زيارة البابا: عندما تتفوق الدبلوماسية الدينية على السياسية
مصطفى ملا هذال
2021-03-06 08:14
احتلت زيارة البابا الى العراق اهتماما كبيرا على مختلف المستويات الدينية والسياسية كما اهتمت بها الأوساط الشعبية بصورة ملفتة للنظر، فضلا عن ظهور ردود أفعال دولية على الزيارة التي جاءت لتبعث الامل في تعزيز مبدأ المواطنة والتأكيد على المشتركات بين الاخوة الإنسانية.
ومع وصول البابا فرنسيس على متن الطائرة الى ارض مطار بغداد الدولي تعج القنوات الفضائية باللقاءات التحليلية وكذلك المواقع الاخبارية بالكتابات المعمقة متناولة الزيارة بجوانبها المتعددة، لكن ثمة جانب لا يزال معتم ولم يسلط النور عليه بشكل كما يستحق.
لقاء البابا فرنسيس بالمرجع الديني السيد علي السيستاني والاهتمام العالمي بها يعطي مؤشرات ومجسمات على بعض المناطق المهمة في اللقاء، اذ يؤكد على حقيقة مرة بالنسبة للجهات السياسية وهي تفوق الدبلوماسية الدينية على السياسية وهو ما يشكل عدم ارتياح للنخب الحاكمة.
المرجعيات الدينية في اغلب البلدان العالمية لها مكانة عالية المستوى وتتحكم بالمشهد السياسي بصورة مباشرة او غير مباشرة، ففي العراق ومنذ تغيير نظام الحكم اخذت المرجعيات الدينية أدوارا كبيرة ومعقدة في بعض الأحيان.
وصار يُنظر لرأيها على انه الحاسم في مختلف القضايا السياسية والشعبية، كما ان الشارع بدأ يتابع ويترقب وجهة نظرها عبر الخطب المتكررة والحاثة على تلافي الأخطاء وتصحيح المسارات التي أبعدت الكتل الحاكمة عن الطريق الصواب وتحقيق ما مفروض تحقيقه لأبناء الشعب.
فقد ساهمت بكتابة الدستور العراقي عبر اشراك ممثليها في اللجنة المخصصة لتلك المهمة، بعد ذلك حثت المواطنين على التصويت عليه باعتباره اهم المكتسبات في المرحلة، للتأسيس نظام جديد ذو ملامح حداثوية ويحظى بمقبولية شعبية بعد رفض تام لما كان قائم من ظلم واضطهاد في السابق.
ومواكبة لما يدور في العراق فقد أيدت المرجعيات الدينية بصورة شاملة المطالبات الشعبية والمظاهرات الاحتجاجية التي نشبت في العراق بشهر تشرين من العام 2019، حيث شددت على أهمية احتواء الجموع الغاضبة وتحقيق مطالبهم المشروعة وحمايتهم من الاعتداء على حرياتهم.
فاللقاء بمرجعية النجف الاشرف لم يكن من الأمور الغريبة على الأوساط الشعبية وكذلك السياسية، ذلك لما تؤديه السلطة الدينية من دور لا يمكن ان نصفه بسطور بسيطة خلال مقال لا يتجاوز الكلمات، فهي أكبر من ذلك واشمل بكثير مما يتصور الغائب او البعيد عن الشأن المحلي العراقي.
مرة أخرى برهنت زيارة البابا الى العراق على أهمية الدور الكبير الذي تلعبه المؤسسة الدينية في مختلف الازمان، فالتقارب بين الشعوب هذه المرة جاء عبر البوابات الدينية التي تحكم العالم ولم تكن من خلال البوابة السياسية.
صحيح ان المنظومة الحكومية لها الأثر الكبير في تحقيق التفاهمات السياسية والدبلوماسية العالمية، لكنها لم تتمكن من تحقيق ذلك على مدى السنوات الماضية، وهذا قد يكون ليس لضعف في منهجها القائم او الخطوات المتبعة لضبط إيقاع التقارب بين الشعوب، بل لطبيعة عملها ومحدودية تأثيرها مقارنة بما تتمتع به القوة الدينية لدى العامة.
الزيارة لا يمكن ان نضعها في خانة مكون معين دون آخر، وقد يقول أحد المتربصين انها تحمل بعدا طائفيا لكون اهم محطاتها هي زيارة مدينة النجف الاشرف ولقاء المرجعية الدينية هناك، هذا القول يكون بالتأكيد عار من الواقعية والحقيقة، لسبب بسيط جدا، وهو ان الصوت الذي انبثق من مدينة النجف كان له الفضل الكبير في تعزيز الامن والاستقرار لجميع العراقيين دون تميز بين طائفة وأخرى.
أيضا عكست الزيارة مدى الترابط الديني بين الأديان المسيحية والإسلامية، باعثة بالأمل الذي اخذ بالتدفق في نفوس الشعوب بأن الإنسانية اليوم هي بحاجة ملحة لمثل هذا التقارب ونبذ الخلافات التي شوهت معالم النفس البشرية السامية، وادخلت الانسان في صراعات لا طائل منها.
بعد الصراعات والصور السلبية التي عكسها الإعلام الدولي على اختلافه عن صورة الإسلام الناصعة، يمكن ان تصحح زيارة البابا الخلل او الانحراف في هذه الرؤية، ولعلها تؤكد للشعوب الاوربية ان الإسلام الحقيقي هو دين الانفتاح على الجميع ويهتم كثيرا بأن تكون البشرية تزخر بالخير والمحبة والعطاء، ولا وجود فيه لمن يريد ان يعكر النقاء المجتمعي السائد.
منذ عقود وهنالك أصوات تصدر لتشكك بمكانة المؤسسة الدينية او حتى التقليل من تأثيرها على المستوى المحلي والدولي، بينما هذه الزيارة قالت قول مختلف وصرحت بلسان طليق، ان الدين هو عامل التوازن الذي لا يمكن اهماله بأي مرحلة زمنية مرت وستمر.
الزيارة وضعت مرة أخرى على الطاولة امام الطبقة السياسية خيارات واسعة للتعاطي مع المؤسسة الدينية، كما اعطتها الفرصة مجددا لكسب الثقة والاستفادة من هذا اللحظة التاريخية لإعادة تصحيح أخطاء الماضي والشروع بمرحلة جديدة أكثر جدية وحرصا على تقديم شيء من العطاء المحجوب والمقتصر على شريحة ضيقة لا تتعدى الحلقات القريبة من الجهات الحزبية، ومن ثم تأخذ هذه الوفرة تشح تدريجا وصولا لتلاشيها عند عامة الشعب.