الحسين عليه السلام بوصفه تأويلًا مفتوحًا
أحمد الشطري
2025-07-08 04:25
لم تكن واقعة كربلاء مجرّد حدثٍ تاريخي، بل تحولت في الوعي الإسلامي، وفي التخييل الشعري تحديدًا، إلى سردية كبرى ذات طبيعة رمزية وتأويليّة، يتناسل منها المعنى، ويتكثف فيها الألم والتمرّد والرجاء.
وإذا كان حضور الإمام الحسين بوصفه رمزًا مقدسًا في الشعر العربي القديم من خلال الامتداد النسبي المرتبط بشخصية النبي محمد (ص)، والعقائدي بوصفه خامس أئمة أهل البيت لدى الشيعة، وأحد الصحابة لدى عموم المسلمين، فإنّ هذا الحضور الرمزي قد ابتعد أو اتسعت دلالاته، ليصبح رمزًا أخلاقيًا وسياسيًا وأنموذجًا صاخبًا للتضحية والرفض الثوري للظلم والاستبداد، في الشعر الحديث من خلال التوظيف المُقنَّع بما يتناسب مع الآليات الفنية والأسلوبية للقصيدة الحديثة التي تسعى إلى تقديم خطاب يتخذ من الرمز أفقًا تعبيريًا عاليًا يسمح لها بالخروج من أسر التقريرية إلى مديات التجريد الجمالي والدلالة المفتوحة.
وفي هذا السياق، لم تعد رموز كربلاء حبيسة المدونة الدينية أو التاريخية، بل أصبحت علامات تتجدّد وتتجذر داخل بنية النص، وتحاور الحاضر والهوية والأسئلة الوجودية والسياسية للإنسان العربي المعاصر.
ومن ثمَّ فإنّ استخدام الرمز في القصيدة الحسينية المعاصرة لم يكن ترفًا بلاغيًا، أو استجابة عقائدية أو دينية، بل ضرورة شعرية لتحرير التجربة الحسينية من التكرار الخطابي، وإعادة صوغها كأفقٍ دلالي قابل للتأويل المتعدد. ولكننا في ذات الوقت لا يمكننا تجريد القصائد الحديثة من وجود أثر الباعث الديني أو العقدي في كثير من نماذجه.
فالشاعر لا يستعيد كربلاء كحدث، بل ينتجها من جديد من خلال الرمز، لتغدو ممكنًا شعريًا وسؤالًا دائمي الحضور. وهذا ما نجده عند أدونيس على سبيل المثال: "ترى أنت حي/ وعيناك عيناي، والموت بيننا مرايا،/ وأرى ما رأيت، أترجم نفسي لنفسي:/ أترانا دمٌ واحدٌ؟/ نتقاسم خبز الفجيعة والحبّ، خبزَ الحياة/ غريبين مستضعفين/ وأنادي: أنا كربلاء الحسين/ وتصرخ: يا سيدي يا حسين".
ولا شكَّ أنَّ "الرمز يُنتج بُعدًا أسطوريًا للواقع، فهو لا يصف العالم كما هو، بل يعيد خلقه ضمن أنموذج رمزي يعطيه معنى كليًا"؛ وهذا ما تقوم به القصيدة الحسينيّة عندما تحوّل شخصية الإمام الحسين (ع) إلى رمز كوني للمطلق الأخلاقي، يتجاوز السياق الزمني المحدود، ليغدو مرآةً لصراعات البشر كافة.
وسنحاول أن نعرض هنا بعضًا من أهم التمثلات الرمزيَّة لواقعة عاشوراء في القصيدة الحسينية الحديثة:
1. الرمز الشخصاني: بوصف الإمام الحسين أنموذجًا مطلقًا. فالإمام الحسين وفق هذا التوصيف يمثل في المخيال الشعري رمزًا مزدوجًا: فهو القائد الشهيد، وهو الضمير الحيّ. يقول أدونيس في إحدى قصائده: "ألا ترى الأشجار وهي تمشي/ حدباء في سكر وفي أناة/ كي تشهد الصلاة/ ألا ترى سيفاً بغير غمد/ يُبلى وسيّافاً بلا يدين/ يطوف حول مسجد الحسين". إذ نجد أنّ الحسين هنا يتحول إلى مركز كوني كل شيء يطوف حوله، ويقف خلفه مقتديًا به.
2. الرمز المكاني: كربلاء كفضاء رمزي. كربلاء لا تُمثّل في القصيدة الحسينية بقعة جغرافية، بل تتحول إلى رمز ميتافيزيقي للمواجهة الكونيّة. يقول نزار قباني في إحدى قصائده: "قتلناكَ .. ليس جديدًا علينا، اغتيال الصحابة والأولياءْ/ فكم من رسولٍ قتلنا... وكم من إمام ذبحناهُ/ وهو يصلي صلاة العشاءْ/ فتاريخنا كلهُ محنة/ وأيامنا كلها كربلاءْ". حيث تتجرّد كربلاء من كينونتها الجغرافية؛ لتتحول إلى فضاء كوني دائمي الحضور بأبعاده الزمانية والمكانية.
