جَائِحَةُ كُورُونَا صَرْخَةٌ فِيْ الْغَافِلِينِ

تأملاتٌ سُننية في أزماتنا الحضارية المستعصية

الشيخ الحسين أحمد كريمو

2020-04-15 05:00

تفكر وتدبُّر

الجميع اليوم في سجن، لكي يعرف الطغاة والحكام، والقضاة من أزلامهم؛ كم هو صعب وقاسي على الإنسان الحر أن يُسجن، ويُمنع من تنسُّم عبقات الحياة براحته، وكما أراد له الخلق سبحانه وتعالى، فهذا الحصار الخانق، ولكل هذه المدة الطويلة وربما تمتدُّ لأشهر أكثر كما يُقال، هي صرخةٌ عاليةٌ، في وجوه الطغاة، والجبارين، والنماريد والقوارين، والفراعنة المجرمين، ليعلموا أن هناك قوَّة عظيمة فوقهم فلصحوا من سكرتهم التي أدخلهم فيها الغَرور، والسلطة الزائلة.

كما أنها فرصة للأغنياء والبنوك المتحركة، لتقول لهم: ما أنتم إلا أصفاراً لا قيمة لها في الحياة إذا لم تتحولوا إلى بشر يُحسِّون بالبشرية وآلامها، ويُساعدون بحلِّ مشاكلها، والتخفيف من ويلاتها وكوارثها بخلق مراكز أبحاث عملاقة تتكفل بدراسة المجتمعات البشرية والتنبؤ بما يمكن أن يُصيبها من جوائح وكوارث، ويستعدِّون لها بما يناسبها، لا أنْ يكرسوا كلَّ جهدهم ومالهم لصناعة أدوات الإبادة والدَّمار من أنواع الأسلحة، وكأنَّ الله خلقهم للدَّمار لا للعَمار، فالله سبحانه يقول: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود: 61)

كما أنها صرخت صرخة عالية جداً في وجوه الشعوب العالمية، والأمم التي تتشارك في العيش على سطح هذه الكرة الرضية، ونبَّهتهم على أنهم جميعاً في سفينة واحدة، ولا فرق بين سفينة ماجلان، وكريستوفر كولومبس، أو التايتانك العملاقة، فكلها عندما تُصبح في أعالي المحيط ستكون كالقشَّة فيه عندما يأتيها التيَّار، فلا أحد يظن بأن قوَّته، وحضارته، ستنقذه؛ فالمصير واحد، فالجائحة عندما تضرب بلداً فعليك أن تُحضِّر نفسك لها، وها هي جميع دول العالم تئنُّ من هذا الفايروس الخبيث الصغير الضعيف.

فجائحة "كورونا" حقاً هي (صرخة في الغافلين) في هذا العالم، ولا أعتقد، أو أتصور أن بلداً أو منطقة لم تسمع بها، وعلى فرض أنهم لم يسمعوا بها فستصل إليهم ويُعانون منها يوماً، فلا يدفنوا رؤوسهم في الرِّمال كالنعام، ويطمئنوا لكلام الطغاة (كترامب، وجونسن)، ويجلسوا وكأنهم في مأمن، فانظروا ماذا فعلت بهم فالأول يبكي تأسفاً، والثاني في العناية المركزة كما نقلوا عنهما.

الفكر السليم والمفكر العملاق

هذه المصيبة التي حلَّت علينا أرجعتنا إلى أنفسنا وذواتنا، وذلك حين أرجعتنا إلى بيوتنا وأزواجنا وأسرنا وعوائلنا بكل ما فيها من حبٍّ، ودفئٍ، وسكينةٍ كما وصفها بنا سبحانه وتعالى، فشعرنا بأهميتهم، وأحسُّوا بأهميتنا في حياتهم، فكاد الجميع ينسى تلك العلاقات الرائعة في الأسرة، بل كانوا يعملون منذ حوالي قرن من الزمن على تفكيكها من جذورها، لا سيما بعد ثورة الاتصالات وانتشار وسائل التواصل التي سموها نفاقاً وخديعة (اجتماعي)، لينسفوا الخلية الاجتماعية الأولى ألا وهي الأسرة، حقداً عليها لأنها تُشكِّل حائط الصَّد الأولى والأقوى في وجوه مخططاتهم الهدَّامة ووسائلهم التدميرية للمجتمع البشري كله.

