الخبر الأول: دكتاتورية الزعماء في نشرات الاخبار

مسلم عباس

2017-07-29 05:10

في عالم الصحافة والاعلام يمكن للحدث ان يصبح خبرا اذا توافرت فيه مجموعة من معايير النشر (بعضها او جميعها)، وكلما اجتمعت هذه المعايير في حدث واحد كلما ازدادت فرصه للبث او النشر، واهم هذه المعايير هي قرب الحدث من الجمهور جغرافيا ورمزيا، وضخامته وجدته فضلا الجوانب الإنسانية، ومعايير أخرى قد تزيد او تقل حسب تصنيفات الباحثين والصحفيين.

وفي الفضائيات التلفزيونية العالمية يتم انتقاء الاخبار وفق محددات صارمة (رغم ان ذلك لا ينفي تهمة الخروج عن هذه المعايير لبعض الفضائيات، حيث تسقط في حفرة الاعلام الدعائي) اما الخبر الأول في نشرات الاخبار فله قدسية خاصة لدى الكثير من الفضائيات باعتباره يمثل هوية القناة والتزامها إزاء جمهورها، فيتم انتقائه من بين مئات الاحداث العالمية ليتصدر المشهد الإعلامي لليوم، وفي بعض الأحيان تكون اغلب الاخبار التي تلحقه تفرعا منه ورافدا يصب في تعزيز الفهم لدى الجمهور وتغطية ذلك الحدث باقصى قدرة ممكنة.

وقد يتحول حدث معين الى تغطية كاملة طوال يوم او عدة أيام كما هو الحال في الملتقيات الكبرى لزعماء العالم، مثل قمة العشرين او قمة الدول السبع، او حتى اجتماعات دول الناتو والمحادثات التي تجري لمناقشة الازمات سواء في الشرق الأوسط او أي بقعة من دول العالم.

هذه قد تكون معايير ثابتة في تغطية الحدث واعطائه قيمة إعلامية يفهم عن طريقها الجمهور حدث اليوم لمجرد التعرف على الخبر الأول، وما يتبعه من اخبار لاحقة، اما في الفضائيات العربية فان لها معايير مختلفة في تحديد الخبر الأول في نشرات الاخبار، فالطابع السياسي هو المعيار ورئيس الحزب هو الخبر الأول من دون أي جدال او محاولة للنقاش العلمي، وبالكاد لا يتخلو نشرة إخبارية عراقية او عربية في خبرها الأول من شيء يتعلق بزعيم الحزب الذي يملك القناة بغض النظر عن أهمية هذا الزعيم للجمهور وتاثيره على الحياة العامة، اما في الفضائيات الرسمية فنشرات الاخبار محجوزة مسبقا لرئيس الدولة ووزرائه.

وحتى في بعض المناسبات الكبرى والاحداث التي تطغى على الساحة الاجتماعية يبقى زعيم الدولة او الحزب في المقدمة، ليسحب هذا التقدم المفروض على الجمهور الفضائية التلفزيونية الى قاع الترتيب في قوائم التفضيل على الريمونت كونترول.

وتعد سطوة الزعماء السياسيين (عديمي الفائدة إعلاميا) من المشكلات التي تهدد منذ زمن بعيد العمل الإعلامي في الدول النامية عموما والعربية على وجه التحديد حيث ادت الى عدم قدرة الفضائيات التلفزيونية بالدخول الى ميدان التنافس الاعلامي، وهذه الظاهرة جزء من ترسبات الأنظمة الدكتاتورية، بل هي تقليد سياسي يوحي بدكتاتورية الأحزاب السياسية القائمة.

ان سيطرة زعيم الدولة او الحزب على نشرات الاخبار تعطي نتائج سلبية على الفضائية التي يملكها وعلى الحزب نفسه وكالاتي:

اولا: بالنسبة للمؤسسة الاعلامية التي تعد لسان حال الزعيم تتشكل الصورة طبقا لطريقة عرض الاحداث والصراعات السياسية والمجتمعية، وهي وليدة سنوات من تغطية المواقف والاحداث، واذا ما كان زعيم الحزب مرادفا لنشرة الاخبار كانت الصورة السلبية مرادفة للقناة الفضائية التي تتعبد باسمه يوميا، وعمليا تعني خروجها من فضاء التنافس الاعلامي وفقدان موجبات وجودها اصلا.

