استعادة مفاهيم ومكونات الهوية الطائفية
حكمت السيد صاحب البخاتي
2015-09-09 12:03
لم تكن دولتنا قادرة على تجاوز هذا الكم الهائل من تراكمات التناقضات وانقسامات الهوية التي اخذت صورا متعددة ومتكررة، فلم تكن انقسامات الهوية تأخذ وجهة واحدة او صورة قائمة بذاتها، بل نجد انقسامات لها في الوجهة والتصور السياسي والواقع الاقتصادي والاجتماعي. فالشيوعية تنتشر بين الشيعة، والقومية تنتشر بين السنة، والغنى والثروة تنتشر بين السنة، والفقر والعوز بين الشيعة، والدولة بعمومها حين نشأت كانت للسنة والحرمان من المناصب كان من حظ الشيعة، حتى كان الشيعة يتندرون بكلمات معبرة ويقولون الحكم للسنة والضرائب على الشيعة، ثم صاروا يتندرون اكثر مع مرور الوقت ويقولون الحكم للسنة واللطم للشيعة. وقد إختلفت المعادلة من وجهة نظر السنة بعد سقوط الدولة في 9/4/2003م، وقيام دولة جديدة شملها التقسيم في الرؤية الطائفية فاعتبرت شيعية.
وتبادل السنة والشيعة المواقع في العلاقة بهذه الدولة والرؤية التقييمية لها... وقد كانت انقسامات الهوية وبصورها المتعددة والمتكررة هذه، مسؤولة الى حد بعيد عن تراكم هذا الكم الهائل من التناقضات السياسية والاقتصادية، والتي ظلت مستمرة في انتاج ذاتها عبر انقسامات الهوية المتكررة. فلم تكن الهوية موضع إتفاق في الرؤية والتخطيط بالنسبة للمجتمع العراقي في أوليات نشأة الدولة العراقية، بل كانت واحدة من أخطر معوقات بناء مجتمع حديث تستند اليه الدولة في بناء ذاتها، لا سيما وان القوى الضاغطة في التأثير على بنية المجتمع العراقي، سواء منها التاريخية وهي تقف على عتبة الخلاف التاريخي بين السنة والشيعة، او السياسية وهي تحاول رسم العلاقات الجديدة في هذه الدولة، استنادا الى منطق سياسي تاريخي قديم يعتبر ان السلطة قدر تاريخي بالنسبة للسنة في العراق، ولازال هذا المنطق فاعل وبقوة وقد انتقل الى قناعة إقليمية في اعقاب سقوط الدولة العراقية وكان له دور في عرقلة بناء الدولة الحديثة بعد عام 2003م.
وكذلك كانت هناك المصالح المرتبطة بها الطبقات الناشئة في بدايات تكوين الدولة العراقية في العقد الثاني من القرن العشرين، وهي التي أسهمت - إضافة الى القوى الضاغطة التي أشرنا اليها - أسهمت بقوة في منع تطور او تكوين هوية وطنية عراقية، وكانت النتيجة في استمرار هذه القوى الضاغطة في إنجاز واقعها وتحريك الوضع الميداني السياسي والاجتماعي في العراق باتجاهها وعلى مدى اكثر من ثمانين عاما على تأسيس الدولة العراقية الاولى، كانت النتيجة هي استعادة مفاهيم ومكونات الهوية الطائفية، ولجم الهوية الوطنية التي سعى بعض زعماء العراق الدينيين والسياسيين الى المناداة بها والدعوة اليها في العقد الثاني من القرن العشرين. وقد كانت ثورة العشرين والبيانات التي أصدرها قادتها من الشيعة والسنة، تعبير عن هذا الميل العراقي الذي واكب تأسيس الدولة العراقية الاولى الى الهوية الوطنية الجامعة.
ومراجعة تحليلية لبيانات هذه القيادات ورسائلها المتبادلة في ما بينها، او المتبادلة مع سلطات الاحتلال البريطاني او دول العالم العظمى آنذاك، تكشف عن عمق هذا الميل العراقي السياسي باتجاه الهوية الوطنية الجامعة. فقد ظهرت بشكل جلي في هذه المناسبات والبيانات عبارات مثل،،،الامة العراقية،،،دولة عربية مستقلة،،،مصالحنا نحن العراقيين،،،ملك مسلم مقيد بمجلس وطني،،،الدفاع عن حقوق العراق،،،القضية العراقية،،،وقد رفض الميرزا محمد تقي الشيرازي بعد تسلمه المرجعية، عرضا انكليزيا بتسليم الروضة العسكرية الى كليدار شيعي واقصاء كليدار سني عنها، قائلا لا فرق عندي بين سني وشيعي.
وكانت المراسلات مستمرة بين قادة الحركة الوطنية من السنة في بغداد والمرجعيات العليا في النجف، للعمل معا من اجل استقلال العراق واخراج المحتل.. لكن هذا السعي الديني والوطني العراقي الذي رافق ثورة العشرين وبدايات تأسيس الدولة العراقية، اصطدم بهذه القوى الضاغطة في العراق، والمتكلسة في الخلفية التاريخية والاجتماعية لمجتمع لم يكن على مستوى الوعي الذي كان يمتلكه دعاة الهوية الوطنية الجامعة، ودعاة تأسيس دولة عراقية يحكمها ملك مقيد بدستور...
لقد تراجع هذا السعي امام تراكمات التناقضات بين المجتمع والوعي، وتناقضات خلفيته التاريخية والاجتماعية مع الدولة الحديثة، وطبيعة مصالح الطبقات الناشئة في ظل الاحتلال البريطاني، والتي كانت ترى ضرورة التقسيم او التناقض الطبقي والاجتماعي، والذي كان لابد ان ينتهي بتناقض او تقسيم هوياتي طائفي او عرقي، وهو ما حدث تباعا في تاريخ العراق الحديث وأثر بشكل قوي وسلبي على مفهوم الهوية الوطنية.
وكان طبيعيا مع تراجع مفهوم الهوية الوطنية الجامعة ان تبدو انقسامات الهويات الفرعية بصيغها الطائفية والعرقية. وان يتبادل الشيعة والسنة الادوار والمواقع في النظر الى الدولة العراقية الثانية بعد 2003م، وترتيب العلاقة بهذه الدولة على اساس هوياتي طائفي بعيدا عن الهوية الوطنية الجامعة.. وتبقى دلالة ذلك ظاهرة في تناقض الموقف الديني ذاته، ففي الوقت الذي رفض فيه الميرزا العظيم الشيرازي استبدال الكليدار السني باخر شيعي في ادارة وخدمة الروضة العسكرية، نجد ان الوقف الشيعي قد استعاد عائدية هذه الروضة الى الوقف الشيعي، لكن طبعا بعد تفجيرها من قبل أطراف سنية في مدينة سامراء، في وقت كانت هذه المدينة سابقا تقدم خدماتها الى هذه الروضة وزوراها...