التَّميُّز
عْاشُورْاءُ السَّنَةُ الثَّانية عشَرَة (٧)
نـــــزار حيدر
2025-07-05 01:12
العُظماءُ والمُتميِّزونَ فقط هُمُ الذينَ يُبادرُونَ لتوظيفِ الفُرصِ التَّاريخيَّةِ لإِنجازِ التَّغييرِ والإِصلاحِ لصالحِ الإِنسان وحُرِّيتهِ وكرامتهِ وسعادتهِ، أَمَّا الخائفُونَ الذينَ يُجبِّنُ بعضهُم البعض الآخر ويتلاومُونَ فلا يتحمَّلُونَ المسؤُوليَّة ويتذرَّعونَ بكُلِّ شيءٍ للهرَبِ من الإِستحقاقاتِ التَّاريخيَّةِ! أَمَّا المُتردِّدونَ الذينَ يقدِّمونَ مصالحهُم الشخصيَّة والحزبيَّة والعشائريَّة والمناطقيَّة والطائفيَّة على المصالحِ العُليا للأُمَّةِ والمُجتمعِ، فهؤُلاء يفرِّطونَ بالفُرصةِ ويضيِّعونَها بسببِ غبائهِم وجهلهِم وحماقاتهِم وأَحياناً مثاليَّاتهِم التي لم يُحسِنُوا مراعاتِها (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ).
يقولُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) (لَا يُقِيمُ أَمْرَ اللَّه سُبْحَانَه إِلَّا مَنْ لَا يُصَانِعُ [يُجامِلُ، يُداهِنُ، يُخادِعُ، يُحاوِلُ إِرضاءَ شخصٍ ما بطريقةٍ غَير صادِقةٍ] ولَا يُضَارِعُ [ذَلْ وخَضَعْ] ولَا يَتَّبِعُ الْمَطَامِعَ [رَغِبَ فِي الاسْتِحْوَاذِ عَلَيْهِ]) فإِنَّ (أَكْثَرُ مَصَارِعِ الْعُقُولِ تَحْتَ بُرُوقِ الْمَطَامِعِ) كما يقُولُ (ع).
المُتميِّزونَ يخلقُونَ من الفُرصةِ حدَثاً عظيماً ومُنعطفاً تاريخيّاً يتحوَّل إِلى مدرسةٍ تتعلَّم فيها الأَجيالُ المُتعاقِبة درُوس الكَرامة الإِنسانيَّة، أَمَّا الحَمقى فيحوِّلونَ الفُرصةَ إِلى عِبرةٍ قد تتعلَّم منها الأَجيالُ كيفَ تتجنَّب أَسباب الفشَل وعوامِل التخلُّفِ والسُّقُوطِ والإِنحدارِ.
كربلاء فُرصةٌ هيَّأَها الحُسين السِّبط (ع) واقتنصَها العُظماء وسَقاها الشُّهداء بدمائهِم الزَّاكِية وطارَت بها عقيلة الهاشمييِّنَ زينَب بِنت عليٍّ (ع) إِلى آفاق السَّماء التي ظنَّ الطَّاغوت أَنَّهُ منعَها وحجبَها عن صوتِ الحقِّ الهادِر الذي يعلُو ولا يُعلى عليهِ شيءٌ (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ) كما وصفَت ذلكَ العقيلةُ (ع) بقولِها في خُطبتِها النَّاريَّة التي أَلقَتها في مَجلسهِ (أظنَنْتَ يا يزِيد حيثُ أخَذتَ علَينا أَقطار الأَرض وآفاق السَّماء) فتحوَّلت أَسماء رِجال كربلاء إِلى رمزيَّة تاريخيَّة يسعى المُنصِفُونَ للإِهتداءِ بها والتعلُّمِ منها واقتفاءِ أَثرِها.
إِنَّ الذينَ شخصَت أَسماؤُهم في جبهةِ الحقِّ في كربلاء في عاشُوراء عام ٦١ للهجرةِ اتَّسمُوا بُكلِّ الصِّفاتِ العظيمةِ التي يتطلَّبها مثلَ هذا الموقفِ وهذا الدَّورِ الذي احتاجَ منهُم التَّضحية بالنَّفسِ، فلقد تميَّزُوا بـ:
- الإِيمانُ بالقضيَّةِ حدِّ اليَقين فلا مَعنى للشكِّ والتردُّدِ والتَّراجُعِ في خياراتهِم فكانُوا ممَّن وصفهُم أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) بقولهِ (ويَقْوَى بِهِمُ الإِيمَانُ).
