التعصب والكراهية وآليات تأثيرهما المرضي ومكافحتهما
أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي
2015-02-24 02:07
التعصب والكراهية ظاهرة لها جذورها وحالات تمظهرها في تاريخ البشرية. وقد ارتبطت الظاهرة بمفاهيم كالتمييز العنصري والقومي والديني والطائفي والجنسي ولعلّ كثيراً من الحروب والصراعات في تاريخنا نجمت عن واحد من أشكال التعصب للدين أو القومية أو غيرهما؛ وما زالت هذه الظاهرة تجتر تأثيراتها الخطيرة لتشكل آفة تنخر في وجودنا الإنساني وعلاقاتنا.. ولهذا أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1981 إعلاناً وضعت فيه أسس القضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز الذي يتسبب في عرقلة الاعتراف بحقوق الإنسان وحرياته الأساس أو يتقاطع مع فرص التمتع بها و/أو ممارستها على أساس من العدل والمساوة.
والتعصب: تشدّدٌ ومغالاة في ميل نحو أمر بعينه. والتعصّبُ لغةً من العصبية التي تعني أنْ يدعو المرءُ لنصرة عصبته المؤلَّفة ممن يشتد ويحتمي بهم فيتآلب معهم على مناوئيهم ظالمين أو مظلومين... والتعصب اصطلاحاً شعورٌ داخلي يدفعُ الإنسان للتشدّد إلى حدّ اعتقاده بأنَّه على صواب دائم فيما الآخرون دوماً يمثلون الباطل والخطأ والخطيئة من دون حجة على اعتقاده ذاك. ويتجسد هذا التمترس بممارسات وأفعال متزمتة تنطوي على ازدراء الآخر واحتقاره وعدم الاعتراف بحقوقه وإنسانيته إلى الدرجة التي تبيح للمتعصب عمله على تدمير الآخر وتحطيمه بلا أية رحمة.
والتعصب لا يتحدد بظاهرة نفسية فردية حسب بل يمثل مرضاً اجتماعياً يؤسس للكراهية والعدوانية في العلاقات العامة والخاصة، حيث يضع التعصب صاحبه بإيمان مضلل برؤى تمنعه من التوصل إلى أيّ حل للقضايا المحيطة به بطريقة موضوعية تحيا الواقع كما هو وليس كما تتوهم صورته بسبب انفصام المتعصب عن الحقيقة والواقع. وهكذا فقد كان التعصب دائماً أساساً خطيراً لدوامات الصراع التي تسببت في تعاسة البشرية، عبر اختلاق الحواجز بين مكوناتها ووقوفها سدّاً مرضياً ضد إمكانات التفاهم بين تلك المكونات..
إنّ التعصب بوصفه مغالاة وأحادية في التعاطي مع بيئة المتعصب ومحيطه، يتحول إلى كونه مرضاً يعيق النمو النفسي للإنسان فيثير اضطراباً كلياً عنده بخاصة في طابع إدارة العلاقات مع الآخر. وهنا يترسّخ الاتجاه السلبي المتضمن نظرة عدائية تجاه الجماعة الإنسانية ووجودها وحقوقها.. إن الاحتقان والعدائية والاضطراب العام في المشاعر التي تسيطر على المتعصب هي التي تخلق أرضية التفكير غير المنطقي وحال العناد أو الجمود في مواقفه، وكذلك تخلق أرضية الإفراط في التعميم وتحويل النسبي إلى المطلق، واستسهال ممارسة الظلم وتبريره، وسطوة الصيغ النمطية الأحادية في التعاملات، كما بحالات التعامل مع فئة أو مجموعة دينية أو قومية فيؤخذ الكل بجريرة الجزء حيث صراع التعصب والكراهية ينتشر بين المجموعات ولا يظل حصراً بأفراد..
