شذرات في الفكر العراقي: حوار في الطبيعة الانسانية

د. مظهر محمد صالح

2024-04-02 07:10

1- تمهيد

تشتمل الطبيعة الانسانية على الاستعدادات والخصائص الأساسية - بما في ذلك طرق التفكير والشعور والتصرف - التي يقال إن البشر يتمتعون بها بشكل طبيعي.

و غالبًا ما تستخدم عبارة (الطبيعة الانسانية) للإشارة إلى جوهر الجنس البشري، أو ما يعنيه أن تكون إنسانًا. اذ ثبت أن هذا الاستخدام مثير للجدل حيث يوجد نزاع حول ما إذا كان هذا الجوهر موجودًا بالفعل أم لا.

حيث كان يُعتقد ابتداءً أن الطبيعة البشرية فطرية بالنسبة للفرد، ثم جادل الفلاسفة بأن الفرد يتم تحديده في الغالب من خلال بيئته. وهذا ما أثار النقاش حول دور الطبيعة في تنمية الإنسان. وجادل آخرون أيضًا ضد الطبيعة البشرية التي لا يمكن تغييرها أو إصلاحها.

وهكذا صار كثيرا ما يتم استحضار الطبيعة البشرية لتوصيف جنسنا البشري ووصف مدى اختلافه عن الآخرين. ولكن كيف يجب أن ندرك هذا المفهوم؟ ما هي طبيعة النوع البشري؟

اذ يعد البعض طبيعتنا (جوهرًا essence ) ويجادلون بأنه نظرًا لافتقار البشر إلى الجوهر، فإنهم يفتقرون أيضًا إلى الطبيعة. ويجادل آخرون لصالح طرق ثانوية لفهم الطبيعة البشرية، والتي تهدف عادة إلى توفير معايير لفرز (السمات البشرية ) في واحدة من سلتين، الاولى تنتمي إلى طبيعتنا والأخرى خارج طبيعتنا. حيث يجادل هذا العنصر بأن كلا من المنهج (الجوهري) ومنهج (السمات )مضللين في وصف الطبيعة البشرية.

وبدلًا من ذلك، طور الأستاذان Grant Ramsey و Cristina Villegas في مقالهما المنشور في مجلة العلوم والفلسفة والمنشورة على موقع اكسفورد في 22 اذار 2024 تحت عنوان : Developmental Channeling and Evolutionary Dappling

اي التوجيه التنموي والترقيق التطوري

اذ يوضح الكاتبان ان الخصائص التنموية للكائنات الحية تؤدي أدوارًا مهمة في توليد التنوع الضروري للتغيير التطوري. ولكن كيف يمكن للتنمية الفردية أن تقود مسار التطور؟ وللإجابة على هذا السؤال، قدم الكاتبان فكرة( التوجيه التنموي ) باعتباره تصرفًا للكائنات الفردية التي تشكل مساراتها التنموية المحتملة و( الترقق التطوري ) كنتيجة تطورية يتم فيها ترقق مساحة الأشكال العضوية المحتملة - اي هي ممتلئة جزئيًا فقط. ثم يقومان بتتبع مضامين إطار التوجيه والترقيق في المناقشات المعاصرة في فلسفة التطور، بما في ذلك قابلية التطور، والسببية المتبادلة، والتوليف التطوري الممتد.

2- بعيدا عن جدالات الاكاديمية الغربية نجد ان من اجمل الكتابات في الطبيعة الانسانية مؤخراً قد كتب فيها المفكر محمد عبد الجبار الشبوط مقالاً فلسفيا جاء بعنوان: التخلف..!! قائلاً فيه

: ((البشرية بصورة عامة …تتقدم وتتطور وتتحسن طبيعة معيشتها وتزداد معارفها بفعل النزعات الغريزية في الفطرة الأنسانية والعلاقة التبادلية بين الإنسان والطبيعة .

واعني بذلك ،كما يذكر الكاتب ،انها تواصل العمل من اجل الابداع والابتكار وتنمية الانتاج وتحسين نوعية ومستوى حياتها وتزداد علما ومعرفة عن طريق التجربة والتأمل واعمال العقل.

هذا كله مما تبرهن عليه سيرة المجتمعات او الجماعات البشرية منذ وجد الانسان العاقل على الارض قبل مئات الالاف من السنين والى اليوم. صحيح ان التقدم العلمي والتكنولوجي كان بطيئا في البداية لكنه اخذ يتسارع بشكل يقطع الانفاس منذ 500 سنة والى اليوم….))

