مأزق الانسان بين الحقيقة والوهم؟

حاتم حميد محسن

2019-03-28 04:30

يكافح ذهن الانسان لفهم الواقع، لكنه عمليا يستطيع فقط ايجاد مختلف المفاهيم والنظريات التي لها محدوديتها. من الضروري رسم حدود تلك المفاهيم اثناء التطبيق. اذا كانت هذه الحدود والقيود لم تُعرّف جيدا، فان المفاهيم والنظريات قد تتحول الى دوغمائيات وما يتبقى منها سوف يقود الى الالتباس وتضليل الفهم. هذه المبادئ والنظريات لا يمكنها ان تصف تماما الحقيقة النهائية بسبب عدم الاحاطة التامة بجميع عناصر تلك الحقيقة، وبسبب الحاجة لكشف وفهم اللاّمعروف المتأصل في كل ذلك. وهكذا، فان بعض الانفصال عن الواقع سيكون حتميا وان الناس سيقعون في فخ الوهم. المشكلة الاساسية هي كيف يمكن رؤية الاشياء كما هي وبدون أوهام؟.

الحقيقة والوهم

الكائن البشري حُشر بين الحقيقة والوهم، حيث ان الذهن يقيم في العالم الذاتي للأفكار والمفاهيم، لكن الانسان يوجد فيزيقيا في عالم الواقع الموضوعي الذي لا يمكن فهمه كليا بشكل مباشر. هذا يصبح أكثر تعقيدا باستعمال العقل والمنطق لإرشاد الذهن نحو الحقيقة، لأنهما يثقان باللغة التي هي غير كافية لوصف الواقع وعادة تقود الى مفارقات. لا يوجد هناك جواب محدد للسؤال عن ماهية الواقع. بعبارة واضحة يمكن للمرء تعريف الواقع باعتباره كل ما موجود بصرف النظر عن امكانية او عدم امكانية ملاحظته وفهمه.

يمكن للفرد التمييز بين الواقع الظاهر والواقع النهائي وكذلك بين الواقع الفيزيقي المستقل عن الانسان والواقع الذهني المتشكل انسانيا. الواقع الفيزيقي يُعرّف كتمدد في المكان، له صفات فيزيائية ويوجد بشكل مستقل عن المراقب. اما الواقع الذهني فهو ليس فيه تمدد في المكان ويوجد فقط في ذهن الفرد وبشكل مستقل عن المراقب. ولكن اذا كان الافراد يفكرون بأشياء مثل الاشجار او الصخور او الجزيئات الذرية او الموجات الضوئية، فان واقعهم يبدو للمراقب الانساني كتمثيل جزئي للواقع النهائي.

من الضروري التمييز بين مختلف انواع الواقع وكذلك بين تمثيل الواقع في الذهن والواقع ذاته. الحقيقة النهائية لا يمكن تعريفها بواسطة المفاهيم او الكلمات. انها ربما لاتتغير ولكن من الصعب وجود اي شيء في الكون بشكل دائم. لا ضمان هناك ببقاء حتى القوانين الفيزيائية مع تطور الكون. الحقيقة النهائية ربما لا وجود لها. كذلك، هي لا يمكن الوصول اليها، لانه من غير المؤكد مقدار الحقيقة التي هي غير معروفة كليا او لايمكن فهمها بواسطة العقل الانساني. الكائن الانساني الفرد يبرز في العالم في عصر ومكان محددين، ولديه حياة قصيرة نسبيا في ظل الموت واللاّيقين المستمر.

خلال هذا الوجود المحدود، على الفرد ان يتكيف مع العالم الخارجي في صراع لا ينتهي ضد المجهول. حدود الوجود، التفكير المتحيز، وحدود الفهم كلها تؤدي الى الاوهام والتي يمكن تصورها كحقيقة. هذه هي اوهام المعرفة والفهم، اوهام الايمان واليقين، اوهام الزمن والابدية، الحرية، الرغبة الحرة، ومعنى الحياة. الاوهام يمكن ايضا ان تبرز من تصورات لاتدعمها الحقائق. الاوهام توفر راحة وجودية لكنها يمكن ايضا ان تؤدي الى عدم الرغبة لرؤية الاشياء كما هي وبدون اوهام.

