رازونة أم وليد
د. جليل وادي
2022-01-09 06:27
قد تستدل من مؤشرات صغيرة على امور كبيرة، فعندما لا يمكنك ادارة الأشياء البسيطة فلا أظنك قادرا على معالجة تحديات معقدة تعترض سبيلك، وكأنك تسلم نفسك للريح تعبث بك ما تشاء. وهكذا نحن وهبنا أمرنا للأقدار، من دون أن نرسم ولو خطا خفيفا نسير على وفقه نحو المستقبل، فاذا كانت الحكومة عاجزة عن إحكام سيطرتها على منافذ دخول الألعاب النارية التي يتعرض لمخاطرها الكثير من أطفالنا، والفشل في اجبار التجار على عدم التعامل بهذه الألعاب، فلا يمكن لها السيطرة على السلاح الذي يوصف بالمنفلت، وتتداوله الجماعات المسلحة والعشائر والأفراد، وبدل أن توقف التجار المعدودين عند حدهم، راحت تطارد أصحاب المحال، وهي مهمة عسيرة يتعذر الامساك بها، فتستسلم الجهات المكلفة بالمهمة للأمر الواقع، فمنافذ بيعها منتشرة في الأسواق العامة ودكاكين الأحياء السكنية، و(رازونة ام وليد) التي تسميها أسواقا مثال ذلك.
مضى ما يقرب العشرين عاما وما زال وعد الحكومات المتعاقبة بجعل السلاح المنفلت بيد الدولة لم يجد له تجسيدا في الواقع، بل تغوّل حتى وصل الى قصف منزل رئيس الوزراء وبالطائرات المسيرة، وبالتوازي مع هذا السلاح تتسع تجارة الألعاب النارية، فما تمر مناسبة الا وتشتعل السماء بها، وتملأ الأرجاء أصواتها، ووجد شباب طائش في شوارع الاحتفالات العامة مكانا لممارستها وبكمية ضخمة وبطريقة مزعجة، الأمر الذي حال دون استرخاء العوائل بمناسبات الفرح على قلتها، بل وامتنع الكثير منها عن الذهاب الى هذه الأماكن مع ما يرافقها من عدم التنظيم، والتراجع المريع لمستوى الذوق العام لدى الشباب فيها، وانا من بين الذين أقسموا أغلظ الأيمان على البقاء مع عائلتي في البيت على الاحتفال في هذه المواقع، وجاء الامتناع بعد غلطة ارتكبتها بالذهاب ذات مرة الى حي المنصور للأحتفال بعام جديد، ففوجئت بوحشية الاحتفال، وأيقنت فيه ان الشباب في وضع غير طبيعي، يرمون ألعابهم بقصدية واضحة قرب العوائل، او لاخافة فتيات لوحدهن او على مسافة معينة من عوائلهن، وأشعرتني وحشية الاحتفال بالتوجس من فقدان أحد أفراد عائلتي، كما خشيت من حدوث مشاجرة نتيجة انفعالي ووضعهم غير السوي، ولم يكن أمامنا سوى المغادرة على عجل، قاطعين المسافة من المنصور حتى محطة القطار مشيا على الأقدام، اذ لا مكان فارغ لركن سيارتي سوى قرب المحطة.
لم تتمكن الحكومة بأجهزتها المختلفة من تنظيم الاحتفالات بسيناريوهات محكمة، وتركتها تجري بطريقة عشوائية تتحكم فيها أهواء المجموعات الشبابية، بينما نرى من على الشاشات كيف يبتهج الناس باحتفالات عالية التنظيم، في حين ظلت عوائلنا حبيسة البيوت، تتقاذفها الحسرات بمقارنة نفسها بالعالم.
كيف نخلق جيلا نابذا للعنف وهو يرى القصابين ينحرون المواشي أمام المارة، والدماء وهي تسيل، والحيوانات وهي ترفس؟ ولا أظن ينمو لهم ذوق وهم يستمتعون بأصوات المفرقعات والدرجات النارية ذات العوادم المضخمة، والستوتات التي وضعت لها منبهات لا تستخدم الا في سيارات الحمل الكبيرة، كل ذلك يحدث ولا يتجرأ رجال المرور على محاسبتهم، تحسبا من تداعيات محتملة، او تعاطفا بدواعي كسب الرزق، او الاكتفاء بغرامات غير رادعة، فيتضخم التلوث السمعي مضافا للبصري.
كيف نهذب الأذواق والمدارس بلا حدائق؟ يبدو ان مديريات التربية لا ترى فيها شيئا مهما، بل المديريات نفسها بلا حدائق، بينما يفترض أن يكون ذلك من بين الأولويات، وهي الخطوة الأولى لتعليم التلاميذ العناية بالبيئة التي دمرها عدم وعينا بها، ومؤشرات تدهور بيئتنا كثيرة، ولا حاجة لتذكيركم بها.
مشاكل تعد من فصيلة النواعم، ومع ذلك لم نتمكن من حلها او ايقاف نموها، فما بالك ازاء عقد شائكة كالفساد والمحاصصة والسلاح المنفلت، الدولة لدينا مطاردة، ونخشى أن تستسلم لقدرها، ويبدو ذلك قائما، لحين ظهور من لا يخشى المطاردة لاحقا.