العدالة الاجتماعية يتيمة في يومها العالمي
محمد علي جواد تقي
2022-02-20 06:46
"الفقراء هم أشرف من يجب ان تكون بيدهم الثروة"
هكذا هتف أحد خبراء الاقتصاد الغربيين في ذروة أزمة الرهن العقاري التي عصفت بالولايات المتحدة عام 2008، عندما وجدت مئات العوائل الاميركية نفسها على حين غفلة، مهددة بالعيش في الشارع بعد تحولها من مستفيدة من قروض الاسكان –أسوة بكل شعوب العالم- الى مديونة الى البنوك الاستثمارية في اميركا وخارجها التي وجدت في عملية تسديد ديون القرض من العوائل المغلوب على أمرها، لقمة دسمة لأن تتاجر بها، وعندما حصل ما كان متوقعاً، بظهور العُسر في السداد من العوائل محدودة الدخل، سارعت البنوك لبيع البيوت مما أغرق سوق العقار لتكون النتيجة المتوقعة؛ هبوط شديد باسعار العقارات.
هذه مختصر حكاية الازمة، وهناك تفاصيل تناولها المختصون في حينها، إنما العبرة في سقوط الولايات المتحدة والغرب برمته في ورطة العدالة الاجتماعية، وعجزه عن تحقيق آمال علماء الاقتصاد منذ القرن الثامن عشر وحتى اليوم بأن "دعه يعمل دعه يمر"، لتعزيز الحرية الفردية في مجال العمل، ولتحرير التجارة بعيداً عن القيود غير المبررة، ومن ثمّ لتحقيق الرفاهية بين الناس.
بيد أن مشكلة النظرية الرأسمالية أنها تنظر الى المال قبل صاحب المال، ومن الواضح أن المال يجسّد المادة القابلة للدراسة والبحث وتحديد أطر وقوانين لها، بينما من الصعب عليهم فهم الدوافع الحقيقية لسلوك وتفكير الانسان، وهذه الثغرة أبعدت الكثير من القوانين والنظريات الاقتصادية عن مصالح الناس، وإذا يُصار الى تطبيقها فانها لا تشمل أصحاب الرساميل الضخمة، ومالكي البنوك والشركات والمصانع الضخمة، إنما تستهدف بالدرجة الاولى الموظفين والعمال ومحدودي الدخل، مما يضع الغرب ورأسماليته على المحك في اليوم العالمي للعدالة الاجتماعية الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في العشرين من شهر شباط خلال دورتها الثالثة والستين في السادس والعشرين من شباط عام 2007، مع التأكيد على أن الاشتراكية بالمقابل؛ عجزت هي الاخرى في تحقيق هذه العدالة للناس طيلة قرن من الزمن، وما تزال؛ عندما ربطت حياتهم ومستقبلهم بنظام الحكم، ومؤسسات الدولة، وفي بلادنا الاسلامية؛ بيد شخص الحاكم، وليس حتى للحزب كما الحال في الدول الاشتراكية المتقدمة صناعياً مثل الاتحاد السوفيتي السابق، والصين، وكلاهما غيّرا وجه النظام الاقتصادي لديهما بشكل اساس في سعي منهما لتحقيق هذا الأمل.
العدالة الاجتماعية طموح بعيد المنال
من حيث المبدأ؛ يفترض ان تكون العدالة الاجتماعية طريقاً سريعاً لتحقيق السعادة والرخاء والاستقرار النفسي والاجتماعي عندما يأخذ كل ذي حقٍ حقه، وأن يسلم الجميع من الظلم والتجاوز على حقوق الآخرين، وتتقارب المسافات بين الطبقات الاجتماعية، بيد أن الرؤية المادية تحول دون إضفاء المصداقية على القوانين والاجراءات المتبعة في العالم لهذا الغرض، فالمفهوم مركب من قيم اخلاقية وأخرى انسانية، تساعدها قوانين ونظريات اقتصادية تتعلق بالعمل والانتاج، فعندما تكون الرؤية تجزيئية يكون هذا الطموح بعيد المنال، كما هي تجربة الضريبة المتبعة في جميع دول العالم، وهي فكرة ترمي الى استقطاع مبالغ من افراد المجتمع لتحويلها الى ميزانية تصب في صالح المجتمع نفسه من خلال تقديم أفضل الخدمات له، من طرق، وتعليم، وصحة، وكهرباء، وغيرها، بيد أن الملاحظ في الدول الصناعية تحديداً، ظاهرة التهرّب الضريبي متفشية ليس بين افراد المجتمع العاديين، وإنما بين المشاهير من الاغنياء واصحاب المليارات، بل وحتى بين بعض الساسة، لاسيما في الدول التي ترفع نسبة الضريبة الى مستويات ترعب اصحاب هذه المليارات، مما يتركز الضغط على الموظفين والعمال فقط.
وعندما نتحدث عن عالم يتبنى فكرة الضريبة ويؤسس اقتصاده عليه، وإعطاء الأولوية للآلة وليس للانسان في مسيرة التطور التقني السريع بشكل مذهل، فهذا يعني ضرورة تدخل الدولة ومؤسساتها في تقويم عجلة الاقتصاد لئلا ينطلق الانسان في رغباته الجامحة لكسب المزيد من الارباح مهما كلف الثمن، ثم تضمن للعامل البسيط حياة آمنة بعد الاستغناء عن خدماته حتى لا يخرج من ميدان العمل ليلتحق بقافلة العاطلين والفقراء، لاسيما مع الزحف السريع للحياة الرقمية في العالم، واحتمال غزوها لعديد ميادين العمل والانتاج مما يهدد الكثير من العاملين بالاستغناء عن الخدمة وإن كانوا من ذوي الكفاءة العلمية والمهارات العملية، لان صاحب المصنع يبحث عن الربح السريع بالتخلص من تكاليف العمال ومشاكل الضمان الصحي والتقاعد.
العالم ليس سليم الصياغة!
بهذا الخطاب الشديد يحمل الامام الراحل السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه- المعنيين من قادة العالم مسؤولية انتشار وتفاقم ظاهرة الفقر والتباعد الفاحش بين الطبقات الاجتماعية، وفي كتابه "عالم الغد" يبين سماحته المرتكزات الرصينة للعدالة الاجتماعية القائمة على القيم الاخلاقية والانسانية، فالانسان يجب ان يبقى محترماً في مجتمعه، سواءً كان غنياً أم فقيراً، او دخل ميدان التجارة برأسمال كبير، ثم تعرض لخسارة فادحة وصار فقيراً، وايضاً؛ التوزيع العادل للثروة وفرص العمل وفق الجهد العضلي والجهد الذهني، بعيداً عن أي نوع من المحسوبيات او اعتماد الوجاهة والانتماء.
وقد كتب الكثير من العلماء والمفكرون في العدالة الاجتماعية في ظل النظام الاسلامي المتكامل اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، إنما المشكلة في التطبيقات العملية على الارض، ووجود تفسيرات لهذه العدالة، فالبعض يعد من حقه أن يكتسب المال كيف يشاء وإن كان على حساب لقمة عيش الناس، كما هو الحال في بعض الأطباء بدعوى أنهم استهلكوا سنوات طوال من عمرهم في الدراسة والسهر والتعب حتى بلغوا هذه المرتبة من العلم، فمن حقهم أن يأخذوا هذه الأموال لقاء كتابة وصفة طبية، او استيفاء الملايين لقاء اجراء عملية جراحية، ويجيب سماحة الامام الشيرازي على هذه المقولة تحديداً بأن "اذا صح قول الطبيب، فلماذا لا يكون للمعلم حق استحصال المال من الناس، وقد أفنى عمره وبذل جهده في الدراسة مثل الطبيب"، ثم يشير سماحته الى مسألة ذات طابع اجتماعي لها مدخلية مباشرة في فشل تحقيق العدالة الاجتماعية، وهي الحالة الترسبية في العلاقة بين الطبيب والمجتمع، "فان الاطباء كانوا في سالف الزمان قليلين، ولكثرة الحاجة اليهم كانوا يتقاضون من واقع أجورهم حسب قانون العرض والطلب، وهذا الأمر باق الى الآن، وقد اعتاد الناس عليه، والاطباء غير مستعدين التنازل عما اعتادوا عليه"، كما يناقش سماحته الاقوال بأن الثري إنما صار ثرياً بتعبه وكدّ يمينه، وقد عرض رأسماله للخطر لغرض التجارة، بأن "عمال المناجم أحق بالاهتمام والحرص من المال"، وأن "الرأسمالي ليس فقط يأخذ حقه فيما فاته، وإنما يأخذ اضعافاً مضاعفة".
وعليه فان العدالة الاجتماعية قبل أن يكون شعاراً يرفع في المحافل الدولية، وتدافع عنه الحكومات والنقابات العمالية والاتحادات المهنية، هي حالة نفسية قابلة للتنمية داخل كل فرد في المجتمع تترجم على ارض الواقع كل الخصال الحسنة والفضائل التي تصنع الارضية لتحقيق هذه العدالة في واقع المجتمع والأمة، وإلا فان أمير المؤمنين، عليه السلام، في تجربته القصيرة بالحكم قدم أروع صور العدالة الاجتماعية، والشواهد على ذلك كثيرة، بيد ان مشكلته في قبول هذه العدالة الراقية من قبل افراد معينيين، وسكوت آخرين عليهم، ولذا قال: "فان في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فإن الجور عليه أضيق".
وهذه "العدالة العلوية" هي التي أثارت الكوامن الدفينة عليه، عليه السلام، فألبوا عليه، وجيشوا الجيوش فأزهقت آلاف الارواح من اجل أن يكتسب هذا او ذاك منصباً او امتيازاً مالياً دون غيره.