عندما يكون السلطان ضعيفاً؟

القاضي سالم روضان الموسوي

2024-04-21 05:51

ان عبارة السلطان الواردة في العنوان، ما هي الا تعبير مجازي عن كل رئيس وصاحب مقام يتولى فيه التحكم بشؤون ما يتولاه، والتاريخ فيه العبرة التي نعتبر منها، وهذه العِبرْ هي تجارب قد حدثت في الماضي، لان فهم الحاضر لا يكون الا بالرجوع الى الماضي، ومعرفة مدخلات الاحداث التاريخية ان تشابهت مع مدخلات الاحداث الراهنة، فإنها حتماً ستعطينا ذات المخرجات التي حدثت في الماضي، ومن هذا المنطلق لابد من الاستعانة بالتاريخ لتفسير ما هو راهن، ومعرفة مدى ديمومة الاحداث المتشابهة، لإنها تمنحنا الامل بوجود المعالجة والمخرج الذي يسعد العموم.

وفي الاحداث التاريخية التي مر بها سلاطين الدول البائدة والسائدة، نجد ان بعض السلاطين يتشبون بكرسي الحكم، ويقتلون ويفسدون في الأرض ويعبثون بمقدرات الأمم من اجل ديمومة بقائهم في ذلك الكرسي، وتراهم يتصفون بالتكبر على اقرانهم واقوامهم، وهذا جعل من موقع المسؤولية مدخلا لتحمل اثم القاتل ان اساء التصرف به لجعله وسيلة التكبر والتعالي، وليس باباً لقضاء حوائج الناس بالعدل والحكمة، ويقول الامام علي (ع) في نهيه عن التكبر وبيان عاقبته (لا تكونوا كالمتكبر على ابن أمه من غير ما فضل جعله الله فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد، وقدحت الحمية في قلبه من نار الغضب، ونفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر الذي أعقبه الله به الندامة، وألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة). 

وحتمية التاريخ تدلنا على ان كل سلطانٍ متجبر هو واهنً ومهزوم في داخله يتمسك بجوره وظلمه لنشر الخوف بين العامة، الا ان هذا الوهن يجعله متقلباً في ارتمائه نحو أحضان القوة، حيث تراه في مرة يتملق لأهل الشرق تملق العبيد للسيد، وفي أخرى يمل الى اهل الغرب ميل الراكع الخنوع، والسبب في ذلك هو الوهن والضعف والخواء في داخله، على خلاف مظهر القوة الكارتونية التي يحاول بسطها على العامة، ومن ثم سوف ينتهي هذا السلطان الواهن شر نهاية.

ويروي التاريخ لنا حوادث كثيرة عن انتقال السلطان بين الأحضان (...)، ومن هذه الحوادث ما قام به الخليفة العباسي القائم بأمر الله، فانه كان من الضعف والوهن بان اقر بان الخلافة لا تكون لبني العباس وانما لأولاد فاطمة الزهراء عليها السلام، وذلك عندما كانت شوكة الفاطميين قوية، وبمؤازرتهم للقائد الشيعي (البساسيري) فأعطى وثيقة بختمه فيها اقراراً صريحاً بانه وسلفه قد اغتصبوا الخلافة من أبناء فاطمة الزهراء(ع)، لكن بعد مرور عام تقريباً قدم السلاجقة بزعامة طغرل وكانوا ذو قوة جبارة بما عرف عنهم من توحش وقساوة، فانه سعى لان يحمي ملكه بالانتقال الى حمايتهم ونفوذهم من الفاطميين، فنقض عهده ورجع عن اقراره بأحقية أبناء فاطمة الزهراء (ع) بالخلافة، واصبح يستجدي رضا وعطف طغرل السلجوقي، فاستقبله استقبالاً مهيباً خارج اسوار بغداد تعظيماً وتكريماً له، ومنحه لقب سلطان المشرق والمغرب، واعتبر ذلك اول تتويج لسلطان غير قرشي لزعامة المسلمين، والسبب هو ضعف ووهن هذا السلطان المهزوم داخلياً، وكان يتوسل كل السبل الصورية حتى وان كانت خادعة وكاذبة ليظهر للعامة بانه ذو قوة وبأس، على خلاف حقيقته. 

وأسباب الضعف والوهن كما اشرت اليها هو جور السلطان والظلم الذي نشره على العامة وعلى ومن يتحكم بهم من خلال سلطانه وموقعه في سدة الحكم، الا ان النتائج كانت شديدة الأثر، حيث انتقلت مقدرات الامة والتحكم بها الى الاقوام الأخرى الغازية، بل ان السوء كان على اشده عندما ينتقل السلطان من حضن الغرب الى حضن الشرق وبالعكس، وهو يعلم مدى التناحر بينهما، وكما يقول احد المختصين في علم الاجتماع ان القوة المنقذة تكون عادة قوة متوحشة، لان أسباب القوة تكمن في قساوتها وشدة بأسها، وهو التوحش بعينه، وان كل قوة حتى وان أتت بعنوان الإنقاذ، فإنها سوف تدمر جوانب عدة من الحضارة التي زعمت انها قادمة الى انقاذها، وهذه ظاهرة تاريخية، وعلى وفق ما ورد في كتاب الدكتور محمد بن المختار الشنقيطي الموسوم (اثر الحروب الصليبية على العلاقات السنية الشيعية، طبعة بيروت الأولى عام 2016).

والتدمير لا يكون باستعمال القوة دائماً، وانما بوضع اشخاص في مواقع المسؤولية مضموني الولاء للغازي، بمقابل منحه الامتيازات والمنافع الشخصية، واضفاء وسم القوة عليه، وهي في حقيقتها خيوط عنكبوتية واهنة وضعيفة لا تقوى تجاه أي حركة مهما كانت شدتها، ومن هذه الخيوط تكميم الافواه، ليس لأنه يقضي عليها وانما لأنه غير قادر على سماع دويها الهادر الذي يهز كيانه، ويقلق منامه واستقراره، لذلك تراه دائما هائما في استعراض بطولاته الدون كيشوتية الفارغة، وابتعاده عن مهامه التي تولاها للقيام بما عليه من واجب شرعي، وتوظيف مقدرات ما يتولاه نحو الغير لمصلحة بقائه.

لذلك أرى على كل جبارٍ ومتسلط ان يعود الى التاريخ ليعلم ما كان عليه الجبابرة وما آل اليه مصيرهم ومصير بلدانهم، وما سيكون لهم من عقاب عند الله عز وجل.

* قاضٍ متقاعد

ذات صلة

التنمية المتوازنة في نصوص الإمام علي (ع)أهمية التعداد السكاني وأهدافهالموازنة في العراق.. الدور والحجم والاثرفرصة الصعود في قطار الثقافةموقع العراق في سياسة إدارة ترامب الجديدة