ثانيا: من جانب اخر تعكس طريقة بث الخطاب الاعلامي اسلوب الحزب بالحكم وسلوكه السياسي حتى وان حاول القول عكس هذا الواقع، والحزب الذي تحترم مؤسساته الاعلامية معايير المهنة الاعلامي التي توازي القوانين، ولا يسمح للاخرين بتبوء منصب الخبر الاول في نشرة الاخبار لا يمكن الوثوق به كممثل للشعب لدى الحكومة، اذ كيف يمكن الوثوق بهذه الزعامات لتاسيس وحماية أنظمة ديميقراطية اذا لم تكن تطبق مبادئ الديمقراطية وحرية العمل الإعلامي.

ثالثا: اما فيما يخص الصحفيين فان روتينية العمل تجعلهم يعيدون انتاج نفس الاخبار يوميا ونفس الشخصيات وربما حتى نفس الكلمات، من اجل تجنب التوبيخ الذي يقوم به اعضاء الحزب في حال مخالفة التعليمات، وقد تحدث لي شخصيا بعض الصحفيين عن قيامهم باعادة نشر تقارير لاكثر من مرة لتجنب المسائلة التي قد يتعرضون لها في حال نشرهم خطاب جديدا لم تتم الموافقة عليه، اما الصحفيين غير المحترفين فان هذه البيئة غير الخاضعة للمعيارية توفر لهم فرصة القفز نحو النجومية الوهمية.

الفضائيات العربية لا تزال في مرحلة المراهقة والتخبط الاعلامي، وسيطرة التقاليد الحزبية على حساب المعايير المهنية يسهم في تراجع وظيفة المؤسسات الاعلامية العربية في التنشئة السياسية والمجتمعية، وهذه الظروف تسمح بتسلل الاعلام الفضائي الغربي ليروي عطش المواطن العربي الطامح للحصول على ما يرغب فيه وليس ما يفرض عليه، لان زمن الدكتاتوريات قد سحقته العولمة والانفتاح المعلوماتي، والمشاهد العربي مثل ارض بوار مهيئة لمن يجيد نثر بذور الافكار بطريقة ناعمة.

يقول متخصصو الاعلام انه في زمن توافر البدائل لدى المشاهد يصبح هامش المناورة ضيقا لدى المؤسسات الاعلامية، فالمادة المعلوماتية تقوم على العرض والطلب وليس الفرض على المشاهد كما تتصور الاحزاب العربية المهيمنة على ميدان العمل الاعلامي، وهنا يجدر بنا مراجعة اساليب الممارسة الاعلامية وفتح باب الحريات امام الصحفيين ليقودوا ركب الافكار بما يتناسب ومتطلبات المرحلة الراهنة.

لا يخفى على المتخصص ان اختيار السياسة الإعلامية هي شان سياسي بامتياز، وهي ترجمة لمتبنيات الحزب تضع خطوطا عامة للتحرك صحفيا، وفي هذه السياسة تترك مساحة كبيرة للمتخصصين ليقوموا بادوارهم لتنفيذ ما يتلائم وتحقيق الأهداف المرسومة، لكن القيادات السياسية العربية ترى في حرية التحرك للصحفيين باعتبارها منتجا غربيا يجب تحطيم اسواره بقبضة من حديد تضمن تنفيذ أوامر القائد من دون اعتراض او اقتراح مهني.

الحزب الذي لا يملك معادلا فكريا واقيا يخاطب به الشارع المتعطش للافكار الجديدة، يستخدم الزعيم كبرنامج سياسي لعله ينتشله من حتمية السقوط، لكن الفضائية العربية التي يتزاحم الزعماء عبر شاشاتها تعجل لنفسها والحزب المالك لها في ركوب سكة موتها الابدي، لاننا في زمن العرض وليس الفرض، والبدائل الاخرى للجمهور تعطيه مساحة لسحق ما لا يتوافق مع متطلبات العصر.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي