استقامة العمل واستخلاص النقاء
مفهوم العمل في نهج الامام علي (ع) (5)
مرتضى معاش
2023-01-01 07:44
(إنك لن يتقبل من عملك إلا ما أخلصت فيه)
جاءت التشريعات الإسلامية تحث على العمل والحركة واستثمار الزمن واستنكار الكسل والتقاعس والجمود وتضييع الوقت وتبديد الجهود، ونهى الإسلام عن البطالة لأنها تسبب الذل والهوان وفساد المجتمع وتضييع المصلحة العامة.
وفي مقالاتنا السابقة ذكرنا أحاديث لأمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) يحث فيها على الاستقامة والاستدامة على العمل، فلماذا التأكيد على هذا الأمر؟
إن منهج الغدير منهج للعمل الصالح، وبناء الحياة الصحيحة والسليمة، ومنهج ينظر إلى الآخرة، ويجرد الإنسان من غرائزه وأهوائه الذاتية المدمرة للحياة، فهو منهج الإنقاذ والاستنقاذ للفرد وللمجتمع وللبشرية عامة، من الشرور والمخاطر التي تحيط به وتعوق رشده وتطوره.
الملل يقتل العمل
إن العمل جوهر أساسي في بناء الحركة الإنسانية في الحياة نحو الآخرة، تلك الحركة الإنسانية المتسامية في تقدم الإنسانية نفسيا ومعنويا وروحيا، ولكن هناك صراع بين الأهواء والعقل، العقل يؤكد على العمل لأن الإنسان هو في حركة دائمة مع الزمن، والأهواء تؤدي بالإنسان نحو الانحراف، والاستغراق في القضايا الهامشية والجانبية وتخرجه عن محور الجوهر.
الإنسان قد يُصاب بالملل في عمله، ويرهقه التعب، وقد ينتابه الغرور والعُجب، ويغرق في تفاصيل هامشية تخرجه عن أهدافه، ثم بالنتيجة يترك العمل أو يبقيه ناقصا، و(آفة العمل الكسل) كما عن الإمام علي (عليه السلام).
من هنا فإن اكتمال حركة العمل واستدامتها تعتمد على الاستقامة، التي تجعل الإنسان يركز على غايته وهدفه، حتى يحقق النجاح بالاكتمال والاتقان، وإلا فإن كل القضايا التي تدور حول الإنسان في حياته تقوده نحو الهامشية، والتفاصيل تؤدي به إلى أن يسترخي ويرتخي تجاه عمله خصوصا إذا كانت هناك ملهّيات ومشوشات تُشْغِله عن جوهر عمله.
لذلك فإن الإمام علي (عليه السلام) يؤكد في هذه القضية قائلا:
(الْعَمَلَ الْعَمَلَ ثُمَّ النِّهَايَةَ النِّهَايَةَ وَالِاسْتِقَامَةَ الِاسْتِقَامَةَ ثُمَّ الصَّبْرَ الصَّبْرَ والْوَرَعَ الْوَرَعَ إِنَّ لَكُمْ نِهَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى نِهَايَتِكُمْ وَإِنَّ لَكُمْ عَلَماً فَاهْتَدُوا بِعَلَمِكُمْ وَإِنَّ لِلْإِسْلَامِ غَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى غَايَتِهِ وَاخْرُجُوا إِلَى اللَّهِ بِمَا افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَقِّهِ وَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ وَظَائِفِهِ أَنَا شَاهِدٌ لَكُمْ وَحَجِيجٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْكُمْ).
فالعمل لابد أن يصل إلى خط النهاية بالاستقامة، والصبر والورع، وهذا يعني أن الإنسان يحتاج إلى أن يوفر كل العناصر اللازمة في ذاته، حتى يستطيع أن يصل إلى النهاية كالسباق الرياضي، هناك سباقات في الرياضة تسمى السباقات الطويلة، مثل سباق الماراثون الذي يحتاج إلى جهد كبير، فلكي يبدأ المتسابق من المنتهى ويصل إلى النهاية لابد أن تكون لديه على الأقل لياقة بدنية قوية حتى يصل إلى النهاية.
بعض الناس يشعر بالتعب، وبمجرد أن يشعر بذلك يترك السباق، أو يترك العمل، لكن الأمر يحتاج إلى مداومة واستقامة، فالاستقامة والمداومة رمز للنجاح في الحياة، ومن مفاتيح النهضة والتقدم في الحياة هي الاستقامة والمداومة في الأعمال.
آفات تدمّر استقامة العمل
في بعض الأحيان تدخل في الإنسان وساوس شيطانية، فتمنعه عن العمل وتجعله يتراخى أو تأخذه آفة التسويف في العمل، لكن (لا تؤجل عمل اليوم إلى غد)، لكن هناك من يسوّف ويؤجل عمله إلى الغد، وهذه من أكبر الآفات التي تؤدي إلى تدمير العمل، وروي عنه (عليه السلام): (وكل مؤجل يتعلل بالتسويف).
إن مجتمعاتنا اليوم تعدّ غير عاملة لأنها تعيش هذه الآفات، ومنها آفات البيروقراطية والكسل والمماطلة والتسويف وتأجيل العمل، وتبرير الفشل عند الإنسان، فالإنسان الذي ينشغل بغير الأهم وغير المهم ويعيش في التفاصيل الصغيرة سوف يضيّع نفسه وعمله، ومن ذلك على سبيل المثال السهر في المقاهي ليلا ويتأخر عن عمله صباحا، هذه إحدى الملهيّات والمغريات التي تؤدي إلى تدمير الإنسان.
ومن هنا يبرز هذا السؤال كيف نقف امام آفات الكسل ونحقق الاستقامة في العمل، والجواب يأتي من كلامه (عليه السلام)، حيث يمكن أن نستنبط بعض النتائج وكما يلي:
أولا: العمل من خلال الغايات
لابد أن يكون العمل من خلال الغايات المخطَّط لها والمدروسة والنافعة في الخير، لأن العمل الارتجالي والعشوائي يسبب في كثير من الأحيان الفشل ولا يعطي النتائج المرجوة، وإن أحد أسباب ترك العمل وعدم الاستدامة عليه هو عدم وجود غايات مخطط لها، لأن الإنسان يحتاج أولا إلى أهداف وغايات، ثم إلى تخطيط ثم انتخاب الوسائل التي تتناسب بين الغايات والتخطيط، أي أن الوسائل هي الوسط بين التخطيط والغايات. ولابد للإنسان أن يكون في تخطيطه استدامة واستمرارية حتى يصل إلى الغايات والمخرجات التي تؤدي إلى الخير الذي يرجوه.
ثانيا: العمل المستدام أو المستمر
ونقصد هنا العمل النوعي وليس العمل الكمّي، فما فائدة العمل الكمّي إذا لم يكن فيه جوهر، إن العمل المركّز هو الذي يحقق الغايات، وهذا هو معنى الاستقامة بأن يكون هناك نوعية في العمل، قيمة العمل، التركيز في العمل.
يقول الإمام علي (عليه السلام): (قليل تدوم عليه، أرجى من كثير مملول منه)، فالعمل الكمي المجرد الكبير مرهِق، لأنه يفتقر للتخطيط وليس فيه استراتيجية ورؤية للغايات وإنما مجرد عمل بلا هدف، لذلك فإن المهم هو العمل النوعي الذي يكون فيه تركيز، فإنه لا يستقيم ولا يستديم في عمله لأنه يعاني من الإرهاق.
العمل الجيد يخلو من الإرهاق
يُفترَض أن يكون العمل الجيد خاليا من الإرهاق، وإنما يكون فيه تخطيط لتنظيم الوقت واستثمار العمر بشكل جيد، لا يمكن أن يستمر عمل الإنسان مثلا عشرين ساعة في اليوم، سوف يكون عملا مرهِقا، وربما إذا كانت مدة العمل عشر ساعات بدلا من عشرين ساعة، وحسب إمكانيات وطاقات الإنسان قد تكون إنتاجيته أفضل من عمل عشرين ساعة.
هذا يسمى بالاستثمار الصحيح للوقت والجهد والتخطيط والغايات، فهذا هو معنى (قليل تدوم عليه أرجى من كثير مملول منه)، لأن العمل الكمّي يؤدي إلى الملل والضجر لأنه يخلو من النتائج المرحلية المتراكمة، قد تكون له نتائج سريعة أو آنية ثم ينتهي، فالعمل الكمّي ليس فيه تراكمية، بينما في العمل النوعي توجد تراكمية فيكون عملا متصاعدا منتجا.