لكي يعترف المرء بالطبيعة الاسطورية للواقع، هو يصارع للتمييز بين الاوهام والحقيقة. ولكن ليس واضحا دائما ما اذا كان المرء يصل الى فهم عميق للواقع ام انه فقط ينتقل من وهم الى آخر. يميل الانسان بمعرفة او بدونها، لتشويه او تحريف الواقع لكي يجعله اكثر قبولا. الذهن الانساني يتم ارشاده نحو الاوهام التي يمكن تكييفها لحاجات الانسان ورغباته. من الصعب القول اين ينتهي الواقع واين تبدأ الأوهام لأن الانتقال بينهما عادة غير واضح وملتبس. ان تصوّر الانسان للعالم يتشكل باللغة. ولكن كل من اللغة وفهم الواقع عبر شكل من اللغة هما محدودان من حيث الاساس. السؤال هو حول ما اذا كانت الكلمات تمثل الواقع، او مفهوم للواقع، او تمثيل مختزل للواقع، وما اذا كانت الكلمات واللغة تخلقان حقائق منفصلة.

حدود التصور، التفسير، الادراك لا تسمح بفهم كامل للحقيقة. تصورات الانسان للعالم ومفاهيمه للتفسير لافكاك منها وغير قابلة للفصل. وهكذا ولمدى أبعد، تكون الحقيقة المتصورة قد نُسجت بشكل معقد مع اوهام الملاحظة وتفسيراتها. من الصعب اختزال وصف الحقيقة بحقيقة واحدة او بأقل عدد من العناصر الاساسية. الذهن الانساني منحصر بالدماغ الذي هو مليء بالمحددات والتي تمنعه من اتخاذ منظور منفصل. ليس للذهن اتصال مباشر بالواقع، القيود المفروضة على حواس الانسان والادوات التي يستعملها تسمح له بتصور جزء صغير فقط من الواقع. حتى تلك التي تُنسب الى الكون المُلاحظ والمتوفرة للحواس والوسائل العلمية يمكن ان تتشوه بالغربلة والتفكير المتحيز.

وهكذا، يكون الذهن الانساني مقيد فيزيقيا ومفاهيميا بمحدداته وبرمجته. وبالتالي، فان الحالة الفيزيقية والذهنية للكائن هي التي تقرر ما يفكر به وطريقة تصوره وتفسيره للواقع. وبما ان دماغ الانسان يقتصر على عالم بثلاثة أبعاد، فان الذهن ايضا مقيد بهذه الظروف. التعلم الرياضي يوفر تمدداً الى ما وراء الحدود الطبيعية للتفكير. غير ان الذهن غير قادر على تصور الاشياء وراء حدود المنطق او التفكير الرياضي الى ما وراء الحدود المفاهيمية. حواس الانسان محدودة، انها تقرر حدود العالم الملاحظ. مع ذلك، فانه في وعي الحاضر، يبرز الوهم بان المرء يتصور العالم ككل بدلا من جزء منه.

يمكن للمرء الخلط بين "الواقع" و"المظهر" او اجزاء مما يمكن ملاحظته. المأزق النهائي هو في تقرير الواقع العميق الكامن وراء مظهر الواقع. التجريد العلمي هو تقريب للواقع وليس الواقع ذاته. النظريات العلمية يمكنها فقط ان تقدم خارطة محدودة للواقع، وليس تمثيل دقيق له. في التحليل النهائي، لايمكن ابدا للمرء التأكد من المطابقة المباشرة بين النظرية والواقع. يستطيع المرء فقط الحكم على النظرية على اساس قدرتها التنبؤية. الانسان يكافح من اجل بناء وتنبؤية كعلاج لفوضى ولايقين الحياة. الافراد دائما جزء من هيكل او بعض بناء. هم اُدخلوا في عالم مستمر او مجتمع معين او ثقافة او دين فيها للفرد تأثير ثانوي فقط. الفرد اما يحاول التكيف لهيكل معين او يحرر نفسه منه. ولكن حتى لو نجح المرء في تحرير نفسه من هيكل معين، فهو سينتهي الى هيكل مختلف آخر. الجزء الاصعب هو التحرير الكامل من كل القيود التي تتضمن الذات والانا، والمجتمع، والبيئة، والانتقال الى ما وراء عالم الحواس المضلل، وملاحظة العالم مباشرة كما هو.