3. الرمز الملهم: العطش، الدم، المرأة، الثورة. لقد سعت القصيدة الحديثة إلى استثمار الصورة المركبة للطف بكل أبعادها؛ لتعيد تركيبها في بعد رمزي يمنحها حضورًا نابضًا بالحياة ومساحة تعبيريّة عن صراعاتها المختلفة، فالعطش: يتحول إلى رمز للحرمان الوجودي من العدالة، لا مجرد حالة فيزيولوجية، ومن هذا المنطلق تأتي قصيدة الماغوط لتجعل من رمزية النهر نافذة للثورة ضد الظلم: "سأبقى معك وجهًا لوجه/ لا كعاشق بل كمحقق/ كما فعلوا معي من قبل/ على مرأى منك ومن ضفافك/ سأنزع أعشابك واحدة واحدة كالأظافر/ وأحرق ضفتيك بأعقاب اللفائف/ وأنا مدخن شره كما تعلم/ ولن تنجدك (دمشق)/ ولن تفتديك بحصاة من أرصفتها/ وماذا فعلت لك عندما جف ماؤك وتكشف قاعك الموحل والمخجل أمام الغادي والرائح؟***/ بردى.../ أيها الحسين المتناثر هنا وهناك/ سأستردك من النوافير والصنابير والأقداح وقدور الحساء في المطابخ/ ومطرات الجنود في المعارك/ وغرف الإغماء والإنعاش في السجون والمستشفيات/ لأرد لك اعتبارك على طريقتي".
وتتوزع صورة المرأة في القصيدة الحسينية الحديثة بين حالتين تمثلان: رمز القوة الخطابيَّة والتأويل الروحي للمأساة، وذلك من خلال رمزية السيدة زينب (ع)، وهو ما يجسده شوقي بزيع في هذا المقطع من قصيدته (الرحيل إلى شمس يثرب): "ويثرب تنأى/ فتسكنها وحشة الأنبياء/ وزينب تخضرّ في الرمل/ ثم تغني/ فتأتي العصافير/ والأرض تصبح بيضاء مثل المواويل/ أو مثل نهر دفين/ وزينب تبكي وتبكي وتبكي/ ولكن يثرب تنأى إلى أبد الآبدين".
بينما تتمثل الرمزية الثورية في ما تجسده قصيدة الجواهري الخالدة، باستخدام رمزية يد الإمام المقطوعة الإصبع كباعث لإحياء الضمير المجدب؛ عبر فعل ثوري ينتفض على حالة الخنوع المهيمن عليه؛ ليكون في صورة نابضة بالحياة والحرية والكرامة: (كأنَّ يدًا من وراء الضريح... حمراء مبتورة الإصبعِ/ تمدُّ إلى عالم بالخنوع... والضيم ذي شَرَقٍ مُترعِ/ تخبطّ في غابة أطبقت... على مذئبٍ منه أو مسبعِ/ لتُبدل منه جديب الضمير... بآخر معشوشبٍ ممرعِ).
ولعلنا لا نبتعد عن الحقيقة إذا ما قلنا: إنّ القصيدة الحسينيّة لا تستنفد رمزيتها؛ لأنّ كربلاء نفسها لا تنفد، فهي ليست واقعة قديمة، بل "أفق تأويلي" مفتوح، كما أن الموت الجسدي للحسين (ع) ليس فناءً لروحه الخالدة، مثلما أن صمته الفيزيائي ليس فناءً لصوته الحي الذي يملأ صداه الأسماع، وهو ما يحاول الشعراء استعادة رمزيته المتجددة؛ ليقرأوا من خلاله ذواتهم وتاريخهم وعالمهم، مؤكدين من خلال ذلك سرمديته العصيَّة على التلاشي، كما يتجسّد في هذا المقطع من قصيدة لعبد الرزاق عبد الواحد: "يا حسين، إن للصمت في أرضنا آيتين/ أن يكون كريماً، عظيماً، رحيماً، كصمتك/ ممتلئًا بالمروءة، ممتلئًا بالنبوة، ممتلئًا بالنشور/ غبشًا يتوسط بين انتهاء الحياة وبدء القيامة/ وعليه علامة/ إنه مفعم بالحضور.. أو يكون كصمت القبور".
وهكذا، فإنّ الرمز في القصيدة الحسينية بكل أدوارها وأشكالها لا يُلغى بالتكرار، بل يتجدد، لأنه يتجاوز المدلول الثابت، ويُعيد إنتاج المعنى في كل سياق، وهو ليس صوتًا لمأساة قديمة، بل هو طاقة تأويلية متجددة تستنطق الماضي لصياغة رؤية للمستقبل، فهو إذ يتكئ على الحزن، لا يستسلم له، بل يحوّله إلى محرّك للكرامة والتنوير. ومن هنا، يبقى هذا الشعر شاهدًا على خلود المعنى في مواجهة فناء الجسد، وعلى قدرة اللغة أن تخلق من الدم قصيدة لا تموت.