أزمة المجتمع العربي في غياب الديموقراطية.. محاولة تفكيك بنية الجماعة

عقيل يوسف عيدان

2024-06-20 04:36

في تاريخ الجماعات والمجتمعات البشرية مَيْل إلى التوحّد نحو الداخل عندما تشعر الجماعة أن خطراً ما يُداهمها، فيتناسى أفراد الجماعة ما بينهم من خلافات شخصية حفظاً للذات وللدَيمومة الاجتماعية، لأن الجماعة قد يتهدَّد وجودها بالكامل عندئذ يكون التكتل نحو الجماعة مسألة طبيعية للحيلولة دون تذرية الجماعة إلى أفراد، إلاّ في حالات البناء غير السَّوي للجماعة أو جَهل أفرادها بآليات الصراع أو أن الأخير يحتاج إلى نَفَس طويل لا تستطيع الجماعة تحمّله.

إنّ الفرد ومهما كانت قواه خارقة للعادة يستمد قوته حتماً من انتمائه إلى جماعة يسعى إلى ديمومتها وقد لا يكون الدافع اجتماعياً محضاً وإنما دافعاً فردياً تقتضيه مصلحة الفرد وسَعيه نحو إنجاز خواص الأهداف.

يقول علماء الاجتماع والانثروبولوجيا إن الفرد يستمد طاقاته من الجماعة التي يُحقّق عبرها ذاته الاجتماعية التي تُعدّ عنصراً أساسياً من عناصر ذوبانه في المجموع ومطلباً ضرورياً لاثبات ذاته الفردية. ولكن ما مدى صحّة هذه النظرية وهل يمكن تعميمها على واقعنا الاجتماعي العربي، ولماذا؟

يواجه المجتمع العربي تحدّيات كبرى تهدِّد كيانه المجزّأ وجذره الثقافي الموحَّد، فالخطر الذي يدهم المجتمع العربي ليس خطراً سياسياً وإن كان هذا هو الظاهر على الصعيد الإعلامي، وإنما خطر اجتماعي وثقافي يكاد ينسف كل ما تبقّى من تراث تعتزّ به الأمة سابقاً والأقطار حالياً. ولكن، أليس هذا أدعَى أن يكون هنالك توحّد بل انصهار اجتماعي داخلي، إذا ما هي أسباب حالة انعدام الوزن وعدم القدرة على التوحّد؟

لقد ذكرت بداية ثلاثة أسباب من الممكن أن تكون وراء ضعف الجماعة ووقوعها في حالة من التشرذم، وسأحاول هنا أن أُناقش هذه الأسباب في ضوء بنية المجتمع العربي وطبيعة الصراع الذي يُواجهه.

 أولاً: البناء غير السَّوي للمجتمع.

 لقد أقيمت معادلة المجتمع القبلي على آلية التعاون الآلي لأنه مجتمع قائم على التماثل لا على التنوع والاختلاف، فالمجتمع البشري البدائي كلما نَما جغرافياً وسكانياً سيتحوَّل بالتدريج إلى مجتمع المدينة الذي يقوم على التنوّع والاختلاف، وهذا ليس تشتّتاً بمقدار ما هو تكامل تقتضيه مصلحة الحياة المشتركة للجماعة، فعندما ينمو المجتمع ويتطوَّر فإنه يحتاج إلى تكامل اجتماعي واقتصادي وسياسي، وهنا تظهر الحاجة إلى النظام الديموقراطي الذي يُراعي حالة التَّنوع والتباين الاجتماعي والمصلحي لتحقيق التوازن الاجتماعي المطلوب لاستمرار أي تنظيم اجتماعي، أما المجتمعات العربية فلا زالت تعيش في الفكر القبلي ولاسيما على المستوى السياسي برغم الامتداد الجغرافي والسكاني والتباين الثقافي والاجتماعي قياساً بمرحلة القبلية، ولهذا ظهرت في مجتمعاتنا حالة من الشَّد والتوتر الداخلي التي حَالت وتَحُول دون ضبط إيقاع الجماعات أو المجتمع ككل موحَّد.

إن الحياة اللاديموقراطية التي تعيشها المجتمعات والجماعات العربية سياسياً واجتماعياً حوَّلت الصلابة الاجتماعية إلى سيولة فردية أو تذرية غير مؤهلة للتوحُّد لأن هذه التذرية تفقد شعور الفرد بالانتماء إلى الجماعة وبالتالي تطغى المصلحة الفردية على الجماعية بحيث تُصبح الهُوّة بين هاتين المصلحتين شاسعة وفي مثل هذه الحالة ينهار التكامل والتضامن.

 ثانياً: جهل الأفراد والجماعات بآليات الصراع.

 إن هذا الأمر يعود إلى خَلل نفسي واجتماعي وثقافي، فالمجتمعات العربية على سبيل المثال تعرف مدى خطورة الصراع من الكيان الصهيوني إلاّ أنها ما زالت تتعامل مع الموقف الصراعي بلغة وعقلية انفعالية جماهيرياً وبرغم أن الانفعال مهمة نفسياً واجتماعياً لتحقيق التوحّد العاطفي اللازم للتوحّد الاجتماعي ولكنها تبقى مسألة غير واعية لأنها ذات منطلقات عاطفية لا عقلانية، والتصرّف اللاعقلاني عادة ما يضعف امكانية التحكّم بالذات وبالتالي بآليات الصراع ويفقد القدرة على رؤية نقاط الضعف في الخصم للتركيز عليها ومحاولة تحجيم نقاط القوة قدر المستطاع.

 ثالثاً: طول مدة الصراع.

 يرتبط هذا العامل بالعامليْن السابقيْن، فطول مدة الصراع يعتمد على التوحّد الداخلي والقدرة على التحكّم بآليات الصراع إذ بدونهما لا مجال للجماعة المتصارعة من أن تديم نفسها صراعياً وبالمحصِّلة تحدث حالة التذرية التي يصعب معها إعادة توحيد الجماعة والعكس صحيح فالجماعة إذا ما توحَّدت وتمكَّنت من آليات الصراع فإن طول مدة الصراع يضعف قدرة الخصم على المطاولة ويعطي الفرصة للجماعة المتوحّدة أن تديم قابليتها الصراعية.

* نشر في شبكة النبأ المعلوماتية - كانون الأول 2005 - ذو القعدة 1426

ذات صلة

ما حجم خسارتنا للغدير؟الغَديرُ.. اختيار الرَّجُلِ المُناسبِ في المكانِ المُناسبِالحرية مسؤولية والمسؤولية حريةالاستثمارُ في الحُبّ صعبالدكتوراة الفخرية.. ما لها وما عليها