نعم؛ هي وسائل تواصل، ولكن افتراضية لا اجتماعية، فالاجتماع ليصدُق عليه هذا الاسم يجب أن يتحقق الاجتماع، وهذه خُلقت للافتراق، والتفريق بين المجتمعين، فهي وسائل تقاطع، وتفاصل اجتماعي، فعلينا الانتباه لخطورتها فكم من عائلة دمَّرتها، وأسرة فكَّكتها فينا؟

وبما أن الحديث عن هذه الجائحة "الكورونية" التي حبَستنا في بيوتنا، رجعتُ أفكر بعمق عنها بعد أن مللتُ من كثرة التحليلات، والأخبار، والإسقاطات، والاتهامات، والتقارير العلمة، والطبية، وكل هذا الكم الهائل من الكذب والدَّجل الذي أمطرتنا به وسائل التواصل الحديثة من كل حَدَبٍ وصوب فقتلت بالوهم أكثر مما قتلت الكورونا في الحقيقة والواقع، فعندما كنا صغاراً قرأنا قصة صغيرة عن الطبيب العالم ابن سينا، بأنَّ وباءً كان ذاهباً إلى إحدى المدن، فشاهده رجلٌ وسأله: إلى أين أنت ذاهب أيها الوباء؟

فقال: أُمِرتُ أن أذهب إلى هذه المدينة لأقتل ألفاً من أهلها.. وذهب وفتك فيها ولكن عندما خرج الوباء من المدينة شاهده الرجل، فقال له: ويحك أيها الوباء ما أقساك؟! لقد قتلتَ عشرين ألفاً من أهل المدينة!! فرد الوباء: أنا قتلتُ ألفاً فقط.. أما الباقي فقد قتلهم الوهم..

فرجعتُ بالذاكرة إلى التسعينات، وقلَّبتُ تلك الصفحات من الكتب الهامة والمفيدة التي كنتُ أتساءل ما أهمية مثل هذا الكتب لتُطرح من سلطان المؤلفين سماحة السيد المجدد محمد الشيرازي (قدس سره) الذي كتب كتاباً بعنوان (الأزمات وحلولها)، فعرفتُ كم كان عملاقاً ذاك الرجل، كبيراً في نفسه، وعميقاً في فكره، فهلَّا استفدنا منه من يومها وبنينا مركز أبحاث متقدم لبحث مثل هذا الأزمات التي جاءتنا على غفلة فأربكتنا، بل أربكت الحياة كلها على وجه الكرة الأرضية، فماذا يقول جنابه في مقدمة ذاك الكتاب؟

يقول مؤرخاً: (لم يكن عندنا في العراق قبل الحرب العالمية الثانية لفظة (المشكلة) ولا كلمة (الأزمة)، وذلك لعدم وجود حقيقة لهما حينذاك إلا بالمقدار الطبيعي، فكانت الأمور تسري على وفق النظام العادي حيث تبقَّى شيء من نظام الإسلام في تلك البلاد، وكان الحكام ـ عادة ـ على فطرتهم، ومن الواضح أن الفطرة توحي إلى الصَّحة في القول والعمل والاعتقاد.

ولكن بعد تمام الحرب العالمية الثانية أغرقت قوانين المستعمرين العراق بجسمانيتها وروحانيتها، فبدأت تطرق أسماعنا هاتان اللفظتان، بعد أن تكونت حقيقتهما في تلك البلاد، ثم أخذت تزداد شيئاً فشيئاً حتى وصلت الحالة الراهنة...

