في طريقنا نحو الإصلاح: هل نكسر حاجز الخوف؟
محمد علي جواد تقي
2019-12-17 08:07
حق التعبير عن الرأي المكفول دستورياً، والمطبق ديمقراطياً –نسبياً- أعطى الجرأة والشجاعة للانسان العراقي لأن يعترض على أي خطأ أو فشل في الحكومة وفي سائر مؤسسات الدولة، على شكل احاديث يتناقلها الناس فيما بينهم علناً، وما ينعكس في وسائل الاعلام، لاسيما الفضائيات، وفيما بعد؛ في وسائل التواصل الاجتماعي، مطالبين بإصلاح الأوضاع الاقتصادية والسياسية، وربما تكون هذه "الفسحة الديمقراطية" مقصودة من قبل رجال الحكم لامتصاص نقمة الجماهير، والتنفيس عن غضبهم، قبل التفكير بفحوى الرسائل الجماهيرية المطالبة بالإصلاح والاستنجاد من وطأة الفساد الخانق.
والسؤال الذي يقفز امام الكثير داخل العراق وحتى خارجه؛ ما الذي يجعل رجال الحكم في بغداد لا يهابون شجاعة الرجال والنساء المتظاهرين والمطالبين بحقوقهم المشروعة؟
لم يبق المتظاهرون في الوقت الحاضر جداراً للخوف إلا وحطموه في المواجهة مع النظام السياسي الحاكم، حتى أجبرت قوى الأمن على التخلّي عن حمل السلاح خلال تصديها للمتظاهرين في بغداد وسائر المدن التي تشهد الحراك الجماهيري، رغم انه يندرج ضمن القرارات المتعجلة وغير الصائبة بهدف التبرؤ من دماء الشهداء بعد سقوط حوالي 500 شهيد واصابة المئات من الجرحى خلال المواجهات.
شجاعة الاعتراض هذه بحاجة الى شجاعة من نوع آخر، هي أهم من الاولى، من شأنها التأثير بشكل مباشر وسريع على مراكز القرار الحقيقي، عندما يكون لدينا شبه اتفاق وإجماع بين الجماعات المنتفضة على طبيعة الوسائل والطرق في أجواء ودية آمنة، يشعر الجميع أنهم جسدٌ واحد، "اذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى".
السلمية وتوسيع مساحة الرفض
هي ليست مفردة ايجابية يرجى منها تعزيز مصداقية التظاهرات المطلبية الحقّة وحسب، بقدر ما يفترض ان تكون ثقافة متبناة من الافراد والجماعات لتكون "السلمية" حالة سائدة بين الناس أولاً قبل أن تكون شعاراً نحاور به النظام السياسي الحاكم.
السلم يقابله لغوياً؛ الحرب، او العنف، فجميع من في ساحات التظاهر يعلنون أنهم سلميون أمام قوى الأمن، والدولة بشكل عام، رغم انهم ينزفون من جروح الفساد والظلم، ويعدون ساسة البلاد جديرين بالوقوف خلف قضبان السجون وليس الجلوس خلف المكاتب، وهذا دليل طيبة نفوس المتظاهرين وعموم ابناء الشعب العراقي الذي لم يسجل له التاريخ الحديث والقديم أي حالة عدوانية وتحفّز لإراقة الدماء فيما بينهم، أو مع الشعوب الأخرى.
لذا فالسلم الحقيقي، والودّ، والحب يفترض أن يتجسد أولاً؛ فيما بين افراد هذا الشعب، كون القضاء على الفساد وإصلاح الواقع الاقتصادي والسياسي في البلد يمثل همّاً مشتركاً للجميع، سواءً من خرج الى ساحات التظاهر وبقي فيها، أو من شارك لمرة واحدة، وحتى لمن لم يشارك بالاساس في التظاهرات الاحتجاجية، ما خلا شريحة معينة ربما تعد هذا الحراك خسارة لامتيازات حصلت عليها في ظل المحاصصة السياسية، والفساد الاداري، وهي نسبة ليست بالكبيرة في المجتمع.
فبالقدر الذي يزول الخوف من سائق سيارة لدى وصوله الى مجموعة فتيان ملثمين وقد أغلقوا الشارع بالإطارات المحترقة، أو ممن يمنع التلاميذ الصغار والمعلمين من الذهاب الى المدرسة –مثلاً لا حصراً- فان مساحة الرفض تزداد في اوساط المجتمع، حتى الطالب في الصفوف الابتدائية سوف يرفع صوته وعلمه العراقي في الشارع بشكل عفوي ويردد الهتافات المطالبة بإصلاح واقع التعليم المزري بكل تفاصيله واستحقاقاته، فهو يشعر أن القضية قضيته، وكذا الحال بالنسبة للمرأة، وهو في بيتها، فضلاً عن الكاسب والموظف والفلاح وجميع شرائح المجتمع، ولعل من مصاديق هذا التطور الحاصل في بعض المناطق بمشاركة أصحاب البيوت القريبة من ساحات الاحتجاج بتقديم كل أشكال المساعدة والدعم من مواد غذائية وطبية وبطانيات للمبيت ليلاً وغيرها.
ساحات التظاهر والمستقبل السياسي
طالما حذر العلماء والمصلحون من مغبة انفصال الطليعة الثائرة عن الجماهير بسبب إثارة الخوف والفزع، والجماهير اليوم بلغت من الوعي ما يمكنها من تحديد الهدف من الاضرابات والاعتصامات وقطع الطرق وأي عمل يُراد له ممارسة الضغط، بانه موجه أولاً وأخيراً الى رؤوس الفساد في الدولة وليس شخصاً آخر، فالذي يجب ان يشعر بالخوف من عواقب الأمور هو ذلك الفاسد واللص المتلبّس بصفة "المسؤول" في الدولة لا غيره.
ولو راجعنا تجارب الانظمة السياسية التي خلفت المجازر المريعة بحق شعوبها وشعوب العالم، لوجدنا أنها كانت قبل الوصول الى قمة السلطة، حركات ثورية تنشد التغيير الى الافضل لشعوبها، بل كانت ترفع شعارات المساواة والحرية والتقدم، بيد أن أدواتها العنيفة أوصلتها الى أهداف بعيدة كل البعد عما كانت تفكر به الشعوب، وإلا هل كان يتوقع الشعب الروسي الثائر على ظلم القياصرة واستعبادهم، بأنه سيدفع الملايين من ابنائه الى الموت في منافي سيبريا المتجمدة، وفي السجون؟ وهل كان حلم الشعب الالماني بالعودة الى كرامته وشخصيته الضائعة بعد الحرب العالمية الاولى، أن تدمر مدنه وتزهق أرواح الملايين من ابنائه في حرب رهيبة يكون بعد نهايتها محروماً من الماء الصالح للشرب ستة أشهر، ويجبر البعض منهم لأكل الفئران من الجوع؟! ولذا "فان الجانحين الى السلام بقوا أعلاماً في بلادهم، وفي غير بلادهم، بينما الجانحون الى العنف والخشونة والشدة والغلظة ذهبوا ولم يبق لهم أثر إلا آثار النفرة والابتعاد"، (السبيل الى إنهاض المسلمين – المرجع الديني السيد محمد الشيرازي، طاب ثراه).
بالقدر الذي يتجنب فيه المتظاهرون ممارسة العنف والظهور بالشكل السلمي والودّي أمام الدولة المطلوب إصلاحها ومعالجة الفساد السرطاني المتفشي فيها، عليها تكريس لغة السلم والودّ أكثر بين أوساط الشعب بأسره فهم الذين سيشاركون في الانتخابات القادمة التي يتفرض ان تكون وفق قوانين وآليات يرتضيها هذا الشعب لانتخاب الأفضل والأكثر نزاهة وطيّ صفحة الفاسدين ومن اتخذوا الترهيب والترويع وسيلة للوصول الى الحكم.
إن حادثة مقتل الفتى اليافع؛ هيثم علي اسماعيل -17عاماً- بشكل الصورة المفجعة في ساحة الوثبة تبرأ منها الجميع وأعلن استنكاره لها، بيد أنها لا تنفي مطلقاً وجود مساحة –مهما صغرت- من العنف، والخشية من الاعتراض على العنف، وهذا سيكون نصب عين كل من يفكر بالترشيح لمنصب رئاسة الوزراء، سواءً كان من الطبقة السياسية الحاكمة، أو من بين افراد الشعب ومن تعرفه ساحات التظاهر لا فرق، ويجعله يفكر بالأمر ألف مرة قبل أن يتخذ قراره بقبول الترشيح او المبادرة بنفسه.