بما ان العالم يتم تصوره من خلال الرموز المتكونة والمختزنة في اذهان الافراد، فان السؤال هو ما اذا كانت هذه الرموز او images، التي هي مجرد تمثيل للأشياء وليس الاشياء الحقيقية، تمثل حقا الواقع وكيف تؤثر في تصوره وتفسيره. القضية الهامة هي كيف نحرر الذهن من الافكار المتصورة مسبقا، وننظر الى كل رمز من منظور جديد بدون اي تأثير للمعاني القبلية. في هذا السياق، يكون المأزق الاساسي لحياة الانسان هو، انه على الرغم من ان القيود الفكرية لا تسمح للذهن لتفسير الواقع الموضوعي كشيء هادف تماما، لكن الذهن لا يقبل الواقع كشيء بلا معنى بالمطلق. هناك دائما لايقين وغموض حول معنى الكون والحياة الانسانية.

المفاهيم

هي بناء من النظريات، وافكار مصممة يمكن ايصالها باستعمال انظمة رمزية مثل اللغة الطبيعية او الرياضيات. المفاهيم والنظريات هي ابنية انسانية، ليس لها وجود مستقل خارج الذهن وهي دائما جزئية ومؤقتة. تجارب الانسان ورؤاه تصطبغ بمختلف انواع المفاهيم التي تقارب تمثيلات الواقع في الذهن، وبهذا لا توجد هناك مطابقة مباشرة بينها وبين الواقع. لكن هذه المفاهيم تقدم بعض المعايير لليقين وهي بناء لإيصال الملاحظات والافكار في بحث مستمر عن الحقيقة والمعرفة. القلق الوجودي العميق والاساسي هو في محاولة التوفيق بين رغبة الانسان في العيش في كون هادف ومنظم من جهة والحقيقة التي لا مفر منها بان الكون عند مستوى اساسي هو احتمالي وان وجود الانسان غير مؤكد. الاطار المفاهيمي يوفر نوعا من الوقاء الوجودي ضد حالة اللايقين الدائم للحياة وهو ايضا يوفر بعض العزاء لكون معروف نسبيا ويمكن التنبؤ به.

غير ان المفاهيم والنظريات تخلق ايضا انطباعات زائفة للفهم، جاعلة من الصعب التمييز بين الوهم والحقيقة. المفاهيم تميل لتقييد الذهن الانساني. المفارقة هي ان المرء يجب ان يطور مفاهيم ويشك بها في آن واحد، ويجب عليه ان يتعلم ولا يتعلم ايضا لكي يخلق بعض المعنى للواقع. والاّ، فان المرء يتقيد بالمفاهيم غير التامة ويُترك مع اوهام الفهم. بما ان كل المفاهيم هي هياكل انسانية، فهي لها محدودياتها. تحديد حدود المفاهيم عند التطبيق هو امر ضروري. اذا كانت هذه الحدود والقيود لم تُعرف وتفهم بشكل دقيق فان المفاهيم قد تتحول الى دوغما واوهام. الذهن الانساني يميل للالتصاق بالمفاهيم التي عادة تصبح اوهاما راسخة في الذهن.

