الدرس الصيني
د. عبد الحسين شعبان
2020-03-26 04:45
هل شكّلت الصين استثناء في تعاملها مع فيروس «كورونا» الذي ظهر في ولاية ووهان على نحو مرعب، حيث بلغ عدد الإصابات أكثر من 80 ألف إصابة، وفي عموم الصين زاد العدد على ال 127 ألف حالة، متفشياً بسرعة خارقة أدت إلى وفاة 3179، ومنها انتشر الفيروس إلى العالم، وربما كانت إيران وإيطاليا أكثر البلدان إصابة، كما وصل إلى الولايات المتحدة، مؤخراً، ولا سيّما ولاية أوهايو، حيث قارب عدد المصابين ال 100 ألف حالة، وقد قررت واشنطن حظر الرحلات مع دول الاتحاد الأوروبي لمدة شهر باستثناء بريطانيا وأيرلندا وأعلنت حالة الطوارئ القصوى.
هكذا تسبب فيروس كورونا في إرباك العالم كله معطلاً الحياة بشكل عام، حيث ألغيت آلاف الرحلات والفعاليات السياسية والاجتماعية والثقافية والفنية والرياضية، وهوت الأسواق، وعمّ العالم رعب مستطير، بل إن الفيروس حاصر عدداً غير قليل من المسؤولين الحكوميين في دول مختلفة، من ملك النرويج هارالد الخامس وزوجته صوفيا مروراً برئيس وزراء كندا جاستن ترودو إلى مسؤول الإعلام في مكتب الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو.
وبغض النظر عن الاتهامات السياسية والكيدية بين واشنطن وبكين حول مسؤولية تفشي فيروس كورونا وجلبه أو التقاعس في مكافحته، لدرجة وصل الأمر إلى أن أصبح وباءً، حسب منظمة الصحة العالمية، فإنه تمكن من «اعتقال» العالم كله، وأخضعه لحجر إجباري، الأمر الذي يضع الجميع أمام مسؤولياتهم الصحية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية للبحث عن سبل تطويقه ومحاصرته على أمل إيجاد علاج ناجع له والقضاء عليه.
وإذا كان ثمة ترويجات بشأن «الحرب البيولوجية» في إطار نظرية المؤامرة من دون أن يعني غيابها كلياً، لكن اعتمادها كصيغة لكل حدث، هو «مؤامرة» أخرى لإخفاء حقائق الأمور، وتعليق كل شيء على كراهية الآخر وتأثيمه وتجريمه خارج دائرة الاتهام.
فالصين التي صُدمت بما حصل لدرجة الذهول والهلع، لم تستكن أو تتخبّط، بل عملت على نحو دؤوب وبصبر لا حدود له لتطويق الحالة، وها هي اليوم تزف «بشرى» إلى العالم المنكوب بتحرير مدينة ووهان بعد إنقاذها من يد الفيروس القاتل، إضافة إلى إعلان أن نهاية يونيو / حزيران المقبل ستكون خاتمة للسيطرة عليه، وتأكيداً على ذلك إرسالها طائرة إلى إيطاليا تحمل على متنها 30 طناً من المساعدات الطبية و30 طبيباً مختصاً في الأمراض الجرثومية.
وأقدمت الصين على رفع حالة الطوارئ القصوى، حيث قام الرئيس الصيني شي جي بينج بزيارة لمحافظة ووهان، ومنها وجه خطابات الشكر والتقدير للقطاعات الصحية والإدارية، ولعلّ تلك الزيارة تعتبر بمنزلة تحدٍّ وثقة بالنفس لحالة الفزع التي أصابت العالم ورسالة طمأنينة.
وبتقديري أن ذلك يعود إلى عدد من الأسباب:
أولها: إمكانات الصين المادية والتكنولوجية والعلمية الهائلة، التي سخّرتها جميعها مع الطاقة البشرية لمحاصرة الفيروس بالوسائل العلمية والعملية المطلوبة، ولا سيّما توفير المستلزمات الضرورية من الطعام والشراب والدواء لسكان ووهان البالغ عددهم نحو 11 مليون نسمة لنحو شهرين كاملين، أي أنها قامت بحجز سكان المحافظة جميعهم في منازلهم، وتحمّلت مسؤولية توفير المستلزمات الحياتية الأخرى الضرورية لهم، بما فيها التعليم عن بُعد والبرامج الترفيهية عبر القنوات التلفازية وغير ذلك.
واستخدمت بكين الروبوتات المتجوّلة التي تقيس درجة حرارة المواطنين في الشوارع والمحلات العامة والمناطق الخاصة، وقامت السلطات بتوزيع الكمامات مجاناً عليهم، وفتحت عدداً من المستشفيات المتنقلة، وهو أمر أثبت تقدم الصين لدرجة مذهلة ودقة تنظيمها وحسن إدارتها.
وثانيها: التعامل بشفافية وصدقية مع الناس، وهو الأمر الذي أدى إلى انخراط ثلاثة ملايين إنسان متطوع في المجالات المختلفة، وكانت اللوحات الإلكترونية الرقمية تنشر كل صغيرة وكبيرة في ما يتعلق بالفيروس وعدد الناس المصابين وعدد الوفيات والإرشادات والتعليمات الصحية.
ولعبت المصارحة والشفافية دورها في رفع درجة وعي المواطنين حتى إن 11 مليون إنسان في ووهان امتثلوا بانضباط عالٍ للقرار الحكومي بالبقاء في المنازل، حيث أسهم الإعلام في عملية التوعية والتثقيف الصحي من خلال خطاب مؤثر ومقنع علمياً وعاطفياً، فضلاً عن الإدارة السليمة اللازمة بمختلف جوانبها الصحية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية والقانونية، والوجدانية.
وثالثها: تقاليد صينية عريقة أساسها الطاعة والالتزام بالنظام والامتثال للتراتبية البيروقراطية من أدنى المواقع إلى أعلاها، وهي تقاليد تشمل شعوب آسيا الصفراء بشكل عام، ولا سيما شعوب شرقي آسيا، ويضاف إلى ذلك النظام الشيوعي والانضباطية العالية فيه، والالتزام بحماية المواطن، انطلاقاً من معايير قيمية وإنسانية وطنية صينية كجزء من الثقافة اللاوتسية - الكونفوشيوسية القديمة، والتي تشكّل تراث وحضارة الصين والأساس في انبعاثها الجديد ونهضتها الراهنة.