الدولة من الريع الاستهلاكي الى الاستثمار الانتاجي
عباس الصباغ
2024-04-29 03:31
كيف تؤثر الدولة الريعية على قيم العمل وثقافة الإنتاج في المجتمع؟ وماهي السياسات اللازمة لتشجيع حب العمل ونبذ الكسل بين أفراد المجتمع؟
لم تعدْ مفرحة تلك الانباء التي تتحدث عن وتائر تصدير النفط وعن اسعاره في السوق العالمية صعودا لتمويل موازنات الدول التي تعتمد الريع في اقتصادها كالعراق، ويبقى القلق مزمنا لمن يراقب الخط البياني لمناسيب تلك الاسعار في حالة هبوطها المستمر وعدم استقرارها.
فقد تلازم الريع فلسفةً واجراء بالاقتصاد العراقي منذ اكتشاف النفط فيه وتصديره لأغراض تجارية مطلعَ خمسينيات القرن الماضي لرفد موازناته المالية منذ ذلك التاريخ وحتى الان، فارتبط الاقتصاد العراقي الموجّه توجيها مركزيا والبعيد عن اقتصاد السوق بسعر البرميل، الذي كان ولايزال محتكما الى عوامل عدة منها خضوعه الى مناسيب العرض والطلب والظروف المناخية والتقلبات السياسية الحادة بين الدول.
ونتيجة لتلك المعطيات والتي تفيد بان حوالي 98% من الموازنات المالية يتم تسديد فواتيرها من تصدير النفط فيكون الاقتصاد العراقي بمجمله تحت رحمة سعر برميل النفط، وهو ما عانى منه هذا الاقتصاد ومنذ عام 2014 وبالتزامن مع هجمة داعش وإن كانت تحدث “طفرات” مفاجئة في اسعاره صعودا الا انها سرعان ماتتهاوى نزولا لذات الاسباب المتعلقة بمناسيب العرض والطلب والازمات السياسية الدولية والتقلبات المناخية، فلا شيء ثابتا في اسعار النفط مايعنى انه لا اقتصاد ثابتا مادام يعتمد اعتمادا شبه كلي على تصدير النفط، فيكون هذا الاقتصاد عرضة للهزائز والتقلبات وبشكل مستمر الى ازمات واختناقات مالية تجعل مهندسي الموازنات العامة ومبرمجي ميزانياتها في موقف محرج.
اذ يُعدّ تذبذب أسعار النفط أحد تحديات التنويع الاقتصادي في العراق لأنه مالياً واقتصادياً يعتمد على الريع النفطي بشكل كبير جداً، فأي تذبذب في أسعار النفط، لأي سبب كان سينعكس بشكل مباشر على الريع النفطي الذي يمثّل ركيزة المالية العامة إيراداً وانفاقاً، فالموارد المالية شحيحة وغير مستقرة وسط متطلبات كثيفة ومتزايدة، ناهيك عن اشتراطات صندوق النقد الدولي في حال اقراضه بعضَ الدول التي تضطر الى الاقتراض منه، كما فعل العراق تخطّيا لازمته المالية التي كانت اكثر من خانقة خاصة إبان الحرب الضروس ضد داعش التي استمرت لما يقرب من ثلاث سنين وهي حرب استنفدت اموالا طائلة، ستلحقها اموال باهظة تتطلبها إعادة إعمار المناطق التي استولى عليها داعش فضلا عن إعادة توطين النازحين الذين نزحوا من تلك المناطق لذات الاسباب.
ونستشفّ ممّا تقدّم ان خطورة متلازمة الاقتصاد الريعي تكمن في ارتهان الاجيال الحالية ضمن اقتصاد مهزوز ومعرّض الى مفاجآت تكون في اغلب الاحيان غير سارة وتكون الاجيال اللاحقة عرضة الى نضوب تلك الموارد، فلكل مورد عمر افتراضي ومحدد، فيتحتّم تشكيل صندوق سيادي نفطي في العراق ليحفظ حقوق الاجيال القادمة وهو ما غفلت عنه الطبقة السياسية منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، فلا يجوز الاعتماد كليا على الاقتصاد الريعي حاليا او مستقبلا كونه اقتصادا متذبذبا فلا تتمكن الحكومات من تحديد أسعاره وتثبيتها لان أسعاره تتحدد في الاسواق الدولية.
ولتفادي خطورة متلازمة الاقتصاد الريعي الكامنة في عدم الاستقرار الحالي والنضوب المستقبلي؛ يجب تحويل الاقتصاد الريعي العراقي الاستهلاكي إلى اقتصاد انتاجي استثماري، وذلك من خلال توفير المناخ المشجّع للمستثمرين على الاستثمار في القطاعات الانتاجية.
وتفعيل القطاع الخاص (اقتصاد السوق) وعدم اقصاء الدولة بالكامل أي لابد أن تأخذ دور الاشراف والموجّه للقطاع الخاص وهنالك حاجة الى تنشيط القطاعات الاقتصادية الاخرى والتي تكسر احتكار النفط.
وهي بحاجة ماسة الى بنى تحتية واسعة النطاق ورصد أموال طائلة وتشريع قوانين تعمل على تهيئة جو ملائم لتنشيطها وتوفير الكوادر البشرية والدعم المالي واللوجستي لأي قطاع اقتصادي حيوي وفي أجواء مريحة من الطمأنينة والثقة المتبادلة.
فضلا عن تهيئة أرضية مناسبة للعمل الاقتصادي كالتقليل من حلقات البيروقراطية المثبّطة للعمل، فقد استطاعت دول عديدة التعايش مع الريع النفطي وفي الوقت ذاته الحفاظ على التجارة الحرة والتخطيط الاقتصادي والاستثمار.
فالعراق لاتنقصه الامكانات الاقتصادية او الزراعية او السياحية او الصناعية او الخبرات البشرية ليكون ذلك مصدراً اساسياً من مصادر تنويع مصادر الريع مع تنشيط القطاع النفطي ذاته الذي بقي قطاعا متهالكا ومتداعيا، وفي بعض الأحيان لايكفي هذا القطاع لسد حاجة السوق المحلية فهو قطاع ستحتاج اليه الاجيال اللاحقة.
نبذ الكسل والتكاسل
(وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) التوبة 105. لايوجد تنبيه اعلى من هذا الأمر الالهي الذي حث على وجوب وحتمية العمل، لاسيما ان كان صالحا فصلاحية هذا العمل (المفترض) ان يكون خالصا لله تعالى وللصالح العام ولمنفعة الناس جميعا، فهذا العمل سيعرض للتقييم (والتقويم) على مصادر الشارع المقدس، وكل ماينفع الناس هو مشمول بالعرض على ساحة القدس سبحانه وتعالى وعلى رسوله الكريم "صلى الله عليه وآله" فهو الشاهد والشهيد على ماجرى ويجري الى يوم القيامة والى بقية المعصومين (عليهم السلام) وهم الشهداء مع جدهم المصطفى (اعمالكم تعرض علّي)، وهم الشهود أيضا، فلايخرج العمل وتقييمه وتقويمه ايضا عن هذا الثالوث المقدس انطلاقا من الحديث النبوي الشريف في حديث المعرفة: «يَا عَلِيُّ مَا عَرَفَ اَللَّهَ إِلاَّ أَنَا وَ أَنْتَ، وَ مَا عَرَفَنِي إِلاَّ اَللَّهُ وَ أَنْتَ، وَ مَا عَرَفَكَ إِلاَّ اَللَّهُ وَ أَنَا»، فتنحصر هذه المعرفة الشريفة بأركان هذا الثالوث المقدس، وينحصر العرض الشريف للأعمال وينحصر تقييم وتقويم الاعمال صالحها وطالحها بهذا الثالوث المقدس ثالوث المعرفة الإلهية، وفقا لمبدأ (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) الزلزلة7/8.
وهذا التوجيه هو اكبر دافع لنبذ الكسل والتكاسل والحث على العمل الصالح بشروطه وشرائطه التي لاتحيد عن التقييم والتقويم ايضا ضمن نظرية المعرفة التي لامناص عنها في الدنيا والاخرة، لمنع تكرار حدوث متلازماته الفقر والجهل والتعاسة والمرض عن الفرد والمجتمع وصولا الى الدولة ككيان حاضن للجميع لإنتاج مواطن صالح ينتج مجتمعا صالحا ودولة يعم فيها الامن والرخاء وفي دولة كريمة.