مثال على ذلك هو مفهوم الزمن، الذي لاغنى عنه لتجارب الانسان لأنه يعرّف الحياة ويعطيها معنى. لكن الزمن غير حقيقي بالمعنى الصارم، ما هو حقيقي هو التغيير او العملية. الزمن هو قياس للتغيير مثل الحركة او التقدم في العمر، مقابل مقاييس متفق عليها مثل قوانين حركة الكواكب او الساعة. هذه التغيرات تترسخ في ذهن الانسان منذ الولادة وهكذا تبدو كصفات طبيعية للحياة. زمن حياة الانسان هو قياس نسبي لعملية النمو البايولوجي المرتبط بحركة الارض حول الشمس. لا وجود للزمن كواقع فيزيائي موضوعي، انه بناء انساني يوفر سياقا للعالم المتغير باستمرار. في الحقيقة، ما يلمسه المرء طوال حياته ليس الزمن ذاته وانما التغيير، وكل الوسائل المستخدمة لقياس الزمن ترتكز على قياس التغيير. لكن وهم حقيقة الزمن هو مترسخ في ذهن الانسان لدرجة ان الحياة يتم تصورها كتدفق عبر الزمن. وبما ان الزمن متناهي للإنسان الفاني، فانه يصبح الصفة الثمينة جدا للحياة.

الحرية والرغبة الحرة

من المفاهيم الاخرى الهامة هو مفهوم الحرية والرغبة الحرة. السؤال هو ما اذا كان المرء حرا في عمل خيارات مستقلة عن العوامل الخارجية او ان خياراته وافعاله مقررة سببيا بالظروف والاحداث السابقة. التصور بامتلاك المرء رغبة حرة مترسخ في تجربة الانسان – بدءاً من الخيارات الروتينية مثل ما نلبس وما نأكل حتى الخيارات التي تؤثر في اتجاه حياة الفرد. ولكن هل ان الفرد حقا لديه حرية كاملة للاختيار؟ اذا ثبت ان الرغبة الحرة هي مجرد وهم، ذلك يعني ان الافراد ليسوا مسؤولين عن افعالهم، وهذا ستكون له دلالات عميقة للحضارة الانسانية التي تثق بالرغبة الحرة للأفراد في مسائل الاخلاق والعلاقات الانسانية والسياسة والقانون.

وجود الانسان وحرية الفرد والرغبة الحرة كلها مقيدة بالقوانين الطبيعية وبالمحددات الفيزيائية والفكرية بالإضافة الى العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تتجاوز سيطرة الافراد. هناك ايضا التجارب الماضية والقرارات التي تؤثر على خيارات الفرد، بالاضافة الى الغموض الادراكي والحوافز اللاواعية التي تمنع الفهم الكامل لطموحات الانسان وافعاله. الرغبة الحرة لايمكن عزلها عن المؤثرات البيئية التي قد تكون مختبئة او لا يمكن فهمها بوضوح. لكن عدم المقدرة على تحديد حدود وقيود الحرية والرغبة الحرة قد يؤدي الى تصورات مضللة بانها غير مقيدة.

قرارات الافراد وخياراتهم يتم التوسط فيها عبر عمليات الدماغ الفيزيائية والكيميائية. تعقيدية التفاعلات بين ملايين الاعصاب في الدماغ هي هائلة، وان ديناميكية هذه التفاعلات تتغير باستمرار استجابة للمؤثرات الخارجية والداخلية مولدة افكارا وخيارات جديدة.الذهن الواعي محدد فقط بجزء صغير من المعلومات او الافكار للتحليل في وقت معين، بينما الذهن اللاواعي غير منفتح للاطلاع الواعي. الكمية الهائلة من المعلومات من العالم الخارجي، والتجارب الماضية والذكريات، والنطاق المتوفر من الخيارات هي في تدفق مستمر، تنعكس وتتغير ضمن سياق الظروف المختلفة وفي كل لحظة.

هذه كلها تحاك مع عوامل اخرى وعمليات غير مرئية للاطلاع الواعي والتي تؤدي الى عدم التنبؤ بالسلوك الانساني. العدد الهائل من العوامل المؤثرة على قرارات الفرد تجعل من غير العملي تعقّبها لمصدرها الاصلي بدرجة من اليقين التام. هناك مستويات متعددة من السببية، من الآليات الكيميائية البسيطة الى العمليات البايولوجية والاجتماعية حتى السلوك.

