شخصنة الحروب

محمد علي جواد تقي

2024-01-13 05:16

في البلاد الشرقية، الحاكم يمثل رمزاً معنوياً الى جانب شخصيته القيادية المُطاعة، وحوله تدور حياة الناس ومصائرهم، فهو يمثل مصدر السعادة والأمان والاستقرار، ولعل لهذه الظاهرة خلفيات تاريخية وحضارية ونفسية، لسنا بوارد الخوض فيها، إنما المُراد تسليط الضوء على سرقة التضحيات الجماهيرية، او لنقل؛ تغييبها من المشهد لصالح شخصنة القائد للحرب في هذه البقعة او تلك، فالدماء تنزف بقوة، وأعداد القتلى، مع أعداد الأرامل، والايتام في تزايد مستمر، مع معاناة لا تُحد بكل الاشكال، بينما ينشغل القادة بتراشق الاتهامات والتهديدات بمن يطيح بالآخر بالضربة القاضية!

ولوسائل الاعلام دور محوري مؤثر في خلق هذه المحنة المستدامة، فهي إذ تُعد لسان القادة والحكام في قيادتهم الحروب، تبدع في تعميق الصورة الذهنية بأهمية هذه الشخصية او تلك في ساحة الصراع، و تضفي عليه ألقاب وصفات فخمة مثل؛ الحكيم، والشجاع، والأمين، كلها تتم قولبتها ثم تسويقها الى الرأي العام بما يوهم الناس بأن لولا هؤلاء الحكماء والزعماء الشجعان لضاعت حقوقهم، وتضحياتهم.

فلا نسمع في الاخبار والتقارير المتدفقة على مدار الدقائق والساعات عن الحرب في غزة، سوى اسماء لقادة الحرب مثل؛ نتنياهو، وغالانت، في الجانب الاسرائيلي، حتى تعرّف الناس وحفظوا اسم وزير الدفاع الاسرائيلي، وفي الجانب الفلسطيني، اسم حركة حماس، ولعل الفلسطينيون فطنوا بوجود هذا المطب، فلم يسلطوا الضوء على شخصيات محددة، حتى اسماعيل هنية –مثلاً- لا يحظى بظهور اعلامي مكثف، وايضاً؛ "ابو عبيدة"، القائد الميداني المُلثم، فانه هو الآخر ظهر لفترة وجيزة وغاب عن المشهد، ربما حتى لا يتحول الى بديل عن قضية الاحتلال والسياسات التوسعية والاجرامية للكيان الصهيوني في غزة وسائر الاراضي المحتلة، وهي القضية التي تجعل الاطفال الخارجين من تحت الانقاض، والنساء الثكلى والارامل، لا يستشعرون الخسارة رغم استمرار تزايد اعداد الشهداء الذي بلغ حالياً سقف 23الف شهيد.

وهذا ينسحب على بقاع اخرى في المنطقة المسكونة بالصراع والحرب منذ عقود طويلة من الزمن، ففي الصراع الايراني – الاميركي تُصر وسائل اعلام الطرفين على شخصنة الصراع بشكل او بآخر، فالاميركيون لا يتحدثون عن مشكلة لديهم مع ايران البلد والشعب والتاريخ والحضارة، إنما مع قادة هذا البلد ومؤسساته الحاكمة، بينما لا يجهل الخبراء والعلماء والباحثون المختصون بالشأن الايراني وجود علاقة عضوية بين اسباب الصراع ومنها؛ حالة الاستقواء والتحدي والتفوق عسكرياً وسياسياً، بتاريخ هذا البلد وحضارته، وإنه كان يتقاسم النفوذ والحكم في العالم لفترات طويلة مع الحضارة الرومانية قبل وبعد الميلاد.

وهكذا صنع الإعلام بصدام حسين في عراق الثمانينات والتسعينات، عادّاً إياه رمزاً عسكرياً دأبه المغامرة في الحروب، والقسوة المفرطة في الحكم، فمن أثنوا عليه ومدحوه، ومن عادوه وكرهوه، اشتركوا معاً في الجهل المطبق لأي تفاصيل عن العراق؛ البلد والشعب والتاريخ والحضارة، وربما مانزال نعاني الى اليوم من هذه الاشكالية الثقافية.

وحت لا نخوض عميقاً في الشأن السياسي، نبين غيابين تسببهما شخصنة الحرب:

الغياب الأول: غياب الوعي بالمصير

الجميع ينشغل بمصير القائد للحرب او النظام الحاكم اكثر من مصير افراد الناس، بمن فيهم الاطفال والنساء، والبنية التحتية وقدرات وثروات البلد، ومع استمرار الصراع او الحرب، فهل بوسع أحد التكلم عن جدوائية الاستمرار، او البحث عن حلول وبدائل؟ نعم؛ هذا ممكن جداً عندما تكون القيادة والشعب في واجهة الاحداث معاً، عندها نكون أمام معركة الكرامة والمصير، ولن يكون للحديث عن التضحيات والخسائر المادية معنى، لأن الجميع يتطلعون الى الهدف السامي والغاية القصوى وهي؛ التحرر، أو الاستقلال، وهكذا فعلت الشعوب الناهضة في العالم.

الغياب الثاني: غياب حرية الرأي والانتقاد

نقل عن الزعيم المصري الراحل، جمال عبد الناصر مقولة: "لاصوت يعلو فوق صوت المعركة"، وهو في ذلك يريد الاحياء للشعب المصري بعمق اهتمامه بالمعارك مع الكيان الصهيوني في فترة حكمه، وأنه يقود البلد والشعب في حرب مصيرية تستحق إلغاء كل الاهتمامات والاصوات لصالحها.

بينما تجارب التاريخ أثبتت أن الانتصار في الحروب جاء بالدرجة الاولى من المشاورة وتبادل الافكار والرؤى، وليس من الحشود العسكرية والتفوق في السلاح والمعدات.

ثم ان هذه المعارك، بدلاً من ان تعبر عن إرادة جماهيرية في التحرر من التبعية، ومواجهة تحديات الهيمنة والاحتلال الاجنبي، الى وسيلة لتكميم الافواه وإطفاء الرؤى القادرة على تقديم حلول وبدائل من شأنها تحقيق النصر بأقل الخسائر.

هذا المآل يستحسنه المستفيدون من الحروب القابعون بعيداً عن النار والدمار، لأن استمرار هذه الحروب بسبب حالة الشخصنة المسببة للعقد السياسية الطويلة الأمد، تخلق لهم فرص عمل في مصانع السلاح لتزويد المتحاربين بما يلزمهم من أدوات موت ودمار، وفي نفس الوقت فرص عمل لشركات البناء والطاقة والنقل للدخول في مدن كانت عامرة و زاهرة، ثم تحولت الى انقاض و قاعاً صفصفاً، لتكون هي البديل والمنقذ لحياة جديدة للناس المغلوب على أمرهم.

ذات صلة

التنمية المتوازنة في نصوص الإمام علي (ع)أهمية التعداد السكاني وأهدافهالموازنة في العراق.. الدور والحجم والاثرفرصة الصعود في قطار الثقافةموقع العراق في سياسة إدارة ترامب الجديدة