ريتشارد مورفي ومستقبل الشرق الاوسط
د. مظهر محمد صالح
2024-08-10 05:33
كان نهاية صيف العام 1989 مزدحماً باوقات مميزة في حياتي الاكاديمية، اذ تزامن تخرجي من جامعة ويلز في ابيرستويث وحصولي على شهادة الدكتوراه في الاقتصاد، مع فرصة الاستماع الى محاضرة سياسية كانت شديدة الحساسية عن الشرق الاوسط تحدث فيها ريتشارد مورفي مساعد وزير خارجية الولايات المتحدة الاسبق الذي تقاعد في العام نفسه، وناقش فيها قضايا عديدة تتعلق بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
ومن المعلوم ان ريتشارد مورفي دبلوماسي أميركي شغل منصبه لشؤون الشرق الاوسط في الفترة من 1983 إلى 1989 وادى خلال فترة عمله، دوراً بارزاً في صياغة وتنفيذ السياسة الخارجية للولايات المتحدة في منطقة شرق المتوسط، وشارك في مفاوضات دبلوماسية مهمة في المنطقة ابان الحرب العراقية الايرانية في ثمانينيات القرن الماضي. مورفي كان معروفًا أيضاً بخبرته العميقة في شؤون الشرق الأوسط والخليج وبقدرته على التعامل مع القضايا المعقدة والمتعددة الأوجه التي تواجه المنطقة.
وكانت محاضرة مورفي وقت ذاك جزءًا من سلسلة من المحاور التي ألقاها دبلوماسيون وخبراء في الشؤون الدولية بغية تقديم رؤى محددة حول القضايا الجيوسياسية المعقدة في ذلك الوقت على طلاب واساتذة الجامعات الاوروبية.
ما لفت نظري في تلك المحاضرة، القلق الشديد الذي ابداه مورفي من تعاظم القوة الصاروخية في منطقة الشرق الأوسط ولاسيما ابان الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988 .
اذ كان الاهتمام الدولي منصباً في تلك الفترة وبشكل لافت على كيفية منع انتشار الأسلحة والتكنولوجيا الصاروخية في المنطقة، حيث كانت هناك مخاوف من أن يؤدي ذلك إلى زعزعة الاستقرار الإقليمي وزيادة التوترات بين الدول ولاسيما تأثيره على الكيان الصهيوني.
فالعراق وإيران كانتا من الدول التي سعت إلى تطوير قدراتهما الصاروخية كجزء من الجهود العسكرية خلال الحرب، وهو ما أثار قلق الولايات المتحدة وحلفائها ولاسيما الكيان الغاصب.
ناقش مورفي في محاضرته مواضيع عدة بما في ذلك السياسات الاقليمية وتحديدا الديناميكيات السياسية في الشرق الأوسط، ومنها الصراع العربي مع الكيان المحتل، فضلاً عن العلاقات بين دول الخليج وايران في اعقاب انتهاء الحرب وقتها.
وكرر ريتشارد مورفي تركيزه عندما تناول مسالتي الامن والاستقرار في المنطقة… ليؤكد مراراً على التهديدات المترتبة على انتشار الأسلحة البالستية وتزايد القوة الصاروخية، خصوصًا في سياق الحرب العراقية الإيرانية. واوضح طبيعة الدبلوماسية الأميركية، مبيناً دور الولايات المتحدة (من وجهة نظره) في تعزيز ما اسماه بالاستقرار من خلال الدبلوماسية والتعاون مع الحلفاء الإقليميين والدوليين، فضلاً عن اشارته إلى التحديات التي تواجهها دول المنطقة من حيث التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وأهمية الإصلاحات لتحسين الظروف المعيشية للمواطنين كما نوه ذلك.
واليوم و بعد مرور 35 عاماً على تلك المحاضرة الجامعية لريتشارد مورفي والتي اطلق عنانها على شواطيء الباردة جداً للساحل الشرقي من البحر الايرلندي، فان سواحل ومياه الخليج والشرق الاوسط، ظلت في غليان محوره استلاب حقوق الشعب الفلسطيني في ارضه بدماء باردة خالية من الضمير الإنساني، وهيمنة الكيان الاسرائيلي واستدامة تسلحه الاستراتيجي لضمان تهديد عموم الشرق الاوسط بالتوسع والحرب.