3- وهنا اجد شخصياً ان الصراع الفطري للانسان مع الطبيعة ياتي لتحسين جودة الحياة عبر مسار زمني اخذ يتطور حقاً بشكل (أُسي ) في سرعة تراكم الأفكار والمعرفة ومنجزات العلوم وتطور الانتاج لسعادة البشر ، وياتي بدلا من ذلك المسار (الخطي ) الذي قطعت الإنسانية فيه جل حقبها حتى بلغت مرحلة الانعطافات الحادة في التطور المعرفي كالثورة الصناعية وغيرها ، اما على جبهة الصراع الانساني( البيني ) شعوبا وجماعات، فهو مازال الاخطر ، والذي اخذ يتفاعل مع تحسين جودة الاستقرار بين بني البشر باللجوء الى التنظيم الجمعي حتى بلوغ الديمقراطيات الحديثة ولكن للاسف تجده ينكسر بين الحين والاخر مستخدما قوة منجزات العلم والتكنولوجيا لرسم صور خطرة في تاجيج رغبة الصراع مابين الكيانات الانسانية ، واقصد بذلك آلة الحرب بكل اشكالها والتهديد بها لاعادة تقاسم الثروة والقوة والنفوذ .لذا تبقى البشرية تعيش اخطر صراعاتها عندما لا تدخر وسعا في تحويل منجزات صراع الإنسان مع الطبيعة وتوفير منجزات العلم لحياة رغيدة ، ولكن تنقلب تلك المنجزات لتصبح ادوات تسير الصراعات بين بني البشر نفسه وهي متلازمة الصراع بين الانسان والطبيعة و منجزاتها التي تتحول الى صراع بين الانسان و الانسان نفسه وهي عودة الى التخلف لامحالة .

4- من جانب آخر ذهب المفكر الدكتور عقيل الخزعلي نحو مسار فلسفي وتأملي في تحليل الطبيعة الانسانية بالقول:((مَنْ تَمَلَّكَهُ الجَهْلُ أو الخَوفُ أو الطَّمَعُ أو الوَهْمُ أو الهَوَى*؛

إنسَحَقَتْ ذاتُهُ، وسُلِبَتْ هَويَتُهُ، وهانَتْ كرامَتُهُ، وضَعُفَتْ مروءَتُهُ، وزادَ تَسويغَهُ، وكَثُرَ ترقيعُهُ، وغادَرَ مَزِيَّتَهُ، وسَهُلَ قِيادُهُ !)).

فارى من جانبي مستدلاً من مقولة الدكتور عقيل الخزعلي ، بان من اخطر الهزائم البشرية هي خواء الذات واندحارها في معركة التراجع اوالعيش بروح محبطة، اسيرة مجهول ،يسير النفس بين حفر يخلو باطنها النور وتتنفس في ظاهرها الظلام.

5- وهكذا يستمر الفكر العراقي يتعاطى عبارة الطبيعة الانسانية من زوايا مختلفة في النظرة والمنهج النظرة ولكنها لا تفترق في بلوغ الهدف السامي ، وهو البحث عن البشرية بصورتها المثلى ، والانسان مازال في صراع مع الطبيعة والمحيط الاجتماعي في الوقت نفسه.

وبهذا الشان يعرض المفكر حسين العادلي مفارقة فلسفية عالية المعنى عنوانها *السَّندان* قائلاً:

• إمتَحِن سندَان (الإستِقامَة) بالإغرَاء، واختَبِر سندَان (الإنصَاف) بالمُكنَة.

• (الأسئِلة) مَطَارِق العقل على سندَان الحَاجَة. (الأسئِلة) حَاجات تَلِحّ!!

• إن كان القُنُوع (سندانَاً)، لن يَنال منه الجَشَع.

• (الشَّخصيَّة) كالمَعدن تَحتاج إلى صَقل، و(النَّفس) كالسَّندان تَحتاج إلى طَرق.

• (العِّفة) سندَان الشَّخصيَّة، ومَن أَضعَفَ عِفَّته (تَهَتَّك).

• سندَان السِّياسَة (المبادِئ)، إن اشتَدَّت صَلحَت، وإن ضَعفَت فَسَدت.

• سندَان الدَّولة النِّظَام، وسندَان النِّظَام الحُكم، وسندَان الحُكم الحَاكِم. (الحَاكِم) مِطرقَة وسندَان.

• مَطَارِق الدُّول (المَصَالِح). وإذا وَهَن سندَان دَولة، هَشَمَته مَطَارِق الدُّول.

وهنا توقفت كثيرا في فلسفة العادلي في مقولة ( السندان) اذ ارى من جانبي انه مهما بلغ السندان من قوة ((وهو تلك الكتلة الحديدية الثقيلة ذات الوجه الفولاذي (المتجهم ) والتي يتم تشكيل المعدن (الناعم ) عليها بمطارق القوة )) فان سندان الحياة هو مازال في حالة مناقشة أو في حالة التكوين أو الإعداد التي لم تنضج بعد ، ذلك عبر صراع الجنس البشري في البقاء .

فاذا كانت مطارق الامم هي المصالح حقا ، فان تآكل سندانها بمطارق المصالح لا يحصد من حطامه سوى استلاب امالها واحلامها لتنتهي الامة فراداً في نيران فرن الحداد كمصلحة رسمت عنوانها مطارق قاسية منزوعة الشفقة .

و لا ننسى ان قمة المزن الركامية تاخذ في السماء شكل السندان قبل ان تزمجر ببريق يحمل مياها مشتعلة البرق في اعالي الكون !!! و مالم نحسن التصرف (بودق ) أمطارها كخير دائم يروي عطشنا وزروعنا ، فسنحصد لامحالة من مطرقة (الطوفان ) خسران وجودنا بمياه جارفة وهي اخطر من نار الحداد في مشاغل المصالح .

