العدالة الاجتماعية مظاهر الحضور والغياب

د. لطيف القصاب

2024-10-07 06:46

على الرغم من أن مصطلح العدالة الاجتماعية يعد مفهوما متعدد الأوجه لكن يمكن الإتيان بتعريف له بوجه عام لا يخرج عن دائرة التوزيع العادل والمنصف للموارد والفرص بين عموم أفراد المجتمع داخل الدولة بمعنى أن جميع الأفراد يجب أن يتمتعوا بالمساواة في الوصول إلى الثروة والصحة والرفاهية والعدالة والامتيازات والفرص الحياتية المختلفة بغض النظر عن ظروفهم القانونية أو السياسية أو الاقتصادية أو غيرها.

والملاحظة الرئيسية التي تبدو على هذا التعريف هو إغراقه في المثالية العالية لاسيما في نطاق كثير من دول العالم ومنها العراق بطبيعة الحال، لاسيما إذا أخذنا بنظر الاعتبار انتشار مظاهر المحاصصة السياسية التي تلقي بظلالها القاتمة على واقع العدالة الاجتماعية في البلد فضلا عن ترسخ قاعدة الإفلات من العقاب في صفوف المنتمين إلى أحزاب سياسية نافذة.

العدالة الاجتماعية: البداية والأهمية 

لقد ظهر مفهوم العدالة الاجتماعية في المجتمع الغربي خلال الثورة الصناعية والثورات المدنية اللاحقة بوصفه مضادا للتفاوت الشاسع في الثروة ورأس المال الاجتماعي. وقد تم استخدام المصطلح لأول مرة من طرف عالم اللاهوت لويجي تاباريلي في منتصف القرن التاسع عشر متأثرا بتعاليم الفيلسوف توماس الأكويني. وفي مراحل لاحقة تطور المفهوم وتوسع ليشمل قضايا أخرى مثل العدالة البيئية والإنصاف الصحي وحقوق الإنسان.

وتكمن أهمية العدالة الاجتماعية في كونها تمثل ركيزة أساسية للتنمية المستدامة، حيث تساهم في تحقيق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. فحين يستشعر الأفراد بحضور العدالة الاجتماعية على أرض الواقع وأن لديهم فرصاً متساوية، يتزايد إحساسهم بالانتماء والمشاركة الإيجابية في المجتمع، والعكس من ذلك يؤدي بهم إلى الإنزواء والانعزال، وانتفاء الرغبة في المشاركة الإيجابية ، وقد يصل بهم أو ببعضهم إلى حدّ الاستعداد للعمل بالضد من تطلعات مجتمعاتهم، وربما الانخراط في جبهات معادية لأوطانهم لا قدر الله . علاوة على ذلك، يساعد حضور العدالة الاجتماعية في تقليل مستويات الجريمة والعنف الاجتماعي . إذ إن المجتمعات التي تغيب عنها أنوار العدالة الاجتماعية وتعاني من الفقر والتمييز الاجتماعي غالباً ما تواجه معدلات أعلى من الجريمة قياسا بالمجتمعات التي تتيح للأفراد الفرص المتساوية لتحقيق طموحاتهم الشخصية المشروعة .