العمل الكمي يمكن أن يكون جيدا اذا كان في إطار العمل النوعي، أو يتناسب ويتوازن مع العمل النوعي.
وعنه (عليه السلام) في حديث آخر: (أفضل الأعمال ما أكرهت عليه نفسك) وهذا هو معنى الاستدامة، لأن الإنسان في الأحيان قد يتعب من العمل وينتابه الشك بجدوائيته، فلا بد أن يُكرِه نفسه عليه، ويستقيم ويستديم حتى ينجح عمله، ولا يتلكّأ في مواصلته.
ثالثا: تحمّل الصعوبات
(الصبر الصبر) الإنسان يحتاج إلى الصبر في تحمل الصعوبات، فالعراقيل والصعوبات كثيرة في العمل، وكما في الحديث فإن (أفضل الأعمال أحمزها) يعني أصعبها وامتنها، لأن الأعمال الصعبة فيها تحديات للإنسان، والذي يستطيع أن يجابه التحديات ويقوم بالأعمال الصعبة، تكون الأمور سهلة عليه بعد ذلك.
أما الإنسان الذي لا يتحمّل الأعمال الصعبة، ويختار الأعمال السهلة، فيكون قليل الصبر ويكون رقيقا أو هشّا في تحمّل الصعوبات والتحديات، فيذهب دائما إلى التفكير السهل والعمل السهل، وهذا لا يجعل الإنسان أن يرتقي، لأن الارتقاء يأتي من خلال تحمل الصعوبات وخوضها، لذلك على الإنسان أن يواجه التحديات ولا يتردد في ذلك، (ومن يتهيّب صعود الجبال.... يعشْ أبدَ الدهر بين الحفر/ للشاعر أبو القاسم الشابي).
صعود الإنسان يتم من خلال العمل بالصعوبات، واختيار العمل الصعب، وإذا كان أمامه عمل سهل وآخر صعب، عليه أن لا يختار السهل، لأن الصعب ينمّي الإنسان ويقوّيه ويزيده خبرة وتجربة.
إن الاستدامة في العمل الصالح يقود إلى الخير دائما، والمداومة في العمل هي كرعاية النبات، تحتاج إلى سقي مستمر، لذا نلاحظ أن بعض الأمم يوجد لديها عنفوان شديد في الإنتاج بكل شيء، إن السبب في ذلك توجد لديهم خطط كبيرة في الاستدامة، من أجل التنمية، تنمية المدن والطرق والحدائق والبلاد بأكملها.
هذه الاستدامة مهمة في بناء أجواء صالحة في الحياة، فالمداومة مهمة في بناء الحياة، فيبني الإنسان نفسه والآخرين والمجتمع، لذلك على الإنسان أن لا يختار الأعمال السهلة والبسيطة، بل يختار الأعمال التي تنطوي على خير كبير، ونفع كثير، فيجب أن تكون المداومة مستمرة حتى ينتفع الآخرون من ذلك، وسوف نتطرق إلى هذا الأمر في موضوع العمل الصالح وكيف ينتفع الناس من خلال أعمال الإنسان نفسه وكيف يفكر للمستقبل استراتيجيا حتى يبقى نفعه للناس شاملا عاملا ومستمرا.
رابعا: الحرام من آفات الاستقامة
(الورع الورع)، يعني التورّع عن محارم الله، فالعمل الصحيح والصالح والنافع والجيد هو الذي يبتعد عن الحرام، ومن آفات الاستقامة هو الحرام، وإذا وقع الإنسان في الحرام مرة سيقع ثانيةً وثالثة ويستمر على ذلك.
فلابد أن يكون التورّع خط أحمر في عمله حتى يخلو من الحرام، وكل الأعمال مشمولة بذلك خصوصا الأعمال التجارية لأنه توجد فيها أموال، فإذا غاب الورع تحدث الأمور المسيئة كالغيبة والتسقيط والنميمة، والمال الحرام والغش في العمل، وقد تطرقنا سابقا إلى الثقة وكيف تكون قوة للمجتمع، وتعطي للعمل قيمة، كذلك الورع يعطي قيمة للعمل كقيمة الثقة، لأن الورع يحيط بالعمل فيجعل الناس يثقون بهذا العمل، ويعطيه الجودة والارتقاء والقوة الحقيقية.
