مارتن لوثر كنغ ومالكوم اكس: الدولة والسراب!
عبد الامير المجر
2019-04-08 07:18
من بين التجارب الانسانية العميقة التي يجب التوقف عندها، قضية كفاح السود في اميركا، والتي اختزلت، الى حد كبير، باربعة رموز، اولهم فريدريك دوغلاس، الذي عاش في القرن التاسع عشر، وثلاث شخصيات اخرى في القرن العشرين، هم روزا باركس ومارتن لوثر كنغ ومالكوم اكس .. وتجربتا الرجلين الاخيرين اللذين نحن بصددهما، تعكسان بعدا قيميا متعارضا، على الرغم من كونهما مطلبيان في نضالهما المتشابه والمتزامن .. وغير بعيد عن ماتحقق من المشروعين ميدانيا، نعرض هنا للفرق الجوهري بينهما، وما تبقى لهما في النفوس وفي الذاكرة الجمعية للاميركيين والعالم، واسباب التفاوت في النظرة الى كل منهما ... اغتيل مارتن لوثر كنغ في العام 1968 وهو في التاسعة والثلاثين، واغتيل مالكون اكس في العام 1965 وهو في الاربعين، لكن المشروع الذي نجح وتوّج نضال الزنوج، هو مشروع مارتن لوثر كنغ.
قد يرى البعض ان ديانتي الرجلين لعبت دورا مهما في رسم مستقبليهما، لكن نظرة عميقة الى مشغليهما المختلفين تجعل من السذاجة الاحتكام الى هذه الفرضية. نعم ان مارتن لوثر كنغ كان مسيحيا، لكنه كرّس نضاله للمطالبة بالحرية ومساواة السود بالبيض، الذين عاملوا ابناء جلدته بعنصرية وازدراء، بسبب لون بشرتهم، فلقّب بداعية الحقوق المدنية، او هكذا صار يعرف في اميركا والعالم، الذي كرّمه بجائزة نوبل للسلام، لانه رفض استخدام العنف لتحقيق المطالب، على الرغم من العنف الذي جوبهت به دعوته من قبل بعض العنصريين البيض، واستمر في نضاله من العام 1954 لحين تحقيقه هدفه بالمساواة والحرية، حيث وقّع الرئيس الاميركي جونسون في العام 1964 قانون الحقوق المدنية، منهيا بذلك تاريخا حافلا من الفصل العنصري، المثير للجدل.
اما مالكوم اكس، فقد كان مسلما، عاش حياة قاسية ومثيرة، أثرت في مزاجه وصيّرت رؤاه لاميركا والعالم .. لقد قتل والده وهو صغير على ايدي مجموعة من العنصريين البيض، واعدم عدد من اقاربه من دون محاكمة، اما أمه المسكينة فلم تتحمل ماحصل واصيبت بالجنون، ونقلت الى مصحة عقلية وهو في الثالثة عشرة من عمره، فنقل الفتى اليتيم الى دار للرعاية، ونتيجة لواقعة الاجتماعي المضطرب هذا، قام في سن العشرين بالسرقة، وسجن بسبب ذلك، وفي السجن انضم الى حركة (امة الاسلام)، وهو معبأ برغبة الانتقام من البيض، وكان هذا دافعا له لكي يتقدم بسرعة في الحركة التي اصبح ناطقا باسمها في العام 1962 اي بعد عقد على انضمامه اليها، لكنه غادرها في العام 1964، من دون ان يغادر حماسته في تحقيق تطلعاته.. بعد زيارته البلاد الاسلامية وادائه فريضة الحج، عاد وانشأ المسجد الاسلامي في اميركا، لكن الاهم في سيرته، هو انشاؤه منظمة الوحدة الاميركية الافريقية، أي انه كان يطمح الى اقامة كتلة جهوية من الزنوج الاميركيين المسلمين، والمسلمين الزنوج الافارقة، ليواجه بها (العنصريين البيض!) وقد غيّر قناعته هذه في اواخر حياته، لكن بعد فوات الاوان، او بعد ان صار ضحية لحماسة عقائدية، افصحت عن عنصرية دفينة، او هكذا اتهمه خصومه، لانه لم يكن واقعيا ومطلبيا، بل سياسيا رومانسيا استجاب لاعماقه الصارخة بالكراهية لمجتمع كان يراه قامعا له ولقومه. وكان عليه ان يرد بطريقة انتقامية وان تقنّعت بقناع الدفاع عن الحقوق .. لقد وصفه احد المؤرخين الاميركيين الزنوج بالقول؛ انه يرفض ان يحدد الاخرون هويتنا! بينما يريد كنغ، والكلام للمؤرخ، ان نكون متفقين مع الجميع .. وبذلك صدق مارتن لوثر كنغ، حين وصف اكس في احدى خطبه، بانه لم يطرح حلا ...! أي انه شخّص المشكلة ونهض مناضلا باسمها، لكنه لم يكن واقعيا في نظرته لحلها.
في النهاية، خسر مالكوم اكس قضيته، ليس ميدانيا فقط، وانما في جعلها فكرة متوهجة في النفوس ومضيئة في التاريخ، كونها تجاوزت البعد الانساني واكتفت بالبعد الجهوي، الذي سعى الى فرضة بطريقة اقتربت من الشوفينية. بينما انتصرت دعوة مارتن لوثر كنغ، ليس لانه مسيحيا، كما يرى البعض، بل لانه كان واقعيا، وطروحاته تناسب رؤية العالم الحديث لمبدا التعايش ونبذ العنصرية. وبذلك باتت العنصرية في اميركا من الماضي المرير. مثلما بات نضال الرجلين كنغ واكس في ذمة التاريخ، الذي علينا ان نقرأه بتمعن، لانه جزء من تاريخ الوجدان البشري، الذي علينا ان ناخذ منه العبر والدروس.