تكليف الكاظمي إجماع وطني أم اضطرار سياسي
د. احمد عدنان الميالي
2020-04-16 04:55
تؤشر معطيات تكليف مصطفى الكاظمي لتشكيل الحكومة المرتقبة لحظة فارقة في العملية السياسية العراقية، إذ لأول يحصل توافق سياسي يصل إلى مرحلة الإجماع على شخصية لم تكن بارزة وفاعلة في الوسط السياسي، كما أنه رفض سابقا لهذا التكليف قبل تكليف عدنان الزرفي من بعض الأطراف السياسية الشيعية.
عند الخوض بالسياقات الدستورية في سلامة التكليف من عدمه، نجد انقساماً في الآراء القانونية والسياسية حول ذلك، لكن مسار التكليف غادر روح المادة ٧٦ من الدستور بكل مخرجاتها ليحل إجماع وترشيح الكتل السياسية والنيابية المتعددة مكوناتياً، كعرف سياسي بديلا عن هذه المادة، وهذا بدأ أساسا مع تكليف عادل عبد المهدي، فسارت الكتل السياسية إلى هذا المسار أو العرف الجديد، لتشكيل الحكومة وتجاوز عقدة الكتلة الأكبر. ولا توجد مؤشرات على إمكانية العودة إلى روح هذه المادة الدستورية طالما هي موضع خلاف وتم تجاوزها وتفسيرها وفقا للأمزجة والتوجهات والمصالح السياسية.
هذا التوافق أو الإجماع السياسي على مهمة تكليف الكاظمي نتج عن اضطرار وليس اختيار، بعد أن وصلت هذه القوى إلى مرحلة الانسداد السياسي في الإتفاق على شخصية غير جدلية ومقبولة سياسيا وشعبياً، وعزز هذا التوافق حالة التشظي والتمزق التي أصابت بعض هذه القوى على مستوى التنظيم الداخلي وعلى مستوى العلاقة فيما بينها وبين القوى والأحزاب الأخرى.
لم تكن شخصية الكاظمي والوثوق بقدراته من النجاح في تشكيل الحكومة أو تحقيق متطلبات الإجماع الوطني للأحزاب هو المقترب لهذا الإجماع، ولا حتى المصالح الانتفاعية المعروفة هي الدالة لذلك، إنما هنالك مخاوف سياسية تتمحور حول الإطار الطائفي من جهة وتحديات وتدخلات خارجية تتقاذف الوضع العراقي من جهة أخرى.
إذ تخوفت النواة الصلبة للقوى السياسية الشيعية على استحقاق المكون السياسي لمنصب رئيس مجلس الوزراء، عبر الاعتراض على قيام رئيس الجمهورية بتجاوز رأي هذه القوى وتكليف عدنان الزرفي لتشكيل الحكومة بعد أن أجرى مشاورات مع أطراف سياسية مختلفة بعيدا عنها، كما أنه رفض سابقا مرشحَيّن لها لهذا المنصب، هذا التخوف وجودي بالنسبة لتلك القوى، دفع بها للالتئام والتفاهم والتنازل والاقتناع بسرعة والقبول بشخصية الكاظمي لرئاسة الوزراء لكن عبر خياراتها لا خيارات رئيس الجمهورية وبعض القوى الأخرى التي تعد ثانوية بالنسبة للنواة الصلبة الشيعية، إذ رأت هذه القوى، أن التغيير في آلية تسمية رئيس الوزراء قد يؤدي إلى أزمة في قواعد اللعبة السياسية قد ينتج بناء سياسي جديد، ولهذا لجأوا إلى هذه المناورة الاضطرارية.
أيضا لا يمكن تغافل وتجاهل الدور الخارجي في هذا الإجماع والتوافق، فعملية التدافع السياسي المحتوم بين واشنطن وطهران وقوى إقليمية أخرى على العملية السياسية العراقية وممارسة النفوذ على معظم الأطراف السياسية أو محاولة التأثير عليها لتمرير شخصية تتخادم مع مصالحها، دفع هذه القوى للبحث عن شخصية تحظى بقبول وتوازن يسهم في إمكانية تأمين مصالح كل الأطراف القريبة من هذا الطرف الدولي أو ذاك، لأن في حسابات تلك الأطراف تعني خسارة بالغة ومؤثرة فيما لو فرضت عليها شخصية محسوبة على طرف دولي ومدعوم منها يتقاطع مع توجهاتها وتوجهات الطرف الدولي الآخر الداعم لها.