ويعدد تلك الأزمات فيقول: (الآن نشاهد لا في العراق فحسب، بل في كثير من بلاد الإسلام: (أزمة السكن)، و(أزمة الزواج)، و(أزمة البرود الجنسي)، و(أزمة التعليم)، و(أزمة البطالة)، و(أزمة التأخر)، و(أزمة الخيانة الزوجية)، و(أزمة القروض الدولية)، و(أزمة سوء الأخلاق)، و(أزمة الأمراض)، و(أزمة المرأة)، و(أزمة التضخم)، و(أزمة الفقر)، و(أزمة الاستبداد)، إلى غير ذلك من الأزمات. (انظر كم لدينا من أزمات عدا عن الأزمات في العقدين الأخيرين)

يُبيِّن سماحته السبب المباشر والحقيقي لكل هذه الأزمات، بقوله: (وفي الحقيقة إنها ليست أزمات حقيقية، وإنما أخذ الحاكم، والشعب بقوانين الغرب والشرق تارة، وبالأهواء والشهوات تارة أخرى، فصارت أزمات وأزمات، فإذا رجع المسلمون إلى الإسلام كله، لرجعوا إلى ما كانوا فيه قبل نصف قرن من الثقة والأمن والرفاه والرِّخص والصَّحة وغيرها من مقومات الحياة السعيدة). (الأزمات وحلولها: السيد المجدد محمد الشيرازي: ص5)

العمق القرآني للأزمات

ما أجمل، واعظم القرآن الحكيم، ففيه من العجائب والغرائب ما لا يُدرك حقاً، وهو يحتاج منا إلى قلب نقي، وجسد تقي، وفكر ضوي، وعقل مسدد ومؤيد بالوحي، فكم حدَّثنا عن الأزمات فلبني إسرائيل اجتاحتهم تسع أزمات (آيات)، وما أدراك ببقية الآيات التي أهلك الله فيها الشعوب والأمم السابقة التي هلكت جميعها بمرض واحد يصيبها (الفسق)، الذي يؤدِّي إلى الفساد العام فيحقَّ عليهم القول، قال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (الإسراء: 16)، فالفسق العالمي هو سبب الدمار العالمي أيضاً، لأن هنا سُنَّة إلهية في المجتمعات البشرية تحكمها منذ أن بدأ المجتمع في التشكل، فكانوا كلما فسقوا أرسل الله إليهم رسولاً ورسالة، ليُنبِّههم فإذا طغوا وبغوا وفسقوا عليها تحق عليهم كلمة العذاب.

قال ربنا سبحانه: (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) (السجدة: 22)

أقوال المفسرين: بـ(العذاب الأدنى)

من باب الاستئناس بأقوال العلماء، ننقل بعض أقوالهم المختلفة لنعطي المعنى حقَّه من التفسير في هذه العُجالة، قال السيد الطباطبائي في الميزان: (قوله تعالى: {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون}، لمَّا كان غاية إذاقتهم العذاب رجوعهم المرجو والرجوع المرجو هو الرجوع إلى الله بالتوبة والإِنابة كان المراد بالعذاب الأدنى هو عذاب الدنيا النازل بهم للتخويف والإِنذار ليتوبوا دون عذاب الاستئصال، ودون العذاب الذي بعد الموت، وحينئذ المراد بالعذاب الأكبر عذاب يوم القيامة.

والمعنى: أُقسم لنذيقنهم من العذاب الأدنى، أي الأقرب؛ مثل السنين، والأمراض، والقتل، ونحو ذلك، قبل العذاب الأكبر يوم القيامة، لعلهم يرجعون إلينا بالتوبة من شركهم وجحودهم.

قيل: سُمّي عذاب الدنيا أدنى، ولم يقُل: الأصغر، حتى يُقابل الأكبر لأن المقام مقام الإِنذار والتخويف، ولا يُناسبه عدّ العذاب أصغر، وكذا لم يقل دون العذاب الأبعد، حتى يقابل العذاب الأدنى لعدم ملاءمته مقام التخويف.

قوله تعالى: {ومن أظلم ممن ذكّر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون} كأنه في مقام التعليل لما تقدم من عذابهم بالعذاب الأكبر، بما أنهم مكذّبون، فعلَّله بأنهم ظالمون أشد الظلم، بالإِعراض عن الآيات، بعد التذكرة، فيكونون مجرمين والله منتقم منهم.

فقوله: {ومَنْ أظلم} الخ؛ تعليل لعذابهم بأنهم ظالمون أشد الظلم ثم قوله: {إنا من المجرمين منتقمون}، تعليل لعذاب الظالمين؛ بأنهم مجرمون، والعذاب انتقام منهم، والله منتقم من المجرمين).

وقال الطبري في تفسيره: (اختلف أهل التأويـل فـي معنى العذاب الأدنى، الذي وعد الله أن يذيقه هؤلاء الفَسَقَة، فقال بعضهم: ذلك مصائب الدنـيا فـي الأنفس والأموال. ذكر من قال ذلك: حدثنـي علـيّ، قال: ثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـي، عن ابن عبـاس {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ العَذَابِ الأدْنَى} يقول: مصائب الدنـيا، وأسقامها، وبلاؤها، مـما يَبتلـي الله بها العبـاد حتـى يتوبوا.

وقال القرطبي في تفسيره: قوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَدْنَى} (قال الحسن وأبو العالية والضحاك وأبَيّ بن كعب وإبراهيم النَّخَعِيّ: العذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها مما يُبْتَلَى به العبيد حتى يتوبوا)

ويقول الرازي في مفاتيح الغيب: (يعني قبل عذاب الآخرة نذيقهم عذاب الدنيا فإن عذاب الدنيا لا نسبة له إلى عذاب الآخرة لأن عذاب الدنيا لا يكون شديداً، ولا يكون مديداً فإن العذاب الشديد في الدنيا يهلك فيموت المعذَّب ويستريح منه فلا يمتد، وإن أراد المعذِّب أن يمتد عذاب المعذَّب لا يُعذبه بعذاب في غاية الشدة، وأما عذاب الآخرة فشديد ومديد، وفي الآية مسألتان:

إحداهما: قوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ ٱلْعَذَابِ ٱلأَدْنَىٰ} في مقابلته العذاب الأقصى والعذاب الأكبر في مقابلته العذاب الأصغر، فما الحِكمة في مقابلة الأدنى بالأكبر؟ فنقول حصل في عذاب الدنيا أمران: أحدهما: أنه قريب، والآخر أنه قليل صغير، وحصل في عذاب الآخرة أيضاً أمران أحدهما: أنه بعيد، والآخر أنه عظيم كثير، لكن القرب في عذاب الدنيا هو الذي يَصلح للتخويف به، فإن العذاب العاجل وإن كان قليلاً قد يَحترز منه بعض الناس، أكثر مما يحترز من العذاب الشديد إذا كان آجلاً، وكذا الثواب العاجل قد يَرغب فيه بعض الناس، ويستبعد الثواب العظيم الآجل، وأما في عذاب الآخرة فالذي يَصلح للتَّخويف به هو العظيم والكبير لا البعيد لما بينا فقال في عذاب الدنيا {ٱلْعَذَابِ ٱلأَدْنَىٰ} ليحترز العاقل عنه ولو قال: (لنذيقنهم من العذاب الأصغر) ما كان يحترز عنه لصغره، وعدم فهم كونه عاجلاً، وقال في عذاب الآخرة الأكبر لذلك المعنى، ولو قال: دون العذاب الأبعد الأقصى، لما حصل التخويف به، مثل ما يحصل بوصفه بالكبر، وبالجملة فقد اختار الله تعالى في العذابين الوصف الذي هو أصلح للتخويف من الوصفين الآخرين فيهما لحكمة بالغة).

