللغوي ضد قسم من مواطنيها، وأبرز مثالين معاصرين لهذا الاضطهاد هما الإيغور في الصين والكرد في تركيا.
أما ردة الفعل الأخرى فتتمثل بقرار التخلي عن اللغة أو اللهجة المتحيّز ضدها، وفي هذا الساق كثيرا ما يُنظر في أجزاء من العالم العربي إلى اللهجات المغايرة للهجة العاصمة بوصفها غير ملائمة أو غير مناسبة، مما يؤدي بأصحابها إلى الإحجام عن استخدامها، ومع هذا الإحجام تتولد في نفوس كثير من هؤلاء مشاعر كراهية مضمرة، فعندما يتم الحط من قيمة لهجة معينة يتصور المتحدثون بها غالبا بأنهم غير مرغوب بهم، ومن آثار هذا التصور الإسهام في تعزيز شعور الانقسام بين الجماعات المختلفة، وخلق بيئة من التوجس والريبة بين المواطنين، وحال كهذا لا يقف عند تخوم الدول العربية أو ما يناظرها من حيث معدلات التخلف والتقدم، وبحسب الكاتب الفرنسي (رينيه جادوا) فإن الجنوبيين واللاتينيين والأمريكيين من أصل أفريقي وغيرهم ممن يعيشون في الولايات المتحدة الأمريكية يبذلون جهدا جهيدا لتغيير لهجاتهم يصل لدى بعضهم إلى حدّ الاضطرار لإجراء جراحات تجميلية!
ومع أن النظر إلى لهجات بعينها بوصفها أقل قيمة أو رقيًا من غيرها في البلد الواحد ليس له أساس لغوي أو داع منطقي مقبول، ولكنه ينشأ عادة من هيمنة سياسية (مريضة) تقوم بتوظيف بعض موارد الدولة لصالح إحداث فرقة أهلية أو مجتمعية، وقد شهد العراق مثلا في النظام السابق انتاج بعض الأعمال الفنية الشهيرة عمدت إلى تصوير قسم كبير من سكان البلاد بصورة مسيئة، وكان حجر الزاوية في تشكيل تلك الصورة المسيئة مستندًا إلى ما يتحدثونه من لهجات...
ويظهر العنف الرمزي عبر مجالات اجتماعية أخرى مختلفة عدا ما ذُكر آنفا مثل الهوية الدينية في بعض السياقات كما سنشير إلى ذلك لاحقًا، أو الهوية الجنسية، وذلك حينما توضع تراتبية بين الذكر والإنثى على أسس جزافية، أو الهوية العرقية فيكون العنف الرمزي هنا سببا مباشرا في تشويه معالم الهوية العرقية المستهدفة أو الحيلولة دون تطويرها تطويرا إيجابيا، أو تقويضها، وكل ذلك أو بعضه يؤدي في نهاية المطاف إلى تجريد الأفراد المنتمين إلى هذه الجماعة العرقية أو تلك من إحساسهم بالكرامة والانتماء،ويخلق لديهم مشاعر الحقد والضغينة التي قد تتجلى بصيغ انتقامية إذا توفرت لها ظروف مناسبة.
وقد أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة وسيطا مفضلا لدى كثير من الجماعات التي يستهويها هذا النوع من العنف، وغالبا ما تكون الوسيلة الرئيسية لإشعال نيران العنف الرمزي عبارة عن رسائل تصيّد سواء أكانت تلك الرسائل نصوصا أو صورا أو مقاطع تحمل مضامين عدائية وتعمد على استفزاز ضحاياها لتقوم هذه الضحايا بردود غاضبة ولتبدأ بعدها دورة الردود والردود المضادة التي تنتهي في غالب الأحيان إلى إثارة الفتن، وتأجيج العداوات، ويمكن ملاحظة هذه الظاهرة بوضوح تام عندما تُنتهك هوية دينية لبعض الجماعات عبر إرسال رسائل تصيّد واستفزاز مستغلة توقيتات معينة تمثّل للفئات المستهدفة عادةً مناسبات مقدسة أو خاصة.
إن ممارسة العنف الرمزي بأي صورة من الصور التي أتينا على ذكرها في السطور السابقة قد يتحول في أي لحظة من لحظات التاريخ إلى عنف دموي يطيح بالنسيج العام للمجتمعات مرة واحدة، ومع هذا الاحتمال الخطير يجب الانصياع إلى فكرة القبول بالتنوع الإنساني في مظاهرها جميعها سواء ما كان يتعلق منها بالجوانب البايلوجية أو الجوانب العرقية والثقافية؛ لأن في تعميم هذه الفكرة السلمية، والعمل على انتشارها، وتوسيع دوائرها ضمانا أكيدا لخلق مجتمعات أكثر تلاحمًا وانسجامًا.