نسبية الحقيقة في الهرمينوطيقا ونقد السيد مرتضى الشيرازي
د. خالد عبد النبي عيدان الأسدي
2024-09-04 04:46
توطئة
ذكرنا في المقال الأوَّل مفهوم الهيرمينوطيقا وجذورها التاريخية وذكرنا أبرز المناهج التي اتبعها الهرمينوطيقيون، والفرق بينها وبين القراءة الجديدة، ومنها دخلنا إلى الأسس الأولى التي وضعها السيد الشيرازي لتطبيق الهرمينوطيقا، فقد وضع السيد الشيرازي محطَّات عدَّة، ولكلِّ محطَّة كانت لها أسس خاصة، فكانت المحطَّة الأولى (نسبية الحقيقة) ولنسبية الحقيقة أسس خاصة؛ كما جاءت في المقال الأوَّل:
أوَّلا: الأسس المنهجية لنسبية الحقيقة: وتكلمنا هناك عن نسبية الحقيقة، وأرجئنا تكملة هذه الأسس في هذا المقال، فيجب الإحاطة بجميع أسس المحطَّة الأولى ومنها ننتقل إلى بيان أسس المحطَّة الثانية.
- آراء الهرمينوطيقيين في نسبية الحقيقة وماهيَّتها: ذكر علماء الهرمينوطيقا الحقيقة بحسب اتجاهاتهم ومشاربهم، لذا سنذكرهم بحسب اتجاهاتهم:
1- الحقيقة عند علماء الاجتماع: ذكر الهرمينوطيقيين آراءً عدَّة في مفهوم الحقيقة، قال أُوجست كُنت: ((الحقيقة عبارة عن الفكرة التي تتفق عليها جميع الأذهان في زمان واحد... الحقيقة ليست سوى ذلك))، فقد حصر الحقيقة بالفكرة المتفق عليها بين جميع الأذهان، وهذا حصر خاص جدَّاً، وإلى هذا المعنى ذهب (فيلسين شاله) وغيره.
فردَّ عليهما السيد الشيرازي بقوله: ((...لا يمكن اتفاق كل الأذهان؛ بما فيها العالية منها كالأنبياء والرسل، على الباطل، ولأنَّه مقتضى برهان (اللطف)، وهو ما يرشد إليه مبحث (المستقلَّات العقلية)، ولأنَّه مقتضى (الاستقراء التام)، بل يكفي فيه (الاستقراء المعلل)، لغير ذلك))، فقد نظر السيد الشيرازي إلى تعريف (كُنت) على أنَّه ينبثق من الاستقراء الناقص وعدم الإحاطة بالمفهوم التام للحقيقة، لذا كان يُشير إلى خصوصة الحقيقة بالفكر بناحية من الانحاء وليس بجميعها.
2- الحقيقة عند علماء البراغماتية: المعروف عن البراغماتية أنَّها تعتمد على النفعية وتميل إلى الحسيَّات من العلوم، لذلك تجد اتجاهاتهم تميل إلى المحسوسات.
قال وليم جمس في مفهوم الحقيقة والقول الحق: ((هو ما له تأثير نافع على الأمر الموجود بالفعل، إذن: القول حقُّ لأنَّ له ثمرة صالحة، لا أن له نتيجة صحيحة لأنَّه حق))، وعند البراغماتيين: ((هي الفكرة الناجحة أو النافعة، التي تحققها التجربة، وترتد على صاحبها بالمنفعة))، فقد خصص البراغماتيون الحقيقة بنفعيتها في مخرجات التجربة.
3- الحقيقة عند الفلاسفة: وضع الفلاسفة يدهم على مفهوم الحقيقة من وجهة نظر فلسفية، فقال بعضهم: ((الحقيقة تعني الفكرة الناتجة من مواجهة الحواس للمادة، الخارجية، ومماستها لها، فكل ما ينتج عن هذا التماس فهو حقيقة، فهذا ماء بارد وحار معاً، وكلاهما حقيقة، لأنَّ الأول وضع يده فيه فوجده بارداً بعد إذ كانت يده في ماء حار، والآخر وجده حاراً بعد إن كانت يده في ماء بارد جداً))، فهي مُخصَّصة بمستخرجات النتيجة لا في الحقيقة ذاتها.
وقال بعض منهم: ((الحقيقة هي الفكر الذي يصل إليه الإنسان عن طريق علمي)).
ومنهم مَن قال: ((الحقيقة هي الفكرة التي يذعن بها الذهن بيسر وسهولة)).