سلوك الانسان وافعاله يتطوران باستمرار مقابل خلفية التفاعلات المعقدة مع البيئة، بما في ذلك الافراد الآخرين. المرء قد لا يعرف ابدا الى اي مدى هو المصدر الوحيد للخيار او الفعل وما مدى التأثير القادم من المصادر الخارجية. ما يبدو من نقص في السببية وعدم التنبؤ في السلوك الانساني يمكن تصوره كحرية اختيار او كرغبة حرة. قد لا يتنبأ المرء ابدا بالمستقبل بدرجة من اليقين. الانطباعات، الافكار، الآراء، المفاهيم والمعرفة ليس لها دوام، لأنها تتغير باستمرار ويعاد تفسيرها. وهكذا بما ان المستقبل غير مؤكد ولا هو ثابت، لذا يمكن للمرء تطوير ايمان بامتلاك الحرية والرغبة الحرة حتى لو كانتا وهماً.

اليقين الديني

ان عدم المقدرة على كشف المجهول، والحاجة لمسايرة قوى الطبيعة والاخلاق الانسانية، مترافقة مع الرغبة لإيجاد علاقات سببية واضحة في العالم، يجعل هناك سببا مقنعا لمفهوم الله. تطوّر هذا المفهوم كان حتميا منذ فجر الحضارات الانسانية، لأن هناك حاجة لتفسيرات وضمانات للحماية، فجاءت مختلف الاديان التي تقدم صيغ اليقين في هذه الحياة والأمل بحياة اخرى. اليقين يتأسس بالتوافق مع العالم عبر حضور قوة عليا. الحياة الوحيدة التي يمكن ان يمارسها الفرد تتضائل امام توقّع وجود آخر افضل وواقع قد لا يوجد. الطقوس الدينية تترسخ بالصلوات في بيوت العبادة التي تعمل كدائرة مغلقة للفكر.

لكن الأحكام في ظل تاريخ الانسان المليء بالكوارث الطبيعية والحروب واللاّعدالة لايبدو يحصل فيها المصلّون على جواب. التفكير الديني يحمل اشارة ذاتية معتمدا على المنطق الدائري. المشكلة الاساسية هي ان الوثوق بالمفاهيم التي لا يمكن التثبت منها وقبول الاشياء بدون دليل قد يؤدي الى الانفصال عن الواقع. لا احد يمتلك احتكار الحقيقة، وان الايمان لا يمكن ان يكون بديلا لها. الخضوع الى المجهول المحتفظ بصمته والذي لا يمكن الوصول اليه سوف يجبر الانسان دائما لصنع المجهول ضمن حدود تصوره وفهمه. وهكذا، يُختزل اللامعروف الى مجموعة من المبادئ الانسانية غير التامة التي تُضعف من قوته. وبالنتيجة يكون الناس خلقوا مفهوما عن الله محدد لذاته يتعزز بما يحمل من منطق دائري. وهذا ايضا يفرض حدودا على الدين.

الحياة والفن

حياة الانسان هي نعمة ونقمة في آن واحد. انها مليئة باللحظات الرائعة والذكريات والتجارب مقابل الحالات المظلمة للألم والمعاناة والخوف من الموت و اللاّيقين. عدم التأكد والغموض في الحياة يؤديان الى قلق وجودي. التجارب طوال الحياة، مصحوبة بالمقارنات المستمرة والاختلافات بين الاضداد والخيارات، يخلق حالة من الاستياء المستمر والشعور المؤذي في ان هناك شيء مفقود في الحياة. في نهاية الحياة، وبعد مرور سلسلة لامتناهية من التغيرات، سيُترك الفرد دون جواب محدد عن سخافة الحياة هذه. في هذه الدراما الانسانية، يبحث الافراد كلاعبين اما عن دور، او عن المؤلف الاصلي، او عن المصدر الاساسي لذلك كله.