التحديات التي تواجه العدالة الاجتماعية

رغم أهمية العدالة الاجتماعية، فإنها تواجه العديد من التحديات. من أبرزها الفقر، وشيوع البطالة كما أشرنا لذلك آنفا، والفقر والبطالة يجسدان الداء الوبيل الذي ما يزال يؤثر على ملايين الأشخاص حول العالم، كما أن التمييز القائم على العرق أو الجنس أو الدين يظل من أكبر العقبات أمام تحقيق العدالة الاجتماعية. بالإضافة إلى ذلك، تؤدي السياسات الحكومية دوراً حاسماً في تعزيز أو تقويض العدالة الاجتماعية. فبعض السياسات قد تساهم في تعزيز التفاوت الطبقي بين الناس بينما تنحو سياسات أخرى إلى خلق بيئة مواتية لتحقيق العدالة، وجعل مظاهرها حاضرة في الواقع العام لبلدانها .فالحكومات التي تبني سياسات تعزز من المساواة وتوفر الفرص للجميع، وفي مقدمة ذلك التكافؤ في نيل الحقوق السياسية، والمساواة أمام القانون، وجعل التعليم المجاني والرعاية الصحية الشاملة من جملة الحقوق الأساسية للمواطنين كافة تسهم هذه الحكومات في تثبيت ركائز العدالة الاجتماعية بخلاف الحكومات التي لا يتيسر فيها نيل الحقوق السياسية إلا لفئات بعينها، وتفعل (قواعد) الاستثناء وعوامل المحاباة في الحطّ من قيمة خضوع الكافة لحكم القانون، كما تجعل من التعليم والصحة متاحين للأغنياء فحسب وهو الحال الذي يُرى واضحا في سياسات الحكومات العراقية المتعاقبة التي جعلت من التعليم الخاص أو الأهلي بشكل أو بآخر خيارا لا غنى عنه بالنسبة لقسم كبير من الأسر العراقية، وهو الخيار الذي يستنزف دخول المواطنين لاسيما ذوي الدخل المتوسط، والأمر ذاته ينطبق على النظام الصحي الذي تتسيده لدينا المستشفيات الأهلية التي لا يفكر بالاقتراب من أسوارها عادة إلا المترفون وأصحاب الدخول العالية.

مقاربات وتوصيات

إن التحديات التي ذُكرت في المقطع السابق تستدعي العمل الحثيث في مسألة تحويلها إلى فرص، بمعنى ان تكون هذه التحديات وما شاكلها حاضرة دائما في الحقول المعرفية الرئيسية للبلد لاسيما المؤسسات الاكاديمية بغية اجتثاث أضرارها أو تقليصها إلى أدنى حد ممكن ، وهذا يستلزم وجود تعاون وثيق بين تلك المؤسسات وسلطتي الإعلام ومنظمات المجتمع المدني اللتين تقع عليهما مسؤولية التنبيه العام إلى آثار التفاوت التعليمي والرعاية الصحية بين عموم أفراد المجتمع، ومساءلة القائمين على ترسيخ هذا التفاوت من الناحيتين السياسية والقانونية وذلك من خلال تسليط الضوء على الظواهر السلبية التي تفتك بأوصال أبناء المجتمع جراء شيوع ذلك التفاوت في صفوف الغالبية المحرومة من الحدود الدنيا من معدلات العدالة الاجتماعية.

في ختام النقاش حول حضور مظاهر العدالة الاجتماعية في المجتمع العراقي، وغيابها عنه، يظهر بوضوح أن الطريق لتحقيق العدالة الاجتماعية مازال مليئًا بالتحديات نظرا لزيادة معدلات الفقر والبطالة في صفوف شرائح واسعة من المجتمع، وعلى الرغم من وجود جهود حكومية لتحقيق قدر معقول من المساواة والعدالة فإن هناك نقصًا واضحًا في تطبيق القوانين بشكل متساوٍ وضمان حقوق الأفراد بلا تمييز، ويبقى الأمل معقودا على العمل المشترك بين سلطات المجتمع المدني والإعلام في ممارسة ضغوط على أصحاب القرار لتعزيز ثقافة العدالة والمساواة، وجعلها واقعا ملموسا، وتحقيق تقدم حقيقي نحو مجتمع أكثر عدالة وتضامنًا.

ذات صلة

مركز الامام الشيرازي ناقش.. التفكير الانفعالي ومخاطر التضليل الجمعيأين نحن في ساحة الحرب بين ايران واسرائيل؟ما يزال من الممكن وقف حرب أوسع نطاقاً في الشرق الأوسطماذا كسب المسلمون من تقدم العالم؟صدام الحضارات ونزاع الثقافات في الشرق الاوسط