ان انقلاب المعادلات الجيوستراتيجية التي تجسدها أركان المواجهة بين الجمهورية الإسلامية الايرانية والكيان الاسرائيلي، اخذت ترسم خرائط جديدة في تبدل ميزان القوة الاستراتيجية والتي فرضتها بلا شك التكنولوجيا الصاروخية الايرانية، وهي كانت واحدة من مخاوف ريتشارد مورفي المذكورة في محاضرته قبل اكثر من ثلاثة عقود، والتي اخذت تقلب موازين المواجهة والقوة في الشرق الاوسط كله.
إن من ادق ما قرات من رؤى بهذا الشأن هو ما تناوله المفكر السياسي ابراهيم العبادي في مقال مهم عنوانه: شرق اوسط محترق .اذ يؤشر العبادي تلك الانقلابات الجيو ستراتيجية التي كان ريتشارد مورفي يقلق منها في محاضرته، قائلاً: ((استخدمت اسرائيل استراتيجية الحفاظ على التفوق العسكري والتقني والعلمي ونفذت ذلك على الارض منذ عام 1948 ومازالت. بحصول متغيرات كبرى في الصراع القائم وانتقال زمام المبادرة في منتصف الثمانينات من ايدي القوى الوطنية والقومية الى القوى الاسلامية، صار الصراع يتلبس لباس الحضارة والدين، الاسلاميون يعتقدون ان العقيدة الصهيونية لا يواجه توسعها وعدوانها الا التعبئة الدينية والعقيدة الصهيونية تواصل منهج استثمار الدين ومفاهيم التوراة لحشد التأييد الغربي والاستماتة في الدفاع عن وجود اسرائيل وامنها حتى لو تمادت في حروب الابادة والاغتيالات وخرقت القوانين الانسانية، كون ذلك يرتبط بالدفاع عن المصالح الاستراتيجية العليا لدول الغرب سيما الولايات المتحدة )).
وبهذا فقد فرضت القوة البالستية الايرانية تحولات كبيرة لينتقل الصراع من الأيديولوجيا الامبريالية التي زرعت الكيان الاستيطاني بذرائع ديموغوغية قامت على تسخير العصبيات الدينية الصهيونية المنقرضة وبأسلوب سياسي اعتمد على استثارة العواطف والعصبيات والتحيزات الخالية من الحجة العقلانية أو البرهان المنطقي، لسلب حقوق الشعب الفلسطيني الجريح في ارضه ووطنه.
اذ تزاوجت العقائد الصهيونية المنقرضة حضاريا وتاريخيا بالتكنولوجيا العسكرية المتقدمة لفرض واقع قوامه اللعبة الصفرية لمصلحة اسرائيل وضمان الهيمنة والتوسع الامبريالي على فلسطين والشرق الاوسط.
ان موقف ايران في جبهة المواجهة الشرق اوسطية اليوم مع الكيان الاسرائيلي قد اخذت مساراً حقيقاً دقت ركائزه على مرتسم استراتيجي متحرك شديد الوضوح، انقلبت فيه طاولة المعادلة الجيوستراتيجية الشرق اوسطية صوب تفكيك المعادلة الصفرية الاسرائيلية، قوامها بلا شك ركني مواجهة: العقيدة الدينية الاسلامية كإيديولوجية وطنية في مواجهة العقيدة الدينية الاستيطانية، وكذلك نشوء وتطور القوة البالستية في مواجهة مثيلاتها في المصنع الامبريالي ويأتي ذلك لإحلال نمط من انماط توازن القوة الاقليمية ومواجهة زحف النفوذ الاستعماري الطامع وايقاف تقلبه على المسالك الرخوة في منطقة مشتعلة من العالم اسمها شرق المتوسط .