نفيُ الفلسفة ضربٌ من التفلسف
أ. د. عبد الجبار الرفاعي
2024-09-03 04:30
عمليةُ التفكير وظيفةُ العقل، العقلُ لا غير هو الحاكمُ على صوابِ أو خطأ نتائجِ أيِّ تفكير. لا العلم ولا الأدب ولا الفن يضع حدودًا للعقل، لا يضع الحدودَ للعقل إلا العقل، إن كانت للعقل حدود. أيةُ محاولةِ نفي للفلسفة تتضمن التدليلَ على حضورِ الفلسفة في النفي مثلما تحضر في الإثبات، نفيُ الفلسفة ضربٌ من التفلسف، الفلسفةُ لا تموت ولن تموت ما دام هناك إنسانٌ يتساءل الأسئلةَ الكبرى حول المبدأ والغاية والمصير، ولا يجد جوابًا نهائيًا لها.
إيقاعُ التقدّم المتسارع للذكاء الاصطناعي والروبوتات، والتكنولوجيات المتعدّدة التي تتحدث لغةَ الذكاء الاصطناعي وبرمجياته، والهندسة الجينيّة، وتكنولوجيا النانو، يخلقُ طورًا وجوديًّا بديلًا تعيد تكوينَه الأنماطُ المختلفة لصلاتِ الإنسان بالأشياء في المحيط الذي يعيش فيه، وصلاتِ الإنسان بالكائنات الحيّة المتنوعة في الطبيعة، وصلاتِ الإنسان بالإنسان.
ينتجُ التقدّمُ المتسارِع حالةَ لا يقين شاملة، تطول: القيمَ، والمعتقداتِ، والثقافاتِ، والاقتصاداتِ، والنظمَ السياسية، والسياساتِ المحليّة والإقليميّة، والعلاقاتِ الدوليّة، والعلاقاتِ الاجتماعيّة، وكلَّ شيء في حاضر الإنسان ومستقبله. كلّما تضخّم اللا يقينُ واتّسعت مدياتُه اتّسعَت الحاجةُ لحضورٍ فاعلٍ للعقل الفلسفي. الأسئلةُ الوجوديّة الكبرى، وأزماتُ العقل والروح والعاطفة ليست من اختصاص العلم، ولا تقع في فضاء المادة والتجربة.
التشديدُ على العلم، واختزالُ العقل والمعقولات والتفكير بحدوده، يشاكس العقلَ الفلسفي، وينتهي إلى افتقار العلم إلى إجاباتٍ لأسئلته الحائرة ومشكلاته العويصة، وكلّ ما لا يجد له حلًّا في فضائه وسياقاته وحدوده. تختنق المعرفةُ حين توضع في الفضاء الذي يخضع لحدود العلم الطبيعي ومجاله الحسّي خاصة، وحين تعتمد مقاييسَه وأدواته التجريبيّة ووسائله ومنطقه ولغته وأحكامه.
تلك هي أدلجة العلم عندما يتحول العلمُ إلى "أيديولوجيا علمويّة" تعطّل العقلَ الفلسفي. حدود العلم الطبيعي وحقله يتمثلان في كلّ شيء في الطبيعة والكون المادي، الفلسفة لا حدودَ لها، بوصفها فعلَ تفكير عقلي يتجاوز الظواهر للبحث في حقيقة العلم وماهية المعارف والموجودات.
الفيلسوف يجيب عن سؤالِ المبدأ والمصير، والحياة والموت، وغيرها من الأسئلة الوجوديّة الكبرى، ويجيب عن كلِّ سؤال خارج العلم بالمعنى التجريبي. لا نهاية للفلسفة، يظلّ الإنسانُ يتفلسف ما دامت الحياةُ والموت، وما دامت الأسئلةُ الوجوديّة التي لا تجيب عنها العلوم. العلم غير الميتافيزيقا، كلُّ سؤال وجواب ميتافيزيقي بالإثبات أو النفي هو تفلسف خارج حقل العلم. عندما يقدّم أحدُ علماء الطبيعيّة أجوبةً عقليّة للأسئلة الوجوديّة الكبرى، ينتقل تفكيرُه من حقل العلم إلى حقل الفلسفة بهذه الأجوبة.
يصعب جدًّا فهمُ الفلسفة الغربية الحديثة بعقليّة أرسطيّة، كلُّ محاولةٍ للفهم تفكّر في إطارٍ معرفي لا ينتمي لعالم مفاهيم الفلسفة الحديثة تفضي إلى نتائجَ تفرضها مقدماتٌ تصوريّة وبراهين وأشكال قياسات المنطق الأرسطي. وهو ما سقطتْ فيه محاولاتُ جماعة من المهتمين بهذه الفلسفة في معاهد التعليم الديني وغيرها من مؤسّسات التعليم التقليدي والحديث، ممن أتقنوا المنطقَ الأرسطي وتشبّع ذهنُهم بمقدّماته التصوريّة وبراهينِه وأشكالِ قياساته، وتمرّسوا في استعمالِ أدواتِه في محاججاتهم الفلسفيّة والكلاميّة والفقهيّة والأصوليّة. هناك خبراءُ ممن يمتلكون تكوينًا أكاديميًّا جادًّا في الفلسفة والمنطق الحديث، لديهم معرفةٌ جيدة باللغات الفرنسيّة والألمانيّة والإنجليزيّة، يتسيّدون المشهدَ الفلسفي في بعض البلدان العربيّة، ويحتفي بكتاباتهم الغزيرة جامعيون متديِّنون، غير أنّهم يتفلسفون على طريقة الغزالي وابن تيمية، فيقدّمون قراءاتٍ موهِمةً ومضلّلة للفلسفة الحديثة، تُلوّنها بألوان مشوّهة، وتُقَوِّلها ما لا تقول، القارئُ الخبير يدرك أنّهم يتفلسفون ضدَّ الفلسفة.