المجتمع بين استسهال القتل وعبثية الفاشينيستا
تارة فارس مثالاً
عادل الصويري
2018-09-30 04:55
رغم أنها حاولت أن تظهرَ بمظهر الواثقة من نفسها، غير المبالية بسهام النقد الموجهة إليها، وذلك من خلال البرنامج الحواري الذي ظهرت فيه؛ إلا أن ملامح وجهها لم تستطع إخفاء حالة الاضطراب الكبير الناجم عن صدمة معينة جعلها تسلك مسلكاً يتخبط بين صراع المفاهيم، بين الحرية الشخصية من جهة، وبين المحددات المجتمعية وخصوصيتها من جهة أخرى.
الحديث هنا عن (تارة فارس) التي امتهنت (المودل) أو (الفاشينيستا)، والتي لقيت حتفها في بغداد برصاصات مجهولة، بعد أن أحدثت ضجة كبيرة في وسائل التواصل الاجتماعي، من خلال ماتعرضه من صور ومقاطع فيديو لها وهي ترتدي الملابس المثيرة للغريزة، فضلاً عن بعض قصات الشعر الغريبة، وغيرها من الأمور، الأمر الذي جعلها محط اهتمام شريحة كبيرة من المراهقين الذين صاروا لها متابعين ومحبين، حتى صارت الكلمة التي تقولها هذه البنت رأياً عاماً يأخذ حيزاً كبيراً في الوسائل الاتصالية.
وحادثة اغتيال هذه البنت، وبهذه الطريقة الغامضة؛ تجعلنا نعيد الحديث ــ وبسياقات فكرية ــ عن المسببات المجتمعية القاهرة التي تجعل بناتنا للأسف الشديد يسلكن المسالك الخاطئة كرد فعل على القهر المجتمعي، وسوء فهم الحرية، وحرية التعبير.
الاضطراب الذي كانت عليه تلك البنت خلال البرنامج الحواري، بدا واضحاً حين سألها المُحاورُ عن فشل زواجها، وبالتحديد عن قيام طليقها بخطف ابنها الصغير منها، وأن ابنها صار يقول كلمة (ماما) لزوجة أبيه. تعابير وجه (تارة فارس) تحدثت بكثير من الأشياء التي حاولت إخفاءها، وليست هذه التعابير مستغربة بطبيعة الحال؛ لأنها إنسانة وأم أولاً وأخيراً.
ومهما اجتهدت الدراسات والأفكار الحداثوية التي تقرأ الحداثة مقلوبةً في ترسيخ قضية (التحرر الأنثوي)، من خلال تصدير برامج ومسلسلات وأفلام، تحث على إمكانية استغناء المرأة عن الرجل، والاستقلال بذاتها، تحت ذريعة عدم مصادرة شخصيتها؛ فإن مصير هذه الأفكار سيؤول إلى الفشل المحتم؛ لعدم واقعيته، حتى مع ارتدائه الأفكار التي تبدو براقة في ظاهرها، وهادمة مؤذية في باطنها، خصوصاً إذا قسناها مع الفطرة البشرية للأنثى، وربما من المناسب الاستشهاد بحالات إنتحار الفتيات في أوروبا وأسبابها لتدعيم هذه الفكرة.
القتل بين استسهال وهياج مؤدلَجَيْن
من جانب آخر؛ لابد من قراءة ردود الأفعال التي صاحبت حادثة الاغتيال، وهي ردود تؤكد مجدداً خضوع المجتمع بصورة مباشرة أو غير مباشرة للانفعال المؤدلج، الانفعال القائم على التشبث بسياقات يكون الإنسان آخر همها.
وسائل التواصل ضجّت بردود الافعال المتباينة التي انقسمت في أكثرها إلى هياج من قبل أشخاص ربما هم لايعرفون (تارة فارس) ومن تكون، وماهو عملها، غير أنهم عرفوا أنها (تتعرى إلكترونياً) وقد قٌتِلتْ، الأمر الذي يعد فرصة مناسبة لتحشيد الرأي العام ضد الدين، ومتطرفي الدين الذينَ قتلوا هذه البنت وفق ذهنية هؤلاء الجاهزة، ثم تحشيد آخر باتجاه فشل الدولة التي تُقاد من قبل (الإسلاميين). وبجهد بسيط، يمكن رصد ردود الأفعال (المتمدنة) هذه التي وصلت لمخاطبة (الضحية) بعبارات تستخدم في زيارة الرموز الدينية المقدسة في محاولات بائسة لخلط الأوراق.
كما يمكن ملاحظة عودة النغمة النشاز، رغم صدورها من مراهقين لايُعَوَّلُ كثيراً على انفعالهم قياساً بإعمارهم الصغيرة، تتمثل في ترسيخ فكرة مستوردة من أفكار انتهت منذ عقود وهي فكرة أن الشرف لايتعلق بالجسد. ومع ذلك لابد من دراسة المسببات المجتمعية التي جعلت هؤلاء الشبان يركلون قيمهم وخصوصياتهم بهذه الطريقة الانفعالية والعشوائية.
أما القسم الآخر من ردود الأفعال، فقد تعامل مع الموضوع ببرودة أعصاب غريبة، وكأن الضحية شاة ذُبِحت في يوم عيد الأضحى، بل راحوا يبالغون بتصدير (الاستسهال) المتعلق بالقضية، مستغلين الرفض المجتمعي لسلوكيات هذه البنت الضحية. نعم كان استسهالاً لعملية قتل إنسانة تصرفت بشكل خاطىء من منظور مجتمعي، لكن ذلك لايعني بأية حال أن نعتبر الموضوع طبيعي حتى وإن كانت الدوافع عشائرية تتعلق بالأخلاق وغسل العار، أو دوافع جنائية.
وجبة الإعلام الدسمة
التعامل الإعلامي مع هذه القضية انقسم كذلك بين من تعامل مع الحدث على أنه خبر من جملة أخبار، وبين من راح يستغل الحدث لتصدير مشروعه، من خلال رفع راية الدفاع عن نفسيات المراهقين المتضررة جراء مقتل هذه البنت، والخوف عليهم من الإقدام على الانتحار، أو الإضرار بأنفسهم. وهكذا تعامل إعلامي خطير؛ لانعرف لماذا لاتتم محاسبته وهو الذي يحاول كما في كل مرة إحداث الشرخ أو الشروخات التي تؤدي إلى تصدع التماسك العائلي.
أخيراً وليس آخراً نقول : إننا بحاجة اليوم أكثر من أي وقت، وفي ظل الهيمنة السلبية لعناصر الاتصال، إلى مزيد من التثقيف حول أهمية العائلة، ودورها في تماسك أفرادها حتى لاتتكر مأساة (تارة فارس). والتماسك لايعني بالضرورة قمع رغبات الأولاد، وكذلك لايعني الموافقة على كل مايرغبون به، وفق عقلياتهم الصغيرة وغير الناضجة.
وأهم شيء في هذا التماسك؛ هو ضبط استخدام أولادنا لوسائل التواصل الاجتماعي، والتركيز على نصحهم (بالتي هي أحسن) الخالية من التعصب والتطرف.