لكن بمجرد أن يعبر الإنسان هذا الخط ويعبر الخط الأحمر ويتخلى عن الورع في عمله، فإن العمل يفقد قيمته ونوعيته وجودته ويسقط سقوطا هائلا.
خامسا: العمل المسؤول
(بِمَا افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ)، أي قم بالوظيفة الشرعية في عملك، وعلى الإنسان أن لا يعمل بمزاجه، بل أن يعمل بالمسؤولية الشرعية وليس بالرغبة الذاتية.
نضرب مثالا عن ذلك، نحن نحتاج إلى بناء مدارس، ولو افترضنا أنني فكرتُ في بناء خمس مدارس، لكنني بدلا من ذلك بنيتُ مدرسة واحدة بدلا من المدارس الخمس ولكن هذه المدرسة بمواصفات عالية، هذه الخطوة خضعت لرغبتي ومزاجي الشخصي، بينما كان من الممكن أن أبني خمس مدارس بهذه الأموال، فهناك فرق بين الرغبة والوظيفة.
فهناك عمل يتم إنجازه من خلال مسؤوليتي ووظيفتي، لكنني بدلا من ذلك أقوم بالعمل حسب رغبتي ووفق ما يعجبني وما يعجب مزاجي، لكن على الإنسان أن لا يخضع العمل الجيد والعمل الذي فيه بداية ونهاية إلى مزاجه ورغبته، بل يجب أن يتم ذلك في إطار وظيفته ومسؤوليته الملقاة على عاتقه.
سادسا: الإخلاص في العمل
من أهم عناصر العمل الناجح والمثمر والنافع والصالح هو الإخلاص في العمل، لأن العمل يختلط دائما بين الرغبة الذاتية والمسؤولية الشرعية الوظيفية المطلوبة من الإنسان، فيكون العمل بين الأهواء وبين الواجب، وبين الذاتي وبين العام، وبين النافع لنفسي وبين النافع للعموم وللمجتمع.
هنا يختلط الأمر بين ما ينفع الذات وبين ما يريده الله سبحانه وتعالى، وهذا هو معنى الإخلاص، أن يكون عملي مخلصا لله سبحانه وتعالى، والإخلاص يعني النقاء كالماء الزلال، ولا يكون العمل معكّرا بين ما أطلبه لنفسي وبينما يريد الله سبحانه وتعالى، فهذا لا يسمى إخلاص، ولذلك فإن قيمة العمل تكمن في الإخلاص ونجاح العمل وثمرته بالإخلاص، حتى أن الإخلاص يربّي وينمي العمل.
الإخلاص وجودة العمل
لذلك في أي مكان كان، إذا لم يفكر الإنسان في جودة العمل ويكون مخلصا لعمله، ويفرّغ جهده ويسعى لإنجاح هذا العمل ويفكر بمصالحه الشخصية فقط، فإن هذا العمل يكون فاشلا دائما، إذا كان العمل متقنا بشكل جيد، ما الذي يجنيه الفرد لنفسه؟
إن الذي يجنيه الإنسان من ثمار الاتقان هو العمل المخلص، والعكس صحيح، فالإنسان الذي يكون عمله غير مخلص ولا نقي، فإن عمله يكون فاشلا ولا ينفعه بشيء، لأنه (ما ينفع الناس ينفعه)، وما ينفع لنفسه فقط لا ينفعه، وما لا ينفع الناس لا ينفعه، هذه هي المعادلة بشكل واضح، فما يقوم به الإنسان من عمل كي ينفع نفسه لابد أن ينفع الناس، وأن يكون فيه رضا الله سبحانه وتعالى، وإذا ركّز الإنسان على نفسه فقط، وتساءل ما الذي أستفيد منه وما الذي انتفع به، فهذا الإنسان لا ينتفع بأي شيء.
تدمير الجهاز المناعي
هناك من يفكر قبل أن يبدأ العمل فيقول لنفسه، إذا قمت بهذا العمل فما الذي استفيده؟، ولكن هذا فايروس فكري، ماذا يفعل الفايروس؟، إن الفايروس يدمّر الجهاز المناعي، والأخلاقي للإنسان، وهذه هي الخطوة الأولى للتبرير والانتهازية، وهذه أساليب وتساؤلات شيطانية (أنا ماذا أستفيد)، أو ما الذي سأحصل عليه؟
يحتوي الجهاز المناعي للإنسان على التقوى والورع، فالقضية الإيمانية هي التقوى والورع، وإذا تم تحطيم هذا الجهاز المناعي وصار الإنسان لا يتورع ولا يتّقي فماذا يحصل؟، إنه سوف يفعل كل شيء ويرتكب كل المحرّمات، ويدخل في عالم من الضلال والتضليل، فإذا دخل هذا الفايروس للإنسان فإنه يحطّم جهازه المناعي ويدمّره.
