الدور الجهادي عند الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي
د. حازم فاضل البارز
2015-04-11 12:05
قال تعالى:- ((يا ايها الذين امنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم. تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وانفسكم ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون)) [1]
وقوله تعالى: ((من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)) [2]
تخليدا لذكر العلماء المجاهدين وعرفانا بجميل مآ ثرهم ومواقفهم الجهادية على ساحة العلم والعمل سنتذكرهم ولو بنزر قليل مما نكتب محبة بهم ووفاء لهم لاسيما اية الله العظمى الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) ودوره الجهادي فقبل الدخول في صلب الموضوع لابد ان نعرف الجهاد لغة واصطلاحا.
فالجهاد لغة: الجَهد والجُهد:- لغتان فصيحتان بمعنى واحد بلغ الرجل جهده ومجهوده اذا بلغ اقصى قوته [3]، يقال: جاهدوا في الله حق جهاده والجهد المجهود هو الطاقة والاستطاعة [4]
اما الجهاد اصطلاحا: هو بذل النفس والمال لمحاربة كل من يحارب تعاليم الدين الاسلامي او يفرض هداية الناس الى الاسلام كما خص زمن الرسول الاعظم صلى الله عليه واله وما بعد فانه لإعلاء كلمة الاسلام [5].
اقسام الجهاد
وهو على قسمين:
الاول: الجهاد الاكبر: وهو جهاد النفس اي محاسبتها على اداء الفرائض التي اوجبها الله كالصلاة والصوم... فان اداها المرء شكر الله تعالى وان غفلها وفرط في ادائها زجر نفسه وخوفها بعذاب الله، فضلا عن محاربتها على اقتراف الآثام واجتراح المنكرات بزجرها وتأنيبها[6]
الثاني:- الجهاد الاصغر
وهو على اربعة اقسام:
أ – جهاد المشركين لدعوتهم الى الاسلام
ب- جهاد من يدهم (يهاجم) على المسلمين من الكفار بحيث يخافون استيلائهم على بلادهم او اخذ مالهم وما اشبه.
جـ - جهاد من يريد قتل نفس محترمة او اخذ مال او سبي حريم مطلقا.
د – جهاد البغاة على الامام.
وسبب هذه الاقسام والجهاد بصورة عامة هي دوافع الاسلام لرسالة التوحيد والتي استهدفت الشريعة الاسلامية السمحاء منافع الناس ومصالحهم الدنيوية والاخروية من خلال توعية الانسان وارشاده الى الكمال والرقي به الى الكرامة والسعادة ساعية لإنقاذه من عبودية وذل ودنس الشرك شاملة بذلك جميع البشر لكي تربيهم وتهذبهم وتزكيهم وتعلمهم في مدرستها [7]
مقاصد الجهاد:
1- هداية الناس لدين الله الذي يحقق للإنسانية السعادة ويضمن لها الكرامة الحقيقية في ظل التشريع الالهي العادل.
2- التوحيد واعلاء كلمة الاسلام والقضاء على الشرك.
3- الجهاد يخرج الامة من الذل والمسكنة الى العزة والكرامة وعن هذا يقول الامام علي عليه السلام: (فرض الله الجهاد عزا للاسلام) [8] حيث يبين الامام عليه السلام ان عظمة الجهاد وفضله ومنزلته عند الله فهو السبيل المؤدي للفوز برضوان الله تعالى وحذر الامام عليه السلام من تركه والفرار منه، لانه له منزلة عند الله اعظم واشرف وانبل منزلة ومرتبة، لانه المضحي والمدافع عن شرف الامة من خلال تضحيته بروحه وهو رأس العبادات وقمة تعاليمه [9]
والجهاد عموماً في سبيل الله لا يتحدد بزمان أو مكان، فحياة المسلم كلها جهاد في سبيل الله، إن كان جهاد النفس وهو الجهاد الاكبر أو كان جهاد العدو وهو الجهاد الاصغر كما قلنا سلفاً، وإن العلاقة بينهما تكمن من خلال تهذيب النفس من المهام الانسانية المناطة بكل مؤمن، وعن طريقه تتحول الى ترجمتها كرسالة على ارض الواقع، اما الوسيلة الوحيدة لإنجازها فهي وسيلة العبادة والاستذكار وتجنب الغفلة والانجرار وراء الشهوات والرغبات، فمن خلال الالتزام بالعبادة والمواظبة عليها تتحول الى تنمية ملكة التقوى والوازع الاخلاقي ويصبح في مقدور الانسان التمتع بقوة الشخصية وقوة الارادة والقدرة على التأثير في وجهة الظروف والواقع بدلا من الوقوع ضحية لهما.
وفي ضوء ذلك نجد ان الانطلاق الى ساحات الجهاد الاصغر يجب ان يسبقه اعداد صارم ومتواصل في مراتب الجهاد الاكبر، كما ان القدرة على استخدام السلاح واللجوء اليه كوسيلة لتحقيق بعض الاهداف الجهادية يتطلب مرحلة التدريب والاعداء والمواظبة على التجريب والممارسة وصولا الى المستوى المطلوب من الخبرة والتعامل الجيد مع الحالات الميدانية المختلفة، ومن هنا نستطيع ان نكتشف العلاقة الوثيقة بين مرحلتي الجهاد الاكبر والجهاد الاصغر، فعن طريق مجاهدة النفس والحرص على ترويضها وتهذيبها يصبح بإمكان المجاهد ان يعطي المواجهة المسلحة مع العدو المرتبة الحقيقية والصفة الاسهل، ويكون في نفسه ويقينه اكثر استعدادا على تحمل اعبائها والقبول بنتائجها بغض النظر عما تمثله من استحقاقات وحالات قاسية كثيرا ما تتجسد بالتضحية بالنفس والتعامل مع هذه التضحية من منظور ايماني يؤكد على ابعادها الاستشهادية ويكشف عن قيمتها القدسية لكافة الاطر المادية والعناوين التقليدية.
وهكذا كان اية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره) خاض غمار الجهادين. وقبل الخوض في مضمار جهاده فلا بد ان نتعرف عليه، فهو السيد محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي (1928 – 2001) احد مراجع الدين الشيعة المعروفين في العراق وايران عرف بالقاب عديدة منها الامام الشيرازي والمجدد الشيرازي الثاني، وسلطان المؤلفين حيث ان مؤلفاته تجاوزت الالف، ينتمي الى اسرة (الشيرازي) فهو النجل الاكبر للمرجع السيد مهدي بن حبيب الله الشيرازي، والاخ الاكبر للمرجع الحالي السيد صادق الحسيني الشيرازي وينتسب لهذه الاسرة بعض رجال الدين المعروفين والمشهورين كمحمد حسن الشيرازي قائد تورة التبغ المشهورة ضد البريطانيين في ايران، وكذلك محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين في العراق [10] وقد بدأ بتأليف (موسوعة الفقه) وهو في الخامسة والعشرين، ووصل تصنيفها حوالي (165) مجلد.
ولد في مدينة النجف في الخامس عشر من ربيع الاول 1347 هـ -1928 م وقد هاجر بصحبة والده –المرجع مهدي بن حبيب الله الشيرازي– الى مدينة كربلاء وكان يبلغ من العمر آنذاك تسع سنوات. [11]
وعرف واشتهر بمكارم الاخلاق والصفات الحميدة كالتواضع، وسعة الصدر ومداراة القريب والبعيد، واحترام الصغير والكبير، ومساعدة الفقراء والمعوزين ومواساة الناس، والصبر على النوائب والعمل الدؤوب الذي لا يعرف الكلل والملل، وكثرة المطالعة والكتابة والحفظ، وحب العلم والعمل، وحسن الادارة وغير ذلك من الاخلاق الكريمة والصفات الحميدة [12]
اما جهاده والحديث عنه ودوره المؤثر الفاعل في الامة الاسلامية يحتاج الى مجلد ضخم، وسأكتفي ببعض المعلومات عن هذا المعلم، عسى ان تكون وافية لهذا البحث، حيث ان سماحته قد تفاعل مع الساحة الاسلامية في ايران، يكفي ان نعلم بان (اردشيرزاهدي) صهر الشاه ووزير الخارجية السابق عام 1963م قال عن السيد الشيرازي: لقد اوصل صوت الثورة من كربلاء الى العالم. [13]
وذلك اثر نشاط الامام الشيرازي المتزايد لدعم القضية الايرانية، ففي عام 1963 ساهم سماحته مع جماعة من العلماء على التحريض بإصدار بيان بتوقيع (جماهير كربلاء المقدسة)، جاء تحت عنوان: (ماذا يجري في ايران)، ينتصرون فيه للشعب الايراني ضد حكومته المستبدة، ويطالبون فيه الشاه بالإفراج عن السيد الخميني واتباعه لان الدستور الايراني يصر على حصانة مراجع التقليد، والامام الشيرازي (قدس سره) يعد اول من استقبل السيد الخميني في العراق –اثر نزوحه اليها، قادما من تركيا التي اقام فيها ردحا من الزمن، بعد تهجيره قسرا من ايران بعد الافراج عنه، نتيجة جهود العلماء والامة– وذلك على رأس وفد كبير خرج من كربلاء المقدسة، وضم الاف الجماهير التي احتشدت تأييدا للسيد الخميني، ومناصرة له وشعبه الاعزل في قضيتهم العادلة، ضد شاه ايران الطاغية، ويقول عادل رؤوف بهذا الشأن: ان الخطاب المرجعي اختلف في تعاطيه مع هذه التطورات بين توجيه رسائل الى الشاه تندد باجراءاته، وبين خطاب يعتمد اساليب اخرى في التأثير على حكومة الشاه من اجل تخفيف اجراءاتها القمعية ضد الحركة الاسلامية في ايران وبين جهود كان يبذلها البعض من اجل اقناع المرجعيات المترددة في دعم حركة السيد الخميني او التنديد العلني بسياسات الشاه ازاءها، وكان السيد محمد الشيرازي (قدس سره) الذي لم يتصد آنذاك للمرجعية اكثر الذين تحركوا نشاطا في ممارسة هذا الدور الذي يسعى الى اقناع المرجعيات، بما فيها مرجعية السيد محسن الحكيم (قدس سره) في ضرورة احتضان السيد الخميني، كما نقل لي اكثر من شاهد من شهود تلك المرحلة، وهذا ما انعكس على علاقته مع الثورة الايرانية بعد نجاحها في عام 1979 م، حيث كانت علاقاته مع قادة الثورة ايجابية ومؤثرة تقديرا للدور الذي بذله في تلك الفترة 1963 [14]، فسماحته (قدس سره) يشعر بالمسؤولية تجاه مبدئه وعقيدته ويتسامى بروحه الى مقام ومرتبة علو الهمة ورفعة الشأن وعزة النفس فان الجهاد يخلق من الفرد المسلم انسانا يشعر دوما بعظمة وقوة الشخصية وفاعلية تأثيرها في المجتمع لما يزرع في وجدانه وضميره الشعور بالمسؤولية العظمى للدفاع عن بيضة الاسلام [15]
وبهذا تتكامل نفس المجاهد فيعرف حقيقة الجهاد معرفة كمالية ويولد اثرا عظيما في نفسه ويفجر في نفسه احساسا بالتكامل النفسي والاخلاقي مولدا نظرة ثاقبة في نفسه تعلقت ببارئها تبارك وتعالى وحسا متعاليا بالدور المتفاعل والمتميز للجهاد في سبيل الله وماله من معطيات واثار على نفسه وعلى المجتمع في كافة نواحيه الاقتصادية والاخلاقية في هذا الشعور واثر الجهاد انما يحصل لمعرفة حقيقته فانه يبلور وحدة الامة ويجسد واقعا ملموسا في توحيد وشمل ابناء الامة ورص صفوفها وقد حققت هذه الوحدة على ارض الواقع بين المسلمين بفضل جهادهم.[16]
بعد ذلك هاجر السيد الشيرازي (قدس سره) من العراق في ظروف صعبة وبشكل سري لان النظام البعثي قام بالضغط عليه وطوق بيته تمهيدا لاغتياله او اعدامه، فكانت هجرته في 18 شعبان 1391 هـ متوجها الى بيروت ومنها غادر الى الكويت تلبية لدعوة جمع من اهاليها، وعلى اثر ذلك اصدر نظام البعث حكما غيابيا بإعدام السيد الشيرازي (قدس سره)، وقد نشر في (جريدة الثورة) العراقية آنذاك، بعد ذلك غادر السيد (قدس سره) الكويت 1399 هـ الى ايران بعد انتصار الثورة الاسلامية لمواصلة الجهاد في سبيل الله هناك بقلمه وفكره ونشاطه [17] وبالجهاد يرشد وعي الامة الاسلامية ويقوي وقوفها على طريق صلاح النفوس واصلاحها فانه مصدر اشعاع وخير للآخرين فانه يجسد للعواطف والافكار العقائدية عملا ويلهب المشاعر والاحاسيس فتتوقد عن شجاعة منقطعة النظير وعزة نفس وعطاء لا حدود له وبالجهاد تتحقق ارادة الله تعالى بإحقاق الحق وشموخ الامة عزيزة مهابة ويعتبر في منطق الدين الاسلامي دفاعا ووسيلة للمحافظة على الدين وبقائه، فهو ضرورة حياتية يحتاجها المسلمون كحاجة الكائن الحي الى الماء والهواء، لان اعداء الدين لا يتركون المسلمين [18]، وهو به تتآلف القلوب وتتآخى النفوس فانه الروح الذي يحيي جسد الامة وتتقدم وتزدهر في كافة مناحيها الدينية والدنيوية فان حقيقة الجهاد هي بذل الجهد واستفراغ الوسع في مرافقة العدو للقتال فان الغرض منه هو بناء مجتمع يسوده الاباء والعزة وكرامة النفس واعلاء كلمة التوحيد واقامة احكام الله تعالى من خلال توفير حرية المعتقد، فالمجاهد حامل سيف الحق وراية الجهاد السالك الى سبيل الهدى الراعي الى دين الحق [19]، وهذا ما نجده قلبا وقالبا عند الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره).
وايضا شكلت حياته (قدس سره) سلسلة متواصلة من الحلقات من الجهاد في سبيل الله والدفاع عن حرم الشريعة الاسلامية ونصرة المظلومين واغاثة الملهوفين ومواجهة الحكام الجائرين بالمواقف المبدئية والاساليب السلمية المشروعة، وقد عانى الكثير في سبيل ذلك، حيث واجهته الحكومات الجائرة بمختلف السبل وتصدت للقضاء عليه وعلى فكره بشتى الطرق، وكان الصبر والصمود والاستقامة ومواصلة العمل بهمة وروح متفانية وعزم وتصميم قل نظيره الا في الرجال الافذاذ الذين ارخصوا النفوس وما لذ وطاب من الدنيا لأجل اهدافهم السامية ومبادئهم الرفيعة، وقد شهدت العديد من البلدان ثمار جهوده وجهاده وبنائه في العلم والعمل والتضحية في سبيل الله سبحانه وتعالى، وقد تعرض في سبيل ذلك لأشد المخاطر والاهوال، حيث تعرض كما قلنا لمحاولات الاغتيال عدة مرات، كما تعرضت افكاره وكتبه ومؤسساته الى الحرق والمصادرة والمنع وتلامذته الى السجن والتشريد والمضايقات، الا انه لم يتوان عن عزمه ولم يتراجع عن اهدافه ومبادئه الحرة الداعية الى انقاذ المسلمين والنهضة بالأمة الاسلامية نحو غد افضل يسوده العدل والحرية والسلام وكان مبدأه في الحياة السلم واللاعنف فتميز عن غيره من العلماء والقادة باسلوبه.[20]
فالجهاد هو مدرسة لتربية ابناء الاسلام وهمهم هو الوفاء والاخلاص والتفاني من اجل رضا المولى عز وجل، لذا ينبغي ان يكون المجاهد رحيما ورؤوفا بإخوانه في المعركة وغيرها فهو بذلك يقتفي اثر النبي (صلى الله عليه واله وسلم) خصوصا في المعركة التي يكتسب فيها رضوان الله بالجهاد في سبيله والتضحية وتربية المجاهد على التضحية والعطاء في سبيل الاسلام [21] والعقيدة والتربية وتهذيب اخلاقه في مختلف المجالات، فان الجهاد له تأثير كبير في بناء شخصية المسلم حين تكون شخصية اسلامية قريبة من الله سبحانه وتعالى في الجهاد، فالمجاهد يعلم ان السبب الاساسي لتجمع الناس حول النبي (صلى الله عليه واله وسلم) ودخولهم في دين الله ورحمته.
ان اي حركة جهادية في جسم الامة تحتاج الى اسس ومرتكزات ثلاثة وجود المبدأ السليم وايمان الامة وفهمها له والعمل به، وامتنا الاسلامية محتاجة الى الاسس الثلاث فالفهم للمبدأ الصحيح والعمل به هو الذي يربي ابناء الامة ويدفعها للدفاع عنه والتضحية من اجل نشرة وتدقيق الناس به، فان التغيير يبدأ اولا بتربية الامة كي تتغير احوالها فمبدؤنا السامي ثري حي وايمان الامة به واضح، فلم يبق سوى فهمنا ووعينا له في الدفاع عنه والامة مختلفة في فهمها للمبدأ بصورة عامة فهي لا تفهمه حقيقة الفهم ومن اسباب ذلك ما لحق بالأمة الاسلامية من مؤامرات وابعاد الامة عن مبادئها، وهذا ما عمل به سماحة الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي بعد ذلك لبى (قدس سره) نداء ربه وانتقل الى رحمة الله الواسعة في يوم الاثنين (2/ شوال 1422 هـ) وتم دفنه الى جوار السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، في مدينة قم المقدسة فنسال الباري عز وجل ان يتغمده بواسع رحمته ويحشره مع جده محمد صلى الله عليه واله وسلم.
واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.