لقد كانَ إِيمانهُم مُكتمِلَ الأَركانِ التي ذكرَها (ع) في معرضِ تعريفهِ الإِيمانَ عندما سُئِلَ عنهُ قائلاً (الإِيمَانُ عَلَى أَرْبَعِ دَعَائِمَ؛ عَلَى الصَّبْرِ والْيَقِينِ والْعَدْلِ والْجِهَادِ).
فلم يكُن الإِيمانُ لقلقةَ لسانٍ أَو مظاهِر وإِنَّما هوَ كما عرَّفهُ (ع) عندَما (سُئِلَ عَنِ الإِيمَانِ فَقَالَ؛ الإِيمَانُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ وإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ وعَمَلٌ بِالأَرْكَانِ).
كما أَنَّ يقينهُم هو الآخر مُكتمِل الأَركان كما ذكرَها (ع) (والْيَقِينُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ؛ عَلَى تَبْصِرَةِ الْفِطْنَةِ وتَأَوُّلِ الْحِكْمَةِ ومَوْعِظَةِ الْعِبْرَةِ وسُنَّةِ الأَوَّلِينَ).
- الصَّبرُ على القضيَّةِ حدَّ التَّضحية فلا خُذلانَ ولا هزيمةَ ولا تراجُع ولا أَعذارَ فكانَ صبرهُم كذلكَ مُكتمِل الأَركان كما يصفهُ (ع) (والصَّبْرُ مِنْهَا عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ؛ عَلَى الشَّوْقِ والشَّفَقِ والزُّهْدِ والتَّرَقُّبِ).
بالصَّبرِ واليقينِ هُم أَئِمَّةُ العِزَّةِ وعُنوانِ الحريَّةِ والكرامَةِ (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ).
- الثِّقة بالقائِد حدَّ الطَّاعة الواعِية والذَّوبان في القرارِ الرِّسالي.
فمثل هذهِ النَّماذج الفَريدة يتأَوَّه عليها الإِمام (ع) عندما كانَ يفقُد أَحدهُم بقولهِ الحزين الرَّائع (أَوِّه عَلَى إِخْوَانِيَ الَّذِينَ تَلَوُا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوه وتَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوه أَحْيَوُا السُّنَّةَ وأَمَاتُوا الْبِدْعَةَ، دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا ووَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوه). وقليلٌ ما هُم.
- النَّزاهةُ والأَمانةُ حدَّ العِصمةِ، فهيَ في قاموسهِم عامَّة شامِلة تمثَّلَت وتشبَّعَت بها نفُوسهُم كما أَشارَ لجانبٍ منها أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) في خُطبةٍ طويلةٍ (نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ والنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ، أَتْعَبَ نَفْسَهُ لِآخِرَتِهِ وأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ، بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ ونَزَاهَةٌ ودُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِينٌ ورَحْمَةٌ، لَيْسَ تَبَاعُدُهُ بِكِبْرٍ وعَظَمَةٍ ولَا دُنُوُّهِ بِمَكْرٍ وخَدِيعَةٍ).
- الشَّجاعةُ حدَّ التقحُّمِ فلا معْنى للجُبنِ والنُّكُوصِ والخَوفِ في قاموسهِم.
الشَّجاعةُ التي يصفُها (ع) بقولهِ (ولَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّه (ص) نَقْتُلُ آبَاءَنَا وأَبْنَاءَنَا وإِخْوَانَنَا وأَعْمَامَنَا؛ مَا يَزِيدُنَا ذَلِكَ إِلَّا إِيمَاناً وتَسْلِيماً ومُضِيّاً عَلَى اللَّقَمِ وصَبْراً عَلَى مَضَضِ الأَلَمِ وجِدّاً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ).
وغيرها من الصِّفات التي ميَّزتهُم في صفحاتِ التَّاريخ.
وصدقَ الإِمامُ جعفَر بن مُحمَّد الصَّادِق (ع) الذي وصفَ أَحَد أَعظَم رِجالات عاشُوراء بعدَ السِّبطِ (ع) قمرُ بني هاشمٍ (ع) بقَولهِ (كانَ عمُّنا العبَّاس نافِذَ البصِيرةِ صُلبَ الإِيمانِ، جاهَدَ معَ أَبي عبدِ الله (ع) وأَبلى بلاءً حسناً ومضى شهيداً).