وكلا القولين ينظران إلى النتيجة لا إلى الشيء قبل التجربة، فالحقيقة عندهم هي النتيجة التي تخرج من الشيء بعد إخضاعه للتجربة، بشرط أن تقر في الذهن ويُذعن لها.
يقدِّم السيد الشيرازي تقييماً لهذه التعريفات التي شطَّت بين العلماء، فيقول: ((ظهر بما سبق أنَّ كل هذه التفسيرات، هي تفسير بالأخص، فإنّ الحقائق لا تنحصر بــ(النافع)، بل تشمل غير النافع، بل والضار أيضاً، إذ أليست النار المحرقة حقيقة؟، وهي أعم مما يصل إليه الإنسان عن طريق التجربة أو الطرق العلمية، إذ تشمل ما لم يصل إليه الإنسان أبداً، مما هو متحقق في متن الواقع وإن لم نعلم عنه شيئاً)) لأنَّ علمنا في الأشياء محدود جدّاً.
وهن التعريفات في نسبية الحقيقة
وضع السيد الشيرازي يده على ضعف ووهن التعريفات التي جاءت عن علماء الاجتماع وعلماء البراغماتية والفلاسفة فقال: ((إنَّ هذه التعريفات تعاني من نقاط ضعف وإشكالات عديدة نُشير لبعضها فقط:
1- ليست كل فكرة نافعة لصاحبها حقيقة: بل قد تكون باطلا وظلماً وعدواناً، أو قد تكون تخيلات وأوهاماً...
2- ليس كل ما اتصف بصفتين متضادتين متصفاً به من جهة واحدة، وليس الموضوع حقيقة واحدة، بل هو في جوهره متعدد... والحاصل أنَّ الضدين (الحرارة والبرودة) لم يردا على موضوع واحد أبدا، إذ لا بدّ في الوحدة من تحقق الشروط المذكورة للتناقض.
3- لا يشترط في (القول الحق) أن يكون له تأثير، كما لا يشترط فيه أن يكون تأثيره بالفعل أو ان يكون تأثيره على الموجود بالفعل، بل يكتفي التأثير بالقوَّة القريبة من الفعل أو البعيدة، أو التأثير على الموجود بالقوة.
4- كثيراً ما يصح القول بـ(لأنَّه حق، كانت له نتيجة صحيحة)، بل هي قضية صادقة دوماً بما هي هي، وبنحو المقتضي))، في هذه النقاط أشار السيد الشيرازي إلى عدم تحقق تعريف الحقيقة في اتجاه ما، فكل الاتجاهات كانت تنظر إلى الحقيقة من جهة وإغفالها الجهات الأخرى للحقيقة مما نُسمِّيه (النظر للمسائل بأنبوب)، فالأنبوب يدعك تنظر للشيء من خلاله لجهة معيَّنة ويحجب عنك الجهات الأخرى.
ففي هذه النقاط أشار السيد الشيرازي إلى الجهات التي اختصَّ كل اتجاه بالنظر إليه دون ذكر ما دونه وما فوقه.
النقطة الأولى: نقض السيد الشيرازي قول الاتجاه الأول الخاص بالمنفعة، وهذا ما يجلب الباطل كالإبادة الجماعية من أجل البقاء، ومخرجات هذا الاتجاه تسيُّد شريعة الغاب على المجتمعات، فلأجل المنافع يحق للاستكبار التسلط بأي طريقة.
النقطة الثانية: الاتجاه الذي نظر إلى بيان الحقيقة بوساطة ضده، وهذا ما لم يتحقق فيه بيان الحقيقة لأنّ الضد لم يكن في جميع الأحوال مُشيراً إلى ضدِّه، ولم يكن الحق دائما في الضديِّة وهذا ما أشار إليه سماحة السيد الشيرازي.
النقطة الثالثة: لم يكن القول الحق مؤثراً دائماً لكونه حق، وهذا ما نجده في قوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ}{محمد/16}، فالمتكلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو معدن الحق، والكلام كلام الله تعالى (القران الكريم)، فلماذا لم يكن مؤثراً بهؤلاء الذين ران على قلوبهم؟!.
النقطة الرابعة: نسبية التحقيق في النتيجة الناتجة عن الفعل، رُبما انتصار ظالم، لا يمكن أن نقول لأنَّه على حق فقد انتصر، بهذا يتضح وهن هذه التعريفات مع اتجاهاتها، كما سنذكر المعرفة وماهيتها في المقال اللاحق بعون الله.