فالملاحظ من كل هذه الأقوال المختلفة في تفسير هذه الآية الكريمة، تؤكد على أن الله سبحانه يتوعَّد الفسقة الفجرة بالعذاب الأدنى بمعنى (الأقرب) للشخص المُعذَّب، ليكون له دارعاً من الفسق وإلا لما تتحقق الرَّادعية التي ترجوها الآية الكريمة، وهذا ما بيَّته كل من الطبطبائي، والرازي بكلام جميل، يجب الانتباه عليه، والسياق القرآني للآية الكريمة تؤكد هذا المعنى الراقي والفهم الحقيقي لها، فالمقام مقام تخويف، وإنذار، وتوعُّد بالعذاب القريب من الفاسق.

غفلة أهل الحضارة الرقمية

المتأمل في حياتنا المعاصرة لا سيما من بداية القرن الواحد والعشرين وهذه الثورة الرقمية، وهذا التقدم الحضاري والتقني، وهذه النهضة العلمية الهائلة، مع ما رافقها من ثورة في الاتصالات ومواقع التواصل العالمية التي حوَّلت الكرة الأرضية إلى مدينة صغيرة نتحكم بها بضغطة زر على (كيبورد)، أو حتى لمسة إصبع على شاشة (تاتش)، فانغمسنا فيها حتى قمَّة الرأس، فسلبتنا حياتنا، وراحتنا، وطمأنينتنا، وغزتنا حتى في خصوصياتنا، وغرف نومنا.

فغفلنا عن أهم ما في هذه الحياة؛ وهي أنفسنا، فهي أغلى ما نملك، وهي غاية الخلق والإيجاد، وغفلنا بالمجموع عن إنسانيتنا، فصار العالم كله مشغول بالحضارة ومنتجاتها الكثيرة، فغفل عن نفسه، ونسي ذاته، فجاءت هذه الجائحة لتنبهنا جميعاً، وتصرخ في وجوهنا: أيها الإنسان الضعيف، لماذا نسيتَ نفسك، وجحدتَ ربَّك الذي خلقك فسوَّاك فعَدَلَك، ألا تعلم أنه قادر على أخذك بلحظة وأنت سادر في غيِّك؟

قال ربنا سبحانه: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (يونس: 25)

ألم تُلخِّص لنا هذه الآية الكريمة الحياة كلها؟ ألم نغترّ بهذه الزخارف، وما أحاطتنا به الثورة الرقمية من أوهام، فظننا أننا قادرين على التَّحكم بالأرض ومَنْ عليها، فجاءكم هذا الفايروس الصغير الحقير ليوقفكم على ضعفكم، وقلة حيلتكم، بل على بؤسكم وخواء حضارتكم؟

ما أجمل ما قاله أمير المؤمنين الإمام علي (ع): (الناسُ نيامٌ فإذا ماتُوا انتبَهوا)، فهلَّا انتبهنا قبل أن يأتينا النداء الرباني، ويختلسنا على حين غرَّة، وبغفلة منا، لأنه لا يستأذن على أحد، ولا يعلم به مخلوق، ولا ينجو منه حيٌّ، فيهدم كل ما بنيناه، فهو هادم اللَّذات، ومفرِّق الجماعات، ولذا جاءت الموعظة الرائعة: (كفى بالموت واعظاً)، وها هو الموت يحصد الآلاف يومياً فعلينا أن نتعظ بمواعظ ربنا سبحانه وتعالى، الذي قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الحشر: 19)، إنها صرخة في الغافلين جميعاً.

ذات صلة

التقية المداراتيّةأثر التعداد السكاني على حقوق المواطنينبناء النظرية الدينية النقديةأهمية التعداد العام للسكان في داخل وخارج العراقالأيديولوجية الجندرية في عقيدة فرويد