البرغماتية وعولمة النزاعات
الشيخ الحسين أحمد كريمو
2024-03-06 08:28
هل تنجح فعلا السياسة البرغماتية في تحقيق المصالح المستهدفة، كيف يمكن أن تستفيد السياسة من الأخلاق لتحقيق المصالح؟
مقدمة سياسية
المشكلة الكبرى في هذا العصر تكمن في اختلاط المفاهيم وتداخلها في بعضها البعض وعدم وضوحها لأنه كل بلد أو شخص يعطي مفهومه للمصطلح وما يعنيه فيه، وخاصة في المفاهيم الإنسانية وبالخصوص مفهوم ومصطلح السياسة، ولذا نجد أن مفهوم السياسة صار هلامياً وكل يعطيه التعريف والمعنى الذي يقصده أو يحبه ويفضله.
فالسياسة في تعريف القوي والإمبراطورية الأقوى الآن: هي الخضوع للعولمة التي تريدها والسياسة التي تفرضها على الضعفاء، وهي لديه فن تحقيق المصالح كما قال رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل مقولته الشهيرة: "ليس هناك عدو دائم أو صديق دائم، هناك مصالح دائمة في السياسة"، فالذي يحكمهم المصالح وليس منظومة القيم السياسية والإنسانية الحاكمة في العالم.
والسياسة في المفهوم الإمبراطوري للعولمة (الأمركة) الذي انتهجته الحكومات الأمريكية منذ أن نشأت تأثرت بالبراغماتية كمنهج لها، وهي تحاول فرضه على الدول والحكومات المختلفة وذلك لأن البراغماتية بالأساس من أهم المكونات التي تشكل المجتمع والنظام الأمريكي القائم على النفعية والمصالح، وشعارها: (أمريكا أولاً)، ولذا دأبت الولايات المتحدة الأمريكية باتباع البراغماتية في السياسة الخارجية بعد الحرب العالمية الثانية، وهي مستمرة به إلى الآن حيث تحاول أن تفرض النموذج الإمبراطوري الأمريكي للسياسة العالمية.
وفي الحقيقة إن السياسة مفهوم إنساني محكوم بمنظومة القيم الإنسانية والتي تعارف عليها البشر وكل المجتمعات الإنسانية في الخطوط العامة لها، مع الاحترام المتبادل للخصوصيات والثقافات بين الشعوب والأمم فلكل دولة أو أمة ما يخصُّها في حياتها، ولكن سياسة العولمة (الأمريكية) تريد أن تفرض عولمة السياسة بالمصالح والمنافع التي تخدمها، ولذا حذفت منظومة القيم الإنسانية من برنامجها السياسي.
وبناء على هذه المقدمة لن تنجح السياسة البرغماتية النفعية والمصلحية في تحقيق المصالح السياسية والمنافع المادية للدول والحكومات لأنها مختلفة ومتشابكة وكل دولة ستسعى -وهذا واجبها تجاه شعبها- لتحقيق مصالح شعبها ومنافعه الخاصة دون النظر إلى المصالح للشعوب والحكومات الأخرى وهذا سيؤدي إلى زيادة المنازعات والمخاصمات وربما ستزداد المساحات الساخنة والحروب الضيقة أو حروب اللقمة والجوع وفرض الحصار الاقتصادي على شعوب كاملة لتجويعها لأن حكوماتها لم تخضع للسياسة المعولمة، وللقرار الإمبراطوري.
هذه الفكرة السياسية الخطأ التي تنبع من الفكر الغلط الذي نشأت عليه الولايات المتحدة الأمريكية التي أبادت شعباً برمَّته وتحاربت فيما بينها لأكثر من 150 سنة حتى وصلت إلى فكرة البراغماتية النفعية التي جمعتها على أساس المصلحة وليس على أساس القيمة والمنظومة الأخلاقية فلا قيمة للأخلاق في منطقهم القوي.
وحقيقة هذا الطرح هو أن يكون العالم والحكومات والشعوب يعملون جميعاً لتحقيق المصالح الأمريكية خاصة دون مراعاة أي مصلحة أخرى، ولذا فشلت وستفشل أكثر في تسويق هذه السياسة الخطأ كلما تقدم بها الزمن إلى أن تسقط سقوطاً مدوياً، ولم يبقَ من قوتها إلا جرأتها على الإجرام، وقوة الدولار المعَولم للاقتصاد.
الأخلاق هل تحقق المصالح؟
العالم تحكمه منظومة من القيم الأخلاقية والذي تعارفت عليه جميع الشعوب والأمم في كل زمان ومكان وهو ما يشير إليه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أعدل حاكم في التاريخ البشري -كما صنفته الأمم المتحدة من بداية هذا القرن- في عهده لمالك الأشتر حيث يقول فيه: (وَإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَدُوِّكَ عُقْدَةً أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ، وَاِرْعَ ذِمَّتَكَ بِالْأَمَانَةِ، وَاِجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ اَللَّهِ شَيْءٌ اَلنَّاسُ أَشَدُّ عَلَيْهِ اِجْتِمَاعاً مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ، وَتَشَتُّتِ آرَائِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِ اَلْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ).
والعالم أجمع بقضه وقضيضه يحترم ويقر مسألة العهود والأمانات المتبادلة وعليها قامت الحكومات والشعوب والأمم منذ بداية قيام الدولة الحديثة، وعليها تقوم السياسات الدولية وجميع المعاهدات والعقود والاتفاقيات فيما بينها وذلك لأنها تحقق المصالح المشتركة للجميع وبما اتفقوا وتعاهدوا عليه، وهذا ما تحققه المنظومة القيمية الأخلاقية في السياسة العالمية، لأن مَنْ يلتزم بها فإنه يحقق مصالحه برعايته لمصالح الآخرين عنده، وعلى هذا تنجح الحكومات وتحقق مصالح أممها وشعوبها دون حروب ومنازعات كما تبحث عنه السياسة النفعية البرغماتية.
وبكلمة نقول: لن تتحقق المصالح والمنافع إلا بالالتزام بالمنظومة الأخلاقية العالمية دون غيرها.