لذا فان الشعوب بين سندانين احدهما في النار والاخر في الماء وهما نظيران للقوة والضعف في معركة عنوانها :مطارق الحياة البشرية.

6- وهنا لم تخلوا دراسة الطبيعة البشرية عن الاقتراب هذه المرة من التحليل النفسي للاجتماع السياسي والتي تناولها المفكر ابراهيم العبادي في مقاله الاسبوعي والذي جاء بعنوان: السيكولوجيا السياسية والاجتماعية في رمضانات العراق ؟ اذ يقول العبادي((…. يقترن هذا الاستعراض السياسي ( في رمضان ) باستعراض سوقي واقبال على ترويج الفضائح الاجتماعية بكونها من نواتج الحياة السياسية الزبائنية ولوازمها بعدما اصبحت الطبقة السياسية الجديدة تستعين بشبكات من الاعلاميين وصناع المحتوى والنساء والمتبرعين ماليا من رجال الاعمال والاثرياء الجدد في تخادم مثير للاسئلة والاستفهامات ،فمالذي يجمع هولاء في لهاث مستمر من اجل نيل حصة في هذا البازار الكبير ؟ نعود الى الاصول الثلاثة التي يلهث خلفها الكثيرون ،السلطة ،الثروة ،الجاه ،

فهذه الثلاثية التي تمسك بلباب الكثيرين ،مالبثت تتسبب بصداع اجتماعي وسياسي لايهدأ ،وتتمظهر باكثر من صورة من صور التنافس الذي تمدد الى ساحات الاقتصاد والمال والفن والاعلام والفضاء الالكتروني ،ونقل الفساد والرثاثة الى مجريات الحياة اليومية ،ولم تعد تخدش حياء او تثير حفيضة اخلاقية ،لقد صارت امرا عاديا . كيف يستقيم هذا الحال في مجتمع تكثر فيه الخطابات الدينية وتعلو فيه القيم العشائرية ،وتتشكل رؤاه السياسية بمزيج من قيم البداوة والحضارة والعصبية والدين في خلطة يسمونها خصوصية عراقية !!؟.

وان مايجري بالفعل يشير الى تبدلات عميقة في السيكولوجيا الاجتماعية )).

7- وأخيراً ،وقفت كثيراً امام خطاب رمضان للمفكر ابراهيم العبادي محاكياً الطبيعة الانسانية وهي تتخبط في سيكولوجيا مشرقية في عالم الاجتماع السياسي، وفي شهر لابد من ان ينقطع فيه الفرد الى فضاء التوبة والايمان .

فعند تقييم سماء السياسة والاجتماع في الفضاء الديني الموروث منذ 1400 عام ((وهو شهر الصيام والطاعة الذي ينصرف فيه الجميع الى الخالق الاعظم بشكل مباشر او غير مباشر )) تبتدئ في الوقت نفسه القوة الماسكة للنفوذ والثروة والسلطة الرسمية والموازية لتسويق او إطلاق عناصر مصفوفتها في مختبر الايمان لاسباغ الشرعية على اموالها واديولوجيتها ومنغلقاتها كافة، في ديناميكيات تتغذى على عقول الصائمين لتشبعهم امالاً وتحذرهم في الوقت نفسه من مستقبل تفقد فيه الطاعات جوهرها مالم ينصاع الجميع للسايكولوجية السياسية وتحريرها من سباتها لتعمل في قلوب الناس وجوف بطونها وهي تسوغ الغنيمة والقبيلة والعقيدة بقوة الايمان . ونجدها بلا ريب مثاقفة وتبشير حقا لواقع مشرقي سياسي شديد التعقيد، فتارة يستخدم الدين وتارة تحرك مشاعر الطائفة واخرى قوة القبيلة وتنسحب احيانا نحو حافات القومية والهدف واحد هو عدم انزلاق مصفوفات المحاصصات الى معادلة اللاحل وفقدان توازناتها .

انه بحق بزار سياسي يعتمل في عقول الامة وهي تمارس طقوسها الدينية الايمانية الموروثة بالطاعة والغفران، لتودي اللعبة السياسة ومناكفاتها دورها في دنيا الايمان و اجتزاءها بين السماء (في عبادة الخالق ) وبين الارضين (في عبادة المخلوق ) .

انه تقاسم علماني للطاعات ….يعيشه الشرق في مناسباته الدينية كافة ، لتوزيع القوة والطاعة والايديولوجيا بين الخالق الاعظم في السماء والمخلوق السياسي على الارض.

انها حملات تذكيرية انتخابية مبكرة يجري تسويقها من خلال البطون الجائعة بالعبادة كي تتخم السياسة بولاءات منقسمة تمتد عموديا بين الارض والسماء وافقيا بين (الهويات السياسية الزبائنية political clientism identities ) لممارسة نفوذ التقاسم على مصفوفة المصالح المتحولة غنائمها بين الدولة الرسمية والدولة الموازية …ولكن بحاضنة ايمانية شعبية عنوانها : رمضان…!!

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا