السكوت على الظلم مطلبٌ سلطوي

محمد علي جواد تقي

2025-07-08 04:29

"ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الظالمين إلّا برمًا". الإمام الحسين، عليه السلام.

رغم أنه موقف غير سليم يناقض الفطرة السليمة، بيد أن معظم الناس تركن إليه لأسباب عديدة، ربما منها؛ الخوف من بطش السلطة، أو التغرير بالمال والامتيازات والخدمات وفرص العمل، وعند سؤالك لمرتكب هذا العمل؛ لماذا تسكت على الفاسد والظالم والمنحرف أمامك، وأنت عارفٌ بسوئه؟ يجيبك بما يكشف عن كم هائل من الجبن والعجز.

ولماذا التكلّم أساسًا؟! أرى هذا السؤال أكثر جدارة من سؤالنا عن سبب السكوت، فربّ شخص لا يجد حاجة، أو ضرورة لأن يتعب نفسه ثم لسانه لينطق اعتراضًا على مخالفة ما تصدر من فرد أو جماعة، وأيضًا؛ من رجال الحكم، فليفعل الناس ما يشاؤون! فهم أحرار، و"تصرفاتهم تعكس شخصياتهم"! وكذا الحال بالنسبة للمدير والوزير والنائب والقاضي والضابط، إلى آخر القائمة. ثمة شعورٌ عارم بين أفراد المجتمع بعدم جدوائية الكلام والاعتراض، والسبب في سكوت سائر الأفراد عن حالات الفساد والانحراف! فلماذا أتكلم وأتورط مع قوة الفاسد ونفوذه فيما يسلم الساكتون؟!

هذا الموقف أو الفكرة، لها صورة تجسدت في الكوفة يوم كانت طيّعة لمسلم بن عقيل، وقد أحاط بقصر الإمارة ومعه حوالي أربعة آلاف مقاتل لفرض الاستسلام على عبيد الله بن زياد، تقول المصادر التاريخية إن الأم والزوجة والأخت كانت تأتي إلى الرجل وتقول له: "عُد إلى البيت، يكفيك الناس"! وكان الناس عبارة عن مجموعة أفراد من بينهم ذلك المقاتل الذي عاهد الله على مبايعة مسلم والإمام الحسين على الطاعة والنصرة، وكانت النتيجة الكارثية بتفرق القوم عن مسلم بن عقيل ليكون ضحية أكبر تخاذل شهده التاريخ.

لندع أيام عاشوراء قليلًا، ونعرج على ما بعدها، وفي نفس مدينة الكوفة هذه، حيث كان ابن زياد على المنبر يزهو بانتصاره العسكري في معركة الطف، مستخدمًا ألفاظًا نابية ضد الإمام الحسين لتبرير جريمة قتله. وفي ظل سكوت مطبق داخل مسجد الكوفة، انتفض رجلٌ كبير في السن وبصير، وهو؛ عبد الله بن عفيف الأزدي، مقاطعًا الأمير الأموي كلامه وتهجمه على الإمام الحسين بأن "إنما الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك، يا عدو الله"!

ما الذي دفع هذا الرجل البصير لأن يتخذ هذا الموقف الشجاع والاستثنائي من بين سكوت الحاضرين؟ إنه الوعي والشعور بالمسؤولية الرسالية إزاء قضية حق صادحة، فالرجل، كما شرح خلال معركته الكلامية مع ابن زياد، قبل معركته بالسيف، "فقدت عيني اليمنى في الجمل، والأخرى في صفين، وقد دعوت الله أن أقتل على يد ألعن خلقه، وها أنا أشكر الله أن استجاب دعائي".

هل كان الأزدي الوحيد ممن بقي على قيد الحياة ممن صحب أمير المؤمنين وشهد معاركه الثلاث؟ لم يمض على تلك الفترة سوى عشرين سنة فقط، فأين أولئك المشاركين في تلكم المعارك؟ ألم يسمعوا من أمير المؤمنين ما يؤكد لهم حقانيتهم وباطل ما ذهب إليه الآخرون في الجبهة المقابلة؟ ولكن! {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}.

شراء السكوت:

الترغيب يسبق الترهيب، والمال يسبق السيف في شراء السكوت على الظلم والانحراف لمعرفة الحاكم بما يدغدغ حاجات الإنسان الفطرية، ومنها المال الذي يضمن لصاحبه كل ما يوهمه للقوة والمنعة أمام الآخرين، وأمام هواجس الفقر والحرمان، ولكن عندما تتراجع الحاجة إلى المال، ويقفز الوعي والفهم وشجاعة الموقف الحق، حينها يأتي دور السيف في ساحة المواجهة، وإلا لن تضمن السلطة لنفسها البقاء مقابل دعاة الإصلاح والتغيير.

لذا فإن السلطة على مر الزمن تسعى دائمًا لأن تتم العملية في ظل هدوء مجتمعي متسالم مع السكوت، لأن تجارب الزمن تؤكد أن تكاليف مواجهة الاعتراض أكثر بكثير من إغداق المال والامتيازات لشراء السكوت، بالمقابل فقد حذر قادة الأمة، منذ عهد أمير المؤمنين، وحتى آخر الأئمة المعصومين، من تورط أفراد الأمة في معادلة السكوت عن الحق وخسارتها الفادحة، وقد تكلم أمير المؤمنين عن "نصرة الحق" في حربه مع معاوية وجيش الشام، فيما تكلم الإمام الحسين عن "قول الحق" أمام سلطان جائر ومتهتك مثل يزيد، فقال، عليه السلام: "ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربّه محقًّا، فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الظالمين إلّا برمًا".

إن عواقب السكوت عن الظلم والانحراف أفظع من عاقبة الصدح بقول الحق، على الأقل لانتزاع الشرعية وحالة "التطبيع" مع الفساد والظلم في المجتمع، بدءًا من الموظف البسيط في دائرة خدمية، ومرورًا بالسوق، وعلى مستويات أعلى في دوائر الدولة، وفي المؤسسات التعليمية والصحية والقضائية والأمنية، انتهاءً بالنخبة الحاكمة.

وهذا ما حذر منه الإمام الحسين أهل الكوفة المتجحفلين لقتاله بأن لا يوهموا أنفسهم بالظفر والهناء بعد مقتله لأن "أيم الله! لا تلبثون بعدها إلا كريث ما يُركب الفرس فتدور بكم دور الرحى وتقلق بكم قلق المحور، عهدٌ عهده إليّ أبي عن جدي"، فالمعادلة واضحة لا لبس فيها، بيد أن ثغرة الخوف والجبن سهّلت عملية شراء السكوت، وأحيانًا الخوف يكون على النفس من القتل، أو حتى التعرض لجراحة بسيطة، وأحيانًا يكون الخوف على الأموال والمصالح المادية، وهذا أشدّ وأخطر على صاحبه، وقد استغل النظام الأموي هذه الثغرة في أهل الكوفة، وتمكن من تعبئتهم ضد من وعدوه بالأمس بمبايعته خليفة!

وهكذا تصور أهل الكوفة أن سكوتهم على الحاكم القوي؛ عسكريًا وسياسيًا وأمنيًا وماليًا يضمن لهم الحياة السعيدة، فهم يجدونه المنتصر في الميدان، وفي ظله يضمنون حياتهم ومصالحهم، بيد أن الحقيقة المرة تقول إن الحاكم لن يحترم الشعب الذي يبيع أغلى شيء عنده، وهو كرامته، فلماذا يكرمه ويحافظ على مصالحه، بل يُعد إن كل ما يمتلكه هو ملكًا له شخصيًا، فيكون متفضلًا بالإبقاء عليهم على قيد الحياة كما أرادوا هم، وهذا ما شهدناه منذ الساعات الأولى بعد استشهاد الإمام الحسين، عليه السلام، وحتى اليوم.

من هنا تعلمنا النهضة الحسينية أن السكوت سلاحًا فتاكًا يستخدمه الظالم والفاسد والمنحرف لقتل معارضيه معنويًا، قبل أن يُجبر على استخدام السلاح الآخر لقتلهم جسديًا، فالسكوت هنا يوفر له الكثير من الوقت والجهد، بينما يوفر لأهله الموت البطيء والمؤلم، مثل مريض بداء عضال يتركوه على السرير ليموت تدريجيًا.

ذات صلة

الحسين (ع) ينتصرالحسين عليه السلام بوصفه تأويلًا مفتوحًاالدروس المستفادة عراقيا من الحرب الصهيونية-الإيرانيةلمحة في التواصل والديمقراطية التداوليةقواعد الاستبداد لإخضاع العباد