توفر لحظات تكليف مصطفى الكاظمي فرصاً له ولبعض القوى الوطنية منها:
1- محاصرة انتهازية النخب السياسية وإضعاف للقواعد التقليدية ثقافةً وسلوكاً.
2- تشكيل ضغط على القوى التقليدية المترددة من محاولات التغيير والإصلاح وعدم مغادرة صيغ التوافق والشراكة والمحاصصة والترحيل.
3- إن هذا الإجماع الذي حصل بتكليف الكاظمي رئيسا للوزراء بعيداً عن منطق الكتلة الأكبر وفروض تقاسم السلطة يمثل فرصة لوضع الحيز الأكبر من الإمكانات الجديدة الداعمة لحكومة مستقلة قادرة على الإجابة عن الأسئلة المستعجلة التي يواجهها العراقيين.
4- إن حيثيات هذا الإجماع السياسي الحاصل بين القوى السياسية يمثل فرصة لتشكيل ميثاق سياسي جديد ينقل السلطة من هيمنة الأحزاب إلى المأسسة والدمقرطة وتفتيت مكونات نظام المحاصصة القديم.
لكن هل سيستغل الكاظمي هذه الفرص؟، وهل ستستجيب القوى التقليدية لهذه اللحظات الإصلاحية بمرور الوقت؟أم أنها ستعمل بالضغط غير المباشر على المكلف في منحه الثقة قبال تمرير أسماء مقربة منها، أو تشترط على الكاظمي إذا ما خولته الاختيار أن يبلغ أعضاء كابينته بأن هذه الوزارة أو تلك تابعة وحصة هذه الكتلة أو تلك؟، فتتحول لحظات الإصلاح إلى خيبة أمل وتتم استعادة معالم التخادم السياسي في المصالح بين القوى كدالة رئيسة في حيثيات اختيار الكاظمي رئيسا للوزراء، وفي هذا الحال سرعان ما تتبدد لحظات الحماس الأولى وتنحسر رهانات التفاؤل ويتم استعادة الاشتغال بآليات المراحل السابقة المبنية على منطق إبرام الصفقات التواطئية واستمرار النخب السياسية بالدفاع عن استحقاقاتها واسترجاع مواقعها وأدوارها التقليدية تدريجيا.
كل المؤشرات تؤكد نيل الثقة لحكومة الكاظمي وهذا يعززه اتساع فضاء الإجماع السياسي، لكن قراءة هذا الإجماع ودوافعه يؤشر على أنه إجماعاً مسكوناً بالخوف قد ينتج عنه أزمة تدبير للشأن العام؛ لأن مثل هذا الإجماع يفرز نسقا سياسيا غير متوازن يعمل على رفض أي شيء محتمل لمعارضته وكل ما يمكن أن يشكل وزن مضاد حقيقي، ومن دون أي معارضة مؤسساتية، ويقود إلى عودة المعارضة المنطلقة من الأساس الهوياتي والمكوناتي، ووضع قدم في السلطة عند النجاح وقدم في المعارضة عند الفشل، ويفرز أنماط جديدة للتعبير عن الاختلاف غير المُمأسس، بالمقابل هذا سيعمل على إعادة تغذية أنماط الاحتجاجات الشعبية المغلفة بملامح سياسية واقتصادية واجتماعية، مما يكرس حالة عدم الاستقرار السياسي.
ويمكن لحكومة الكاظمي أن تكون قوية وتعمل جنبا إلى جنب مع حكومة إقليم كردستان وتدير الملفات الخارجية بعقلانية واتزان دقيق، كما أنها يمكن أن تكون حكومة تأسيس لا حكومة إنجاز، لأن حجم التحديات والتراكمات الماثلة أمام هذه الحكومة على مستوى تحقيق انجازات في معالجة الاختلالات الاقتصادية ومواجهة الفساد وتقديم الخدمات والاستجابة للمطالب الاجتماعية تصطدم بمعادلة الإمكانات المتاحة والتحديات الصعبة. ولهذا يمكن أن تنجح هذه الحكومة لتأسيس مرحلة سياسية جديدة بالتركيز على توفير مستلزمات الانتخابات المبكرة النزيهة والتي يمكن أن تحدث مخرجاتها تغيرا يتنافى مع أوضاع العراق المتدهورة من حيث الارتهان الداخلي لإكراهات الفقر والتخلف والعقم السياسي، والتبعية والخضوع لمراكز القوى الإقليمية والدولية المتنفذة.