عناصر القوة في الشعائر الحسينية: الفنون، المرونة، المال، والنهوض
أحمد عبد الرحيم
2016-10-10 12:28
الفنون التجسيدية:
ولعل مما يجعل للشعائر هذا التأثير هو تفعيلها لوسائل فنيّة متعددة لإيصال رسالتها الفكرية والعاطفية، فتتنوع أساليب العرض والتفاعل لتلامس جميع الحواس وتفعل فصّي الدماغ وتحرك زوايا الذهن بما يتناسب وما تريد. ومن أبرز هذه الوسائل هي الفنون التجسيدية من تمثيل، ونحت، وتجسيم، ورسم، وما شابه. وتتلخص أهمية هذه الفنون في المثل المعروف: (ليس من رأى كمن سمع).
ومما يلفت النظر هو دهشة بعض الباحثين من كون هذا التجسيد للرسالة العاشورائية – سواءمن قبل المقدِّمين له أو المتفاعلين معه من الجمهور- يرقى لمستوى التفاعل الحقيقي مع الحدث الحقيقي –كالاستغراق في الحزن والبكاء والهتاف وضرب النفس بتأثر عميق- وليس مجرد التفاعل مع تمثيل –واقعي أو خيالي- لحدث تاريخي مما يخلّف أثرًا بالغًا على النفس وعلى الغير حتى ممن لا يفهم سر هذا التفاعل.
وكمثال على قوة هذا العنصر الشعائري يذكر (بندكتي) استخدام علماء الشيعة –في عهد الصفويين- "الإخراج المسرحي ]الشعائري[ أداة للدعوة الدينية ونشر المعتقدات الشيعية بين الإيرانيين السنة"، وهو الأمر الذي كتب له النجاح بشكل كبير.
المرونة والتجديد:
تشكل مرونة الشعائر وإمكانية التجديد في أشكالها –ضمن الضوابط الشرعية- ركنًا آخر من أركان قدرتها على التأثير الفعّال على مختلف الأجيال ووسط مختلف الثقافات. إن كثيرًا من المظاهر الحالية لم تكن موجودة في عصور ظهور أئمة أهل البيت –عليهم السلام- –وإن وجدت جذور بعضها- إما بسبب الظروف الأمنية القاهرة أو لعنصر التطور الطبيعي بمرور الزمن. ومن هذه المظاهر: الحسينيات، ومسيرات العزاء، والمسرحيات والتشابيه، والرسومات، ومواكب الشموع، وغيرها. ولو لم تكن الشعائر تتحلى بمرونة كافية لتبني هذه الوسائل، لكانت فقدت جزءًا من هذه القوة التي تمتاز بها اليوم عن طريق هذه الأساليب، ولك أن تتخيل الفرق الشاسع. فالشعائر يكمن جزء ليس بالهيّن من قوتها في قدرتها على مواكبة الثقافات ومتغيرات الزمن -ضمن ضوابطها-.
المال الحسيني:
إن الكمية الهائلة من الممتلكات والأموال المخصصة للإمام الحسين –عليه السلام- من هدايا وهبات وأوقاف ونذور وتبرعات وغيرها من قبل الشيعة وغيرهم حدت بالبعض لأن يعتبر أن الإمام الحسين –عليه السلام- هو أغنى شخص في العالم، وهذه الأموال والأصول لا زالت تزداد يوميًّا وباطّراد. هذا الأمر دفع كثيرًا من الجهات والحكومات لأن تسعى لمحاصرة هذه الأموال، أو الاستيلاء عليها، أو الارتياب منها. لكن ما يهمنا، هو تبيان الحاجة لاستثمار هذه الأموال بشكل أكثر فاعليّة في سبيل نشر نور الحسين –عليه السلام- ليعم جميع العالم – وسنتطرق لكيفية ذلك في المستقبل إن وفقنا الله لذلك كما مر ذكره في مقدمة البحث-.
النهوض الفكري والسياسي والاجتماعي:
لجميع ما تقدم في المحاور السابقة، فإننا نلاحظ أن هناك علاقة طردية بين نهضات الشيعة على الصعد المختلفة وبين درجة تمسكهم بالشعائر الحسينية في الأماكن والأزمنة التي تشهدها هذه النهضات. وهذا الأمر مشاهد ومحسوس عبر التاريخ، والأمثلة على ذلك في عصرنا الحاضر كثيرة وجليّة في بلدان الكثافة الشيعية في إيران، والعراق، ولبنان، ومنطقة الخليج، وغيرها. ولعل ذلك يعود لأن هذه الشعائر تغذي محييها بالاستراتيجيات العملية والبنى الفكرية والقوة الروحية اللازمة لمواجهة تحديات وصعوبات الزمن، فهي ليست مجرد طقوس وشعارات ومعلومات تاريخية كما قد يتوهم البعض.
وحول هذا المحور يذكر (بندكتي) أن "مجالس العزاء تمثل الإطار لعملية تربوية مركبة من خلال التعليم الديني المتنوع الأشكال، أما المواكب الحسينية والتعزية (التمثيل) فتحفز مضامين العقيدة في أعماق اللاشعور والمخيال الفردي والجماعي. وأخيرًا وليس آخرًا، تؤدي مواكب اللطم وحلقات ضربة حيدر (التطبير) بالنسبة للمراهقين والشبان وظيفة شعيرة المدخل (للمشاركة الفعلية)".
"إن مراسيم العزاء الحسيني كانت قد ارتبطت منذ البدء بتاريخ المعارضة السياسية في الإسلام، وتحولت في أحيان كثيرة إلى شكل من أشكال الرفض والاحتجاج ضد الرؤية الإيديولوجية الرسمية وتحولت إلى ضرب من ضروب المقاومة العلنية تارة والخفيّة طورًا في ظروف القمع والاضطهاد؛ ومن جهة ثانية قد تحولت شعائر العزاء الحسيني إلى منبر للخطاب السياسي والاحتجاج على الأوضاع الجائرة في المجتمع.. (حتى) أصبحت الغلاف الرمزي الطقسي لمحتويات فكرية حديثة".
كما يشير إلى حكم البعض على "النمط التقليدي" للشعائر بأنها خرافات تتجه نحو الاندثار لعدم مواكبتها للحضارة بأنه تكرار للموقف "الماركسي المبتذل الذي شاع في بعض الأدبيات العربية اليسارية.. (وأنه) لم يفهم مدى أهمية البعد الرمزي الكامن في الإبداع الثقافي بما فيه سيميائية الشعائر الدينية.. فقد استعان بها الإمام موسى الصدر منبرًا فعَّالاً في نشر آرائه الإصلاحية.. وبينت بعض الأبحاث الميدانية فاعلية هذه الاحتفالات في إنعاش روح المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان، كما أنها تحولت في عام ١٩٩٥م إلى إطار للقاءات بين الطوائف الدينية لإظهار التضامن الوطني اللبناني. تبين هذه التطورات أن الرموز الإسلامية لا تزال تحتفظ بقوتها الحية، فهي قادرة على التأثير في الخبرة المعرفية والروحية للشعب الشيعي". وكذلك حصل في العراق بعد سقوط النظام البعثي البائد حيث شارك المسيحيون والصابئة والإيزيديون إلى جانب المسلمين في هذه الشعائر، واستخدمت رمزيتها لتحدي الحروب الإرهابية وداعميها.
هذا وقد "انتبه الحكم الملكي (في العراق) ومن ورائه السلطة البريطانية إلى خطورة بعض الشعائر الدينية فأقدم على اتخاذ إجراءات احتياطية في شأنها في عام ١٩٢٨م.. وفي عام ١٩٣٢م.. وفي عام ١٩٣٥م حاول رئيس الوزراء ياسين الهاشمي منع مواكب العزاء وإلغاءها أساسًا باعتبارها واحدًا من العوامل التي وقفت وراء انتفاضة عشائر الفرات الأوسط في العراق.. وخلال الخمسينات.. فرضت الحكومة العراقية مجددًا قيودًا مشددة على مواكب العزاء الحسيني وبخاصة مواكب التطبير.. وبعد قيام ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨م أصدر عبد الكريم قاسم مرسومًا يمنع فيه إقامة مواكب التطبير بالسيوف فقط، غير أن المطبرين نجحوا في إقامتها خارج مراكز المدن.. كما حاول عبد السلام عارف أيضًا منع مواكب التطبير بالقامات والتضييق على مواكب العزاء الأخرى.. وفي بداية السبعينات وصلت الاحتفالات خلال شهر محرم وصفر إلى ذروتها في موازاة تحرك إسلامي شيعي.. ومع توسيع أهمية الاحتفالات بذكرى عاشوراء وتحولها إلى حركة شعبية يمكن أن تسبب مخاطر كبيرة لا تحمد عواقبها، فقد حاولت الحكومة الالتفات حول المواكب الحسينية للضغط على القائمين بها وتقييد حركتها ومراقبتها بل واستغلالها دعائيًّا إن أمكن، ولتمرير شعارات سياسية تخدم النظام القائم آنذاك من جهة أخرى.. ومنذ بداية الحرب العراقية-الإيرانية عام ١٩٨٠م تم منع جميع أنواع مراسيم العزاء الحسيني وفي جميع أنحاء العراق" خوفًا من تحولها لثورة عارمة تسقط النظام.
كما أشار الباحث إلى انتفاضة صفر عام ١٩٦٨م التي انفجرت خلال مسيرة زيارة الأربعين من النجف إلى كربلاء.
وختامًا:
فعلاً إن كل ما لدينا هو من عاشوراء، وهي الكنز الذي يختزن مفاتيح أسرار قوة مذهب أهل البيت –عليهم السلام- وصموده الأسطوري وانتشاره وعلوّه بإذن الله، فعلى الشيعة جميعًا أن يسبقوا غيرهم للبحث حول هذه الأسرار والعمل بها وبما يقتضي تحقيق الاستفادة القصوى منها والاستثمار الأمثل لها.
ولا نغفل عن نقطة مهمة جدًا وهي: أنه إذا كانت الدول العظمى في الأزمنة الماضية -كالأموية والعباسية والعثمانية والإمبراطورية البريطانية- تخشى من الشعائر وتحاربها، فهل يعقل أن أمثال هذه الدول في وقتنا الراهن وفي المستقبل ليس ولن يكون لها نفس المخاوف والمواقف؟!
إذًا، فلنتيقظ للمصادر التي تأتي منها سهام منع الشعائر ومحاربتها بالإرهابيين والمتفجرات والإجراءات الجائرة وبث التشكيكات غير العلمية فيها وغير ذلك من صنوف المحاربة.