زهرة في الشام
مروة حسن الجبوري
2015-11-17 05:19
بين تلك الازقة المتعرجة والبيوت المتكئة بعضها على بعض، والتي تشي للناظر بقصة تاريخ طويل، أتأمل تلك الأحجار والخدوش والزخارف على الابواب، أحجارها تحكي لنا قصصا من الزمن الغابر، قبة خضراء تلوح عالية.. بين الحارات تعلو رايتها.
عسعس الليل واسدل ستارة الهدوء، شمل كل شيء حي في الوجود، سكنت الاصوات ونامت العيون قريرة بعد ان أصابها تعب السبي والضرب، بقيت عين واحدة ساهرة مسهّدة بين النجوم، تراقبها وتبكي، تناشد القمر، أيها القمر هل رأيت والدي.. أخي.. عمي.. انت ترى كل من على الأرض، هل رأيت أبي؟
تتذكر الاسماء وتردد بينها وبين القمر، الظلام موحش والخربة أكثر وحشة، تدور الذكريات الحزينة وواقعة الطف، موقف والدها يلاعبها، يحاكيها، تطير بذكرياتها الى والدها والاهل سرعان ما ترجع يتيمة متوسدة التراب، مسلوبة القرط، غير ألوانها الضرب والعطش، خطف السيف أهلها فغدت يتيمة يسفر بها من بلد الى بلد ومن خربة الى خربة لا سقف فيها يحميها حرارة الشمس بقيت تحاكي القمر، وعين عمتها تراقبها ودموعها تنهدر، عزيزتي أهدئي ها هو الظلام قد حل.. عمتي اين والدي جاء الظلام ولم يأت والدي.!
ماذا تجيبها عمتها وما الذي تستطيع أن تقوله لكي تهدأ هذه الطفلة وتنام؟
هل تقول لها أن اباها لم يدفن بعد؟ مات عطشانا.. الخيل هشمت صدره.. حز راسه الشريف.. ماذا تقول ؟؟
تقول لها عن مصائب كربلاء ام عن مصائب القيود والسبي؟
جددت الاحزان على زينب، وعادت كربلاء من جديد، طفلة اشتاقت لرؤية والدها، مرّت أيام لم ترى والدها ولم تسمع صوته.
البكاء والنحيب بين زينب ورقية طويل، تناشدها اين عمي.. اين علي.. اين عبدالله..اين والدي..؟
استيقظوا على العويل والدموع بين الطفلة وعمتها، كل واحدة تنعى على فقيدها حتى ضجت الخربة بأصوات الثكالى فهذه تذكر ولدها، وتلك أخاها، وأخرى عمها.. اخترق الصوت باحات قصر يزيد حتى وصل الى مخدعه حتى فزع وافاق من نومه، تساءل عن مصدر البكاء والعويل؟
قالوا له أن هنالك طفلة ذكرت اباها؟ فأمر رجاله ان يأخذوا اليها راس والدها بالطشت الذي كان في مجلسه حتى تهدأ وتنام.
نعم جاءوا رجاله بالطشت الى الخربة وقالوا لها: خذي هذا. رجعت الى الوراء وهي تنادي عمه: لا اريد طعاما اريد والدي.
اخذوا الطشت ووضعوه في الخربة، قالت لها عمتها: ان في الطشت عزيزك.
اخذته ضمته الى صدرها، ابي من الذي حز راسك؟ ابي من الذي خضب شيبك؟ ابي.. ابي.. تحدثه عن جروحها تكشف عن اذنها وتقول والدي سلبوني.. ابي ضرب السياط يؤلمني.. ابي لم يرحموا صغر سني..
لم يرفقوا بي..
اختفى القمر باكيا حزينا على احزان هذه الطفلة.
الظلام والخربة وطفلة ووالدها منظر لا مثيل له على وجه التاريخ البشري...
بعد ما حكت له حنينها واشتياقها تقبل الرأس وتضمه، هدأت وخفّ أنينها وأغمضت عينيها، اