المثقف كقوة ناعمة
محمد علي جواد تقي
2018-06-25 08:07
في بلدان طامحة للتغيير مثل العراق، يخال البعض ان بالامكان حرق المراحل واستعجال الامور بغية تحقيق شيء ما وسط ركام الازمات في الاصعدة كافة، لاسيما على الصعيد الثقافي، فالجميع يطمح لقيادة الرأي العام والتأثير على وعي وثقافة الناس، مستفيدين من حرية التعبير في أجواء ديمقراطية، وهذا بحاجة الى ادوات قوية ومؤثرة على الارض، فلا خيار سوى طرق أبواب السلطة، متمثلة بواجهات عدّة، كأن يكون على شكل نائب في البرلمان، او وزير، او حتى مدير في دائرة حكومية خدمية، هذا التقرّب له فوائد – من وجهة نظر البعض- منها؛ المساندة المعنوية والحصول على بعض التسهيلات، والأهم منه؛ الحصول على مساحات من حرية النشر والتعبير.
هذا التوجه من حيث الفكرة ليس بجديد، إنما الجديد في الاعتقاد عند الشريحة المثقفة بان الركون الى جانب أهل الحكم والسلطة؛ يمنحهم فرصة انتقاده والحديث عن ثغرات واشكاليات في طريقة العمل والاسلوب، بل وفتح ملفات مثيرة مثل الفساد الاداري وفقدان الكفاءة، وحتى إدانة المحاصصة السياسية التي هي روح العملية السياسية في بلد مثل العراق.
العبرة بالنتائج
محصلة هذا الجهد من أهل الفن والأدب والصحافة بحشود من المقالات والاخبار والتقارير على مختلف وسائل الاعلام، وهي مشحونة بمعلومات مثيرة وارقام مريعة تذهل الناس عن حالات فساد وتلاعب في الاموال والغذاء والدواء والنتائج الامتحانية وغيرها كثير مما يدخل في صميم حياتهم، وفي ظن هؤلاء أنهم بكشفهم للمستور، يشجعون الناس على ممارسة الضغط على الحكومة بوسائل مختلفة، ويكونوا هم اصحاب فضل في صناعة ثقافة الإصلاح والتغيير في الدولة.
بيد أن تجارب الآخرين تدل على عكس ذلك، فمن أبرز وسائل النقد اللاذع والمباشر؛ التمثيل الكوميدي على خشبة المسرح، وعلى شاشة السينما، وايضاً رسوم الكاريكاتير، فقد جرب فنانون عرب توجيه رسائل شديدة اللهجة الى الساسة في بلادهم من خلال مسرحيات وأفلام كوميدية، تحمل جملة من الثغرات، ليس في السياسات وانما في المنهج ايضاً، والتهكم بشعارات طالما تغنّى بها الحكام مثل؛ الوحدة العربية، والتصدي للكيان الصهيوني، وغيرها، بيد أن الكشف عن السلبيات وحتى الفضائح التي تبين هشاشة الانظمة العربية، لم تغير من الواقع الذي تعيشه الشعوب شيء، سوى قضاء بعض الاوقات المشبعة بالضحك والسخرية، وقد قالها ذات يوم، الفنان السوري دريد لحام، عندما سئل عن الافكار التي حملتها اعماله المسرحية والسينمائية وما اثمرت عنه بعد سنين طوال من العمل الفني، فأجاب بالنفي، مؤكداً أن لو كان يعلم بعدم جدوائية هذا النمط من العمل الفني لتغيير الواقع السيئ الذي تعيشه الشعوب، لما ضيع حياته طيلة السنوات الماضية، فقد بقيت الحكومات الديكتاتورية تواصل استخفافها بمصائر الشعوب طيلة عقود من الزمن، والاخيرة بقيت بدورها عاجزة عن فعل شيء لتغيير واقعها السيئ.
وفي ايران "الخاتمية" الحالمة بالإصلاح والتغيير في عهد الرئيس الأسبق محمد خاتمي اوساط تسعينات القرن الماضي، ظهرت لأول مرة في سوق الصحافة الايرانية مجلة متخصصة بالرسوم الكاريكاتورية، و راحت تنبش في سلبيات الحكومة واخفاقاتها وتكشف للناس عن امور لم تجرؤ الصحافة آنذاك بالحديث عنها، وكانت وجوه الوزراء والنواب بالرسوم الكاريكاتورية المثيرة للسخرية تتصدر اغلفة هذه المجلة لفترة ليست بالقصيرة، بيد أن هذا النمط من الخطاب الاعلامي، وبموازاته طبعاً؛ الصحافة الجادّة ذات التوجيه الفكري والثقافي تحت شعار الإصلاح، هي الاخرى كانت تضخ المعلومات والافكار والاثارات للقراء، فكانت القراءات بالملايين داخل ايران وخارجها عبر مواقع الانترنت، ورغم بروز بعض المشاحنات بين المسؤولين المعنيين بالانتقاد وبين هذه الصحافة "الإصلاحية" وتعرض معظمها للحظر، بيد ان النقطة الجوهرية في الامر، أن هذه الصحافة تحولت الى مشروع صراع شخصي بين هذا الكاتب وذاك الفنان، وبين هذا المسؤول او ذاك، ولم تتحول الى همّ جماهيري عام، ولذا عندما كانت تتوقف صحيفة عن الصدور، لم يكن القارئ الايراني يشعر بغيابها بين عشرات الصحف والمجلات المصفوفة صباح كل يوم في الاكشاك، ومن ثمّ غابت هذه المجلة عن الساحة كما غابت الابتسامات الساخرة عن شفاه القراء في تلك الفترة وكأن شيئاً لمن يكن.
هذا النمط من الخطاب الثقافي له انعكاسات سلبية على الشارع من جهتين:
الجهة الاولى داخلية، حيث ينعكس على الناس انفسهم من خلال حالة الاستمراء لما يقرأونه ويشاهدونه من الحديث السلبي البحت من دون بدائل او مخارج ايجابية الى درجة يتحول معه الفشل والفساد وحتى التخلف الى حالة طبيعية يعيشها الناس عندما يجدون فيها ما يضحكهم ويثير تهكمهم، ومن ثم يفرّغ شحنات الغضب من نفوسهم، وهذا ما دعا بعض الحكومات في غير بلد بالعالم الى التصدّي لأعمال فنية وصحفية من هذا النوع لانها تروج للجريمة والفساد والانحراف بشكل غير مباشر، وربما دون قصد منها.
أما الجهة الثانية؛ فهي الحكومة التي ترعى هذا النشر بادعاءاتها الديمقراطية، فهي في الوقت الذي تستفيد من انشغال الناس بالسخرية والتهكّم عن التفكير بالتغيير الجذري واساس المشكلة، فهي تضفي على نظامها السياسي وايضاً شخوصها، مسحة من الشرعية والمقبولية لدى الناس، ودفع الناس عن التفكير عما هو بعيد عن جدار القصر الجمهوري او مراكز القرار، بل وبؤر الفساد.
المثقف والمهمة الرسالية
عندما نقرأ الآيات القرآنية الكريمة وهي تتحدث عن هوية الانبياء والمرسلين على امتداد التاريخ البشري، تسهل علينا معرفة هوية المثقف ومن يكون؟
القرآن الكريم يعرّف الانبياء على لسان السماء؛ {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ}، سورة المؤمنون/32، وفي آيات أخرى تتحدث عن سماته وأخلاقه، بأنه {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ...}، سورة الفرقان/20، فمهمة تحرير مجتمع وأمة من الأغلال الفكرية وعبادة الأوثان الحجرية والبشرية، والتطلع نحو حياة أفضل، ينبغي ان تنطلق من صميم المجتمع لا أن تأتي من الخارج، ومن يرفع لواء هذا المشروع يجدر به ان يكون من رحم هذا المجتمع، يعرفونه بصفاته وخصاله ومواقفه طيلة الفترة التي تسبق بعثه للنبوة او اختياره للرسالة، بل حتى من غير المرسلين بشكل مباشر من السماء، والقرآن الكريم يبين لنا قصص رائعة عن هؤلاء الذين تعرفوا قبل كل شيء، على جذور المشكلة في مجتمعاتهم ثم بدأوا عملية العلاج وتقديم الحلول والبدائل.
لذا نجد انبياء مثل؛ لوط وشعيب، ينطلقون من المشكلة الاساس في مجتمعاتهم ويحاولوا معالجتها، مثل ظاهرة الشذوذ الجنسي في مجتمع نبي الله لوط، ومشكلة التطفيف، وهي مشكلة اقتصادية في مجتمع شعيب، حيث كانوا يخسرون الميزان ويمارسون نوعاً من انواع الفساد المالي آنذاك، وهكذا مسألة الشرك بالله –تعالى- وعبادة الاصنام البشرية الامر الذي كان يتسبب في اصطدامهم مع السلطات مما يجدونه من خطر حقيقي على ملكهم ومصالحهم.
إن الخوض في المشكلات والأزمات السطحية في مؤسسات الدولة تشبه السير في المتاهات الى أمد غير معلوم، مع بذل الكثير من الجهد والوقت الثمين دون نتيجة تذكر، فيما يبقى المجتمع والشعب برمته يعيش هذه الازمات بوجود عوامل انتاج لها، مثال ذلك؛ الفساد الإداري والمحاصصة السياسية في العراق، كيف السبيل لمعالجتها؟ هل بمزيد من الفضائح من جهة او التنظير وطرح الافكار المجردة؟
وليس خافياً على شريحة المثقفين والمفكرين وممن يحملون مشعل الوعي في الامة، ان الغوص في أعماق المشاكل والازمات يتطلب جهوداً جبارة، مع تحديات كبيرة مثل؛ الإقصاء، والتحجيم، ثم تلفيق الاتهام وبعدها الاعتقال، او النفي، بل وحتى الموت باشكال مختلفة، لان مهمة الإصلاح والتغيير الحقيقيين يستدعي مكافحة ظاهرة الديكتاتورية كحالة نفسية تتجسد ليس في شخص رئيس الدولة، إنما في موظف بسيط، او شرطي، او أي فرد من افراد المجتمع، وكذا الفساد الاداري والمالي، الذي ينطلق من نزعات نفسية واضحة، بيد أن المشكلة في عدم وجود الجرأة على إثارة مسألة حب المال حبّاً جمّاً لا حدود له لدى شريحة واسعة في المجتمع، ومنهم المتنفذين، وهكذا القائمة تطول لظواهر ومشاكل عدّة تبدأ من سلوك فردي وتنتهي لتشكل أزمات كبرى يئن منها المجتمع بأسره.