العراق لا يرحب بزائر الإصلاح
مصطفى ملا هذال
2022-10-22 05:45
يحدث ان تزور بلد ما وتغادره لسنوات أخرى ومن ثم تعود اليه، تشعر وكأنك دخلت بلد آخر، بلد لا ينتمي الى السابق الى ببعض الأشياء، اُجريت عليه العديد من الإصلاحات في البنى التحتية والعمرانية حتى خُيل للفرد انه في وطن جديد، تغيير الى هذا الحد، كان بفضل الإصلاح المستمر الذي يخيم في بعض البلدان ولا يزور بلدان أخرى مثل العراق.
للإصلاح موانع كثيرة تمنعه من زيارة العراق الذي يعتقد انه اليوم بأمس الحاجة لمثل هذا الزائر الذي سيخلصه من كمية الدمار الذي لحق بالمؤسسات والفرد، فالفرد العراقي لم يسلم من حالة الانهيار الكبير الذي شهدته البلاد بعد تغيير النظام، ودخول الأحزاب الحالية الى منصة الحكم، ولم تعرف أدوات الإدارة وسبل نجاحها بما يحقق الاستقرار.
يحق للإصلاح ان يغيب عن اوطاننا، ففي العراق يشعر بانه غريب لان من يحكموه اليوم لديهم الشغف الكبير في نسف القيم السائدة في حكم البلدان والقائمة على التنمية والشعور بالمسؤولية في مختلف الجوانب ومن بينها الاهتمام بالفرد الذي يعتبر رأس مال الوطن وسر نهضته المزعومة.
وما يحدث اليوم في العراق هو العكس من ذلك تماما، اذ يترجم كل معاني التخلي عن الانسان المنتظر للخلاص عبر ركوبه بقارب الامل الذي طال امد انتظاره ولم يرسي منذ عشرات السنوات، حتى تبدد حلم الأجيال التي تنظر وطنها تمزقه الأحزاب بالتكالب على السلطة وخيراته، مخلفة كمية الفساد في جميع الاتجاهات من أجهزة الدولة.
من يرى حجم الفساد الذي اخذت ملفاته بالظهور تارة في الجانب الضريبي، وأخرى في عمليات تجهيز دوائر الدولة ببعض المستلزمات، يعتقد انه لا جدوى من الحديث عن الإصلاح بمثل هذه البيئة الشائكة بالمشاكل، والتي يتحكم فيها رواد الفساد والتلاعب بالمال السياسي على مدار السنوات المرت.
توهمت الجماهير التي خرجت للتظاهر في أوقات متعاقبة، وحلمت أيضا بانها سترفع راية الإصلاح عالية في سماء الصفقات المشبوهة، وحولت الوطن الى حالة استثنائية في كل شيء، استثناء في التراجع وليس التقدم، استثناء في المحاصصة وليس الأغلبية الوطنية، استثناء في تأخير انجاز المشروعات وليس إنجازها بوقت قياسي، استثناء في التفنن بهدر المال العام وضياع التلريونات على ايدي ضعاف النفوس.
كانت الجماهير الخارجة تريد الإصلاح وجعلت من التغيير خارطة طريق لبلوغ الهدف المعلن، ولم تتمكن من الوصول لهذا الهدف بحكم اعتناق أيدلوجية تختلف الى حد ما عن الأيدولوجيات المتحكمة في مفاصل الدولة، وسخرت جميع الإمكانات لخدمة مشروعها التوسعي وبنيت ما يسمى في الأيام الأخيرة بـــ (الدولة العميقة)، أي التشبث والتغلغل الكلي في المؤسسات الحكومية وخلق أنصار بعيدين عن الأنظار.
لقد خضنا في العراق وخصوصا العهد الجديد تجربة الثورات لأحداث التغيير والإصلاح، ولم نجني منها سوى القتل والتخوين والتشريد والاعتداءات المتكررة على رموزها، حتى ايقنت الجماهير المطالبة بهذا النوع من التغيير بضرورة التريث او التوقف عن المضي بهذا الاتجاه والتفكير بطرق بديلة وكان الدخول بالانتخابات وتكوين جبهة سياسية هي الخلاصة التي توصل اليها الحراك الشعبي واقتنع بها كأداة من أدوات الإصلاح.
لم نقل وصلت الحالة القائمة في العراق الى حد اليأس من تغيير الواقع المرير الذي دفع بالمواطن الى النزول الى الشارع والتعرض الى القتل وغيره من أساليب البطش والتعامل الوحشي والدموي، لكن أصبح من المسلمات ان الإصلاح لا يحصل مالم تكن هنالك قوة سياسية مؤمنة فيه، وقادرة على السير بخطواته بالاعتماد على الدعم الشعبي والجماهيري الدائم.
أولى المهام التي يفترض ان تضعها الحكومة المقبلة هي مهمة الإصلاح المفقود والحاضر بصورة شكلية وأصبح تكرار الصيغ الإصلاحية هو المخدر الوقتي الذي يجعل الحكومات المتعددة تلتقط أنفاسها ومن ثم مواصلة العمل على نفس الوتيرة التخريبية القائمة على النهب والاستحواذ غير المشروع.
للإصلاح قواعد عامة وطرق تحقيقه ليس بهذه البساطة المتوقعة، كون الفساد تقف وراءه الكثير من الرؤوس المتنفذة في الدولة والمهيمنة على مراكز اتخاذ القرارات الحساسة والمتعلقة بمختلف الملفات، لذا من يحاول الاقتراب من هذه الجزئيات ربما يتعرض الى الاغتيال، وان رُحم بحاله يكون ضحية التسقيط السياسي وبعدها العزل الأكيد.
من اهم واول هذه القواعد هو تفعيل السلطة الرقابية وفسح المجال امامها لممارسة مهامها المكفولة وفق الدستور العراقي، وعدم التراخي او تذويب بعض القضايا التي يقف وراءها أحزاب تعرف من اين تؤكل الكتف وتعرف أيضا المخارج القانونية والتبويب السليم للصرف المشبوه والمندرج ضمن باب السرقة العامة.
اما القاعدة الثانية وربما تأتي من حيث الأهمية بالتوازي مع القاعدة الأولى، وهي إعطاء الإعلام بمختلف مؤسساته ليكون السلطة الرابعة بصورة فعلية وليس شكلية، وبالتالي يتم التركيز على انتاج التحقيقات الاستقصائية الغنية بالمعلومات التي يزودها بها المسؤول وابداء التعاون المطلق مع المساعي الرامية لكشف المتورطين بأموال الشعب.
دون التأكيد على هذه النقاط وغيرها من الأساليب الإصلاحية، يعني ان الإصلاح بلغ حد الشيخوخة في العراق، ولا يمكن ان يعود به الزمن الى أيام الشباب الحريص على متابعة الملفات ولديه استطاعة التحمل ومواصلة السير غير مبالي للتعرجات التي تؤخر انجاز المهام رغم صعوبتها واستحالة جزء كبير منها.