الانطباع عن الحياة يتأثر كثيرا بعدم معرفة الموت، والذي يحفز السعي نحو التفكير الذاتي والمعنى. التوق للخلود هو رد فعل الانسان للخوف من اللاوجود. ولكن ما معنى الحياة اللامتناهية؟ من الصعب تحمّل الواقع مع كل ما فيه من اللايقين اثناء فترة الحياة القصيرة نسبيا. مع الخلود، ستصبح استمرارية اللامعرفة بالحقيقة النهائية وازعاجات الحياة امرا غير قابل للتحمل. ولكن الرغبة بالخلود كبيرة جدا لدرجة ان عقائد الانسان وطموحاته دائما ما تتشكل بها.

مأزق انساني آخر يرتبط بما يشكل "الحياة الجيدة" وكيف تتحقق. مظهر مهم لهذا السؤال هو ما اذا كانت الحياة الجيدة ترتكز على مختلف الاوهام، او ما اذا كان من الافضل انجازها عبر البحث عن الحقيقة المتصلة بطبيعة الكون.

من السهل تكييف الاوهام لرغبات الافراد وحاجاتهم، على عكس الواقع الذي هو لا يختلف باختلاف ظروف الافراد. ولكن عندئذ ما الفائدة من الهروب من الواقع من خلال الاوهام؟ الحياة ستصبح كوميديا ساخرة مليئة بالمظاهر. الصراع لتجاوز المجهول يرفع الانسان الى ما فوق اصوله. مفهوم "الحياة الجيدة" يصعب تعريفه او قياسه، لأن كل فرد له طريقته في تصوّر ما هو مهم او ثمين في حياته. تصوّر وتفسير الحياة الجيدة يعتمد على مختلف سمات الفرد ورؤاه بالإضافة الى الظروف الشخصية والثقافة والدين والتجربة والمعرفة.

بالنسبة للبعض، الحياة الجيدة تعني تلبية الحاجات الاساسية للبقاء او غياب الألم والمعاناة، او تحقيق الراحة من خلال اكتساب الثروة. بينما آخرون يرون الحياة الجيدة هي الحياة الخالية من الإثم طبقا للمبادئ الدينية، او هي الكفاح لتقديم وصف دقيق للواقع طبقا للعلوم. بالإضافة لفكرة الفرد عن الحياة الجيدة، هناك ايضا رؤية مشتركة للحياة الجيدة تتصل بالطموح لمجتمع عادل. في النهاية، لاشيء جيد بما يكفي لأن الرغبات لامتناهية. بدءا من الحاجات الاساسية للحياة الى السعي المستمر لراحة اكبر، فان البحث عن الحياة الجيدة لا ينتهي ابدا واستمراريتها ليست ثابتة.

ولكن هناك اشياء لايمكن تحقيقها ابدا، كل ما يمكن بلوغه هو دائما ناقص ومحدود ومؤقت. حياة الانسان هي مجموعة من المشاهدات العشوائية والذكريات والافكار والخيارات والتجارب، وتفسيراتها المتحيزة. بعض هذه التجارب في الحياة يتم تصورها باعتبارها "جيدة". ثم هناك التجارب الماضية والقرارات التي يمكن ان تؤثر على تصور المرء للحياة الجيدة. الحياة يجب النظر اليها في كليتها، لكنها مركبة من عدد من الاحداث والذكريات التي تُلتقط في الذهن، حيث، كما في المؤلفات او التراكيب المجردة، صورة الحياة تتكون بفعل سلسلة من الملاحظات الجيدة والسيئة. العالم ليس قناة للحياة الجيدة لأن المواقف المتكررة والصعبة مثل الامراض والمشاكل المالية عادة تتدخل فيها.

تحقيق الحياة الجيدة يستلزم انقطاع فيها بفعل مشاكل عشوائية، يتبعها كفاح مستمر لإستعادة الحياة الجيدة. كل شيء في تدفق مستمر. هناك دائما شيء ما او شخص ما يعكر حياة الانسان. ولكن مع ذلك، هناك في الحياة "لحظات جيدة" تبقى في الذهن طويلا مع استعادة متكررة. اذا كانت مثل هذه اللحظات تشغل الكثير من وعي الانسان الواعي، فهي يمكن ان تعطي وهم الخيرية. الفن هو جهد ابداعي لإلتقاط الواقع ولإيجاد معنى له من خلال اوهام الادب والفن المرئي والموسيقى. الفن، كأي وهم آخر، يوفر العزاء لإزعاج وضجر الحياة. انه جهد في كل من خلق الواقع والهروب منه.

المفارقة هي ان الفن يشوّه الواقع لكي يكشف جوهره. تشويه الحياة بواسطة الفن يسبب الالتباس عندما يميل المرء لمقارنة وجوده مع ما موجود في كتب الخيال او الافلام. اذا لم يميز المرء تلك كأوهام فهو قد يصبح غير راض بالحياة. دراما الاوهام سوف تبقى دائما خيالية، على عكس الحياة غير المكتوبة المحكومة بالصدفة. الادب، الفن المرئي، الموسيقى هي تجسيدات رمزية للواقع، مثل التصور والتفكير. غير ان هناك ميل للخلط بين تلك الحقائق الذهنية والحقائق الفيزيائية والتعامل معها كما لو كانت حقيقية. وهكذا، فان كمية كبيرة من جهد الانسان يُخصص للتعامل مع التوترات بين اوهام وحقائق الحياة. الفن يمدد حدود تصورات الانسان وفهمه للواقع. القصة مليئة بالاستعارات والرموز التي هي اوهام تمنح معنى للواقع الانساني. الفن ليس مقلدا فقط للحياة وانما هو ملتصق بها وهو يشوّه واقع الحياة عبر خلق معنى من خلال الاوهام والتصورات.

استنتاج

الانسان يبحث عن اليقين والمعنى والمعرفة والحياة الجيدة في عالم غير مؤكد قد تصطدم فيه صخور عملاقة مع الارض فتنهي الانسانية بالانقراض. ولكن الطبيعة هي ذاتها، بصرف النظر عن اي معنى او تفسير يُلصق بها من جانب ذهن الانسان. الطبيعة لا هي اخلاقية ولا هي غير اخلاقية، هي لا تختلف تبعا لمفاهيم الانسان ورغباته. العالم يتغير باستمرار، وان حياة الانسان هي سلسلة مستمرة من الاحداث العشوائية المحاكة ولهذا هي لا يمكن التنبؤ بها. الكفاح للتوفيق بين ما يبدو من سخافة في الوجود الانساني مع الرغبة بإيجاد معنى وهدف للحياة، يجعل من الصعب التمييز بين الوهم والواقع. وبالرغم من ان قوانين الطبيعة والكون تبدو مناسبة لظهور الحياة، لكن تطور الكون يبدو مختلفا عن بقاء الانسان.

وهكذا، ربما يتسائل المرء ما اذا كان هناك اي معنى متأصل او هدف للكون ولحياة الانسان، او ما اذا كان ظهور الحياة والذكاء الانساني ليس اكثر من حادث تطوري. ان امكانية انقراض الانسان هي حقيقية، ذلك يعني العبث واللاجدوى من اي جهد للإنسان في وصف الواقع. كل المعرفة التكنلوجية والعلمية والادب والمؤلفات الموسيقية والتفسيرات الفلسفية قد تختفي في الأعماق السحيقة للعدم. كل الجهود للإمساك بالواقع ستذهب سدى، وان الانسانية ستنقرض بنفس الحدث العشوائي الاول الذي اوجد الحياة في الكون. عالم كهذا يجعل من الصعب ايجاد معنى من منظور انساني. ولكن ربما هناك حقيقة أعمق حول الواقع والحياة قد لانعرفها ابداً.

The Human Dilemma Life Between illusion and Reality, Journal of philosophy of life vol 3(sep 2013)

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

القائد الجماهيريمرويات السيدة الزهراء (ع) في تفسير القرآن الكريمالإسلام دين التوازنالجيل الجديد: قضايا الهويَّة والوعي السياسيعودة ترامب المحتملة للسلطة.. قلق ايراني وأمل اسرائيلي