بالنتيجة فإن الإنسان لا يحصل على شيء في حياته بسبب هذا المرض الذي يصيبه، ويبقى يتآكله من الداخل، لأن معنى هذا السلوك هو الأنانية ومحورية الذات، والنرجسية، وحب الذات، وحب التجاوز على الآخرين والإضرار بهم، وحب الغنيمة والحرص على الدنيا أكثر.
خطورة الفايروس الفكري
في بعض الأحيان نلاحظ أن الإنسان ينهار في حياته، بسبب فايروس فكري دخل في مخه واستقر في منهجية تفكيره، فإذا دخل الفايروس الإلكتروني في الكومبيوتر ماذا يفعل؟، إنه سوف يعبث ويخرّب برمجة الجهاز بشكل تام، ويؤدي إلى تعطيله، ويخلق برنامجا آخر يكون على النقيض من برنامج الجهاز نفسه، كذلك الأمر بالنسبة للأفكار السيئة، فهي فايروسات تدخل في مخ الإنسان ثم تحطّم مقاومته الأخلاقية والإيمانية والمعنوية.
لذلك لابد أن يعرف الإنسان ما هي هذه الفايروسات ولا ينخدع بها، وقد سمعت شخصيا من أناس كثيرين هذا القول: (أنا ماذا سأستفيد؟)، ولا ينظرون إلى اين قد يصلون بهذا التفكير.
الإخلاص واتقان العمل
وعن الإمام علي (عليه السلام): (أعلى الأعمال إخلاص)، فكلما يتنازل الإنسان عن نفسه ويرتقي بإخلاصه سيرتقي بمستوى عمله، وعنه (عليه السلام): (إنك لن يتقبل من عملك إلا ما أخلصت فيه) ونقرأ هذا الحديث في مستويات مختلفة، وهو يتعلق بمختلف أنواع الأعمال.
المقصود بالحديث أن الله سبحانه وتعالى لا يتقبل عمل الإنسان إذا لم يكن مخلصا فيه، وهذه قاعدة وسنة كونية، فالعمل المقبول هو العمل الذي فيه إخلاص، سواء كان عملا عباديا أو اجتماعيا أو تجاريا او غير ذلك، لماذا؟
لأن الإخلاص يؤدي إلى الإتقان في العمل، وإلى الارتفاع الكيفي والنوعي في العمل، أما عدم الإخلاص فيؤدي إلى رداءة العمل، فكل عمل بلا إخلاص يكون عملا رديئا، كما هي الصلاة، أحيانا يؤديها الإنسان كروتين، أي أنه معتاد على تأديتها بشكل آلي، فيؤدي هذا الروتين ويذهب، لكن المستوى الذي يرتقي بالصلاة إلى الله تعالى وبإخلاص هو المقبول أكثر، وقبول الصلاة فيه درجات أيضا.
لذلك فإن الإخلاص يعد قاعدة مهمة في بناء الراحة النفسية، وإرضاء الضمير الإنساني، فإذا لم يرضِ الإنسان ضميره يبقى يؤلمهُ ويوخزه ويؤنّبه، ويحاسبه، والإنسان يعرف جيدا هل هذا العمل الذي قام به هو عمل مخلص أم غير مخلص، من خلال ايعازات ضميره الذي يخبره ويشعره بأن ما يقوم به من عمل هو غير ملائم.
المقصود بالضمير القيم الفطرية الموجودة عند الإنسان، وهي الحجة الباطنة التي تتحرك دائما لتثبت أنها موجودة، فإذا كذب الإنسان يقول له ضميره أنت كاذب، وإذا غشّ فيقول له أنت غشاش، لذلك تكون أخلاقه سيئة، لأن ضميره يؤنبه، فهناك صراع داخلي قوي، فيكون الإنسان مضطربا وقلِقا، ومتوترا ومشحونا.
الاخلاص يؤدي لهدوء النفس
بينما نرى أن المؤمنين المخلصين مرتاحين دائما، مستقرين وطيبين ولا توجد لديهم قسوة، ولا خوف ولا قلق، حيث يؤدي الإخلاص إلى هدوء النفس، وإلى استقرارها، وبذلك فإن الإنسان المخلص يؤدي عمله بشكل جيد، فيكون مرتاحا نفسيا.
إذا ازدادت نسبة العمل المخلص فإن ذلك يؤدي إلى تقليل نسبة الجرائم ونسبة الفساد، وازدياد نسبة التعلّم والتعليم، فالعمل حركة، وكل حركة يؤديها الإنسان هي عمل، حتى نومه ربما هو عمل، (نوم الصائم عبادة) لأن كل شيء يؤديه الإنسان هو عمل، فلابد له أن يختار لنفسه أعماله في حياته.
فعنه (عليه السلام): (من قصر في العمل ابتلي بالهم) أي ينعكس عليه التقصير نفسيا وسلبيا وعصبيا، فأما يكون التقصير في أداء العمل، أو في أشياء مختلفة موجودة في العمل، كالجودة أو الغش، أي من حيث كيفية وكمية العمل.
إن الموظف السيّئ تكون أخلاقه سيئة، فإذا أراد هذا الموظف أن تكون نفسيته مرتاحة وطيبة، لابد أن يؤدي عمله بشكل جيد، كل إنسان إذا أراد أن يكون مستقرا ومرتاحا نفسيا عليه أن يلتزم بالعمل الجيد، فالهموم متعددة ولها آثار نفسية أيضا، وهي تؤدي إلى المرض النفسي أو الجسدي، أو قلة الرزق، والإخلاص يؤدي إلى كثرة رزق الإنسان، بالنتيجة من قصَّر بالعمل ابتلى بالمشكلات والهموم).
العمل للعمل نفسه
وعنه (عليه السلام): (وَاعْمَلُوا فِي غَيْرِ رِيَاءٍ وَلَا سُمْعَةٍ فَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ لِغَيْرِ اللَّهِ يَكِلْهُ اللَّهُ لِمَنْ عَمِلَ لَهُ)، العمل المخلص هو العمل الذي يستهدف العمل نفسه، ولا يكون فيه رياء، فعليك أن تنتج هذا العمل بشكل جيد، ليس المهم أن يقولوا عنك أنك تعمل بشكل جيد، أو تكتب جيدا، أو أنك جيد في الخطابة، أو صناعته جيدة، حتى يُمتدَح، فهذا يسمى بالرياء، فالعمل المخلص يجب أن يكون لله سبحانه وتعالى.
هذه هي العلاقة بين الله وبين العمل حيث تعطيه نوعية هائلة في الجودة، وتضاعف من قيمته المادية والمعنوية، لأن الإنسان عندما يعمل لله سبحانه وتعالى، دون رياء أو بحث عن سمعة، فإن عمله بالنتيجة لن يكون ممتزجا بالسيئات والملحقات الجانبية السيئة، فيكون عمله نقيا، جيدا حكيما مستحكما.
الإخلاص ونقاء الذات
يجب ان يكون الإخلاص فكرة منهجية في برمجة الذات، ينقّي أنفسنا من المزاجيات والأهواء، ويعطي قيمة لأعمارنا، ولأعمالنا، وقيمة لسلوكياتنا في الحياة، ويجعل حياتنا نعيشها ببركة، فعنه (عليه السلام): (بركة العمر في حسن العمل) فلابد أن نجعل الأفكار الجيدة التي تصلح لتوجيهنا وإرشادنا، وتكون واسطة بين أعمارنا وأعمالنا.
وعندما تكون هذه الواسطة الجيدة موجودة في حياتنا، سوف تؤدي بنا إلى الأعمال المخلصة، والمتقنة والصالحة، والأعمال التي توجد فيها استقامة، والأعمال التي يوجد فيها ورع وعدم انحراف، وإلا إذا أردنا أن نبقى نجرب أفكار الآخرين، ومناهجهم، كما يسميها بعض الناس بـ"التنمية البشرية" أو تسميات أخرى، فإننا لن نصل إلى شيء، فعلينا بجواهر نهج الغدير وننهل من هذه البرمجة في عملية تحويل حياتنا، وبناء منهج عمل استراتيجي في حياتنا، يربط بين المبادئ والوسائل والغايات.