إنّ هذه الآليات تجتمع عبر حال تبسيطٍ حدَّ التسطيح في قراءة الأمور وتنميطها ووضعها بقوالب جامدة، تنشطر بين ضفتين لاتسمح بوجود إيجابي خارجهما.. وبإطار هذه الآليات يقوم التعصب باستغلال آلية الإسقاط بوصفها حيلة لاشعورية لينسب بها متعصبو ضفةٍ العيوبَ والمثالب إلى أتباع الضفة الأخرى وهو ذاته ما يمارسه أتباع المجموعة المتمترسة تعصبياً في الضفة الثانية. وهذه الآلية هي التي تسمح بتنزيه كل طرف وتفريغ أسباب اضطرابه السايكوسوسيولوجي فيبرر له عدوانيته ويمنحه فرصة التحول من الدفاع إلى الهجوم والاعتداء على الآخر بروح ثأري انتقامي يتعلل بذرائع وحجج جوهرها أوهام التخندق المختلقة بإسقاطات التعصب...
إذن، التعصب ينطوي على سمات مركبة سيكون مفيداً هنا تشخيصها مجدداً كي نلتفت إلى تفكيكها ووضع المعالجات لها في مرحلة لاحقة من قراءتنا هذه. وأول هذه السمات هي المغالاة والتشدد وثانيها مركزية ذات المتعصب وارتفاع أسهم الغرور الفارغ عنده مع تهميش للآخر وعدم الاعتراف بحقوقه ووجوده ومن ثمّ رفض الحوار معه [أيّ مع هذا الآخر] كونه طرفا محكوما عليه بالإلغاء والسمة الثالثة هي حال التسلط والجمود في التفكير ومن ثمّ مجافاة الموضوعية في تناول القضايا الخلافية وتبرير التمسك بالباطل ورابع السمات تتمثل في حال اللجوء إلى العنف تنفيذاً للمآرب والغايات.. وهنا تشتعل حرائق الصراعات والصدامات المفتعلة بدوامة لا تقبل التوقف بين خنادق وأنماط متعددة لتمظهرات التعصب وعنصريته ومنطق الكراهية الذي يحمله...
واستكمالاً لتعريف التعصب فإننا سنوضح الأمر فيما يخلقه من شعور الكراهية كونها أعراض انسحابية يصاحبها اشمئزاز ونفور شديدين تتولد عنهما عداوة أو عدم تعاطف مع شخص ما أو فكرة ما أو ظاهرة بعينها، الأمر الذي يولّد رغبة في تجنب و/أو عزل أو تدمير الشيء أو الطرف المكروه. وقد يكون الطرف الذي يستهدفه التعصب وكراهيته متجسدا بــ فئة أو طبقة أو مجموعة من الناس و/أو أعضاء في إحداها. فالكراهية الناجمة عن تشدد بموقف وميل بعينه هي حال من التعصب الذي يفصم بين طرفين فيصل بهما حدّ الرغبة في خوض معركة مدمرة لأحدهما أو كليهما. إنّ نتيجة التدمير ناجمة عن كون آلية الكره تقتضي تفاعلا سلبياً مع الأمر المكروه بدل إصلاحه و/أو تغييره أو إبعاد تأثيراته السلبية علينا...
ومن هنا جاء تعريف خطاب الكراهية كونه الخطاب الذي يدعو إلى أعمال العنف أو جرائم الكراهية باختلاق فضاء يتضمن جملة من الأحكام المسبقة مع زعزعة الأمن والأمان وإثارة الحقد وأشكال التهديد التي تشجع على ارتكاب جرائم الكراهية.
وكما جوهر التعصب فإنّ خطاب الكراهية يتصف بالاستقطاب الشديد وبظواهر الازدراء والاستهانة بالآخر و/أو إرهابه وجعله تحت ضغوط التهديد المستمرة مع لائحة من ممارسات التشويه والتشهير والتسقيط وإثارة حالات التشظي والشقاق والقسوة والوحشية ليشكل ذلك كله فضاء التعصب والكراهية ولغتهما الصدامية التي لا تسمح بأية فرصة للاتفاق والتفاهم الإنسانيين. إن التعصب لا يحيا من دون عيشه على لغة الانفعال والاحتقان والابتعاد عن تحكيم العقل والحكمة وهو لا يكتفي بالتشويه بل ينتقل في مراحل تالية منه إلى اختلاق ما ليس موجوداً في واقع الحال عند الطرف المراد صب الكراهية عليه خدمة لمآرب التعصب بل ابعد من ذلك يرتكب جرائم ليلصقها بالآخر وليعمق الفرقة والتناقض بين طرفي التعصب وخندقيه المفتعلين المصطنعين.
فنتيجة للتعصب تتبدى أمامنا ظواهر التمييز من مثل حالات: إحياء العبودية وجرائمها كما فعل الدواعش مع الآخرين، وترسيخ التنميط العرقي ومثل انعكاسات التعصب بحالات ممارسة الإعدامات والاغتيالات الثأرية سواء ما يخضع منها للقانون أم خارجه ومثل ذلك نشر خطابات الكره وممارسة جرائم الكراهية وأشكال الفصل أو العزل العنصري وارتكاب جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي مثلما جرى للكورد وللمسيحيين والأيزيدية والمندائيين.
لكن بالمقابل ظهرت حركات مناهضة للتمييز والتعصب مثلما حركات التحرر من العبودية وحركات تحرر المرأة وحركات الدفاع عن الحقوق والحريات لمختلف الأطياف المجتمعية: العمالية، النسوية، الطلابية، الشبابية، ومناهضة الفصل العنصري وغيرها في إطار محاولات البشرية لاستعادة المبادرة والانعتاق من تلك أمراض التعصب والكراهية.
إنّ هذا يحيلنا إلى قراءة أنواع أو أشكال التعصب كي يسهل علينا الانتقال إلى المعالجات التي سنقترحها. فهناك أشكال وألوان من التمييز والعنصرية المستمدة من التعصب مثلما التعصب الجنسي، الجيلي أو العمري، الديني، وهناك تعصب يقوم على التمييز أو الرهاب المثلي أو القدري أو الشكلي كالحجمي والطولي والعمري المنسحب من التقدم بالعمر والنخبوي وأية حالات أخرى معروفة أو قد تستجد فالأسباب مفتوحة للتمييز واختلاق أوهام التعصب. ولعلّ أبرز حالات التعصب وعنصريته البارزة في الميدان الإنساني بعامة والعراقي بخاصة هي الأشكال والحالات الآتية:
1. التعصب الديني و/أو الطائفي: الأصل أن الإنسانية نظرت إلى جوهر الديانات والمذاهب من بوابة قيم التسامح والتعايش إلا أنّ الإكراه فيها وحالات العداء والصراع مع الآخر يعود لخطاب التعصّب القائم على منطق التشدد والتطرف ومركزية الأنا التي تلغي الآخر وهنا تتخلق حالات التخندق والعداء وصراعاتهما. إنّ عرض رؤى دين أو مذهب ليست بحد ذاتها مشكلة تستدعي الصراع عندما توضع بصيغة حوار مع الآخر ولكنها تتحول إلى (غطاء) للتستر على دافع سياسي أو ثقافي مرضي متخفٍ لغاية بعينها.
2. التعصب العرقي و/أو القومي أو القبلي: وهو التعصب الذي يسوّق لمنطقه على أساس التذرّع بالدفاع عمن ينتسب لعرق أو قومية أو قبيلة، وهو يتوهم أمراً ويضلِّل به أتباعه عبر التخندق الذي يعزل عصبته عن محيطها ويضعها في تعارض وتناقض وصراع مع هذا المحيط وما فيه من أبناء مجموعات قومية أو قبلية أخرى. ويمكن هنا ضرب الأمثلة على ما افتعلته قوى عروبية متشددة متطرفة من عداء لأبناء القوميات المحيطة مثلا ضد الفرس أو الترك أو الكورد.. ومثلما يحصل من محاولات إشعال الفتن بين الشعوب السامية مثلما العبرانيين والكنعانيين ومثلما العرب والأمازيغ وغيرها من احتقانات يحاول المتعصبون إشعالها بين أبناء تلك القوميات المتعايشة إنسانيا والمتجاورة جغرافياً...
3. التعصب الفكري السياسي: وهو الانغلاق على تفكير أحادي يزدري الرأي الآخر ويرفض الاعتراف بصاحبه أو القبول بالحوار معه ومناقشته. وفي جوهر الأمر فإنّ هذا الشكل من التعصب يمثل إلغاءً للعقل ومنطقه الذي يدعو للاعتدال وللتفاعل بين التجاريب ومنجزها الفكري الذي يقرّ بالتنوع والتعددية ولا يقبل بالاستعلاء والفوقية ومصادرة الآخر ومن الحركات السياسية التي تعبر عن هذا: الحركات الشوفينية، النازية الجديدة، بيغيدا التي ظهرت مؤخرا والكوكلوس كلان. وتجدر الإشارة إلى أن التعصب السياسي يدفع صاحبه للتمسك برأي حزبه من دون مراجعة وتدبر معتقداً بصواب رؤية حزبه على وجه المطلق فيما باقي الأطراف والقوى السياسية عملاء لصالح أعداء الوطن والشعب أو الطائفة ولعل هذا في الغالب يحصل في بلدان التخلف ضعيفة التطور والبعيدة عن المدنية وغالباً ما يترافق الأمر بتغليفه بالدين كما هو الحال مع أحزاب الطائفية السياسية...
4. التعصب الاجتماعي: مثلما حال تعصب النساء للنساء، والرجال للرجال والتمترس على أساس التمييز الجنسي، وعلى وضع الجنسين في حال اقتتال بدل التكافل والتكافؤ والمساواة، ومثلما التمييز والعنصرية ضد المهاجرين والجاليات ووضعهم بموضع أدنى... ونلحظ في ذات الإطار حال التعصب الرياضي لفريق دون غيره الأمر الذي لا يملك إلا التأثيرات السلبية التي تقلب القيم السامية للرياضة ويحيلها غلى صراعات مرضية تستثمر في الصراعات التجارية والسياسية. وأقسى من ذلك حال التعصب الطبقي حيث طبقة شغيلة اليد في المعامل والمزارع يوضعون بمستويات دنيا يجري تهميشها وازدراء من ينتمي إليها...
من جهة أخرى وبغاية إنضاج المعالجة المقترحة هنا وتجنب ظاهرتي التعصب والكراهية فضلا عما مرّ ذكره منها ضمنا في إطار هذه القراءة، لابد من الإشارة إلى تجربة تثبيت بعض الأحكام في الإطار الدستوري الأمر الذي منع الدولة أو أي طرف فيها من ممارسة أعمال التعصب أو التفضيل القومي أو الديني داخل حدودها. على أن تلك المعالجة تطلبت دائما وعيا بأهمية أن يجري إدانة تلك الخطابات الإعلامية التي سوّقت وتسوّق للأفضلية الدينية الطائفية واختلاق فضاء التمييز وآلية الكراهية بكل ما استندت إليه من سجل التاريخ المزيف المصطنع ومن افتعال مفردات خطاب الانقسام والتمترس وإسقاط الصواب المطلق على ذاك التضليل بقدسية دينية في محاولة منها لمنع العقل من مناقشة ذاك الخطاب... ومن الطبيعي أن يكون محو الأمية ومعالجة أمراض الجهل والتخلف ومكافحة الروح الانتهازي وآليات الفساد أدوات أخرى تمنع قوى التعصب من إرغام الجموع المستهدفة على اتباع رؤاها وخطاب الكراهية الذي تحاول بثه. وسيكون لتفعيل دور النخبة الواعية أثره في تلك المهام النوعية لمكافحة التعصب والكراهية...
إذن، فأية معالجة جدية وجوهرية تتصدى للتعصب يلزمها أن تتصدى للعوامل التي تتسبب به سواء منها العوامل الذاتية أم الموضوعية. ومن أجل التحرر من التعصب لابد من تعزيز معاني الإنسانية وقيمها في التسامح والإخاء وفي إنصاف المظلوم والاستجابة للحاجات اللازمة للجميع وتعزيز قيم العدالة الاجتماعية وإنهاء ظواهر الفقر والبطالة وانعدام العدالة بتوزيع الثروة. وتمكين منطق التعايش السلمي وتقبل الحوار بين الرؤى والأفكار والجماعات وثقافاتها ومعتقداتها..
ويظل هذا المصطلح وإشاراته إلى مجريات واقعنا بحاجة لقراءات نظرية وتطبيقية أخرى اشمل وأوسع بغاية تفعيل فرص التفاهم وتصحيح العلاقات بين المكونات المجتمعية في كل بلد وبين الشعوب والأمم والجماعات بما يعزز روح التعايش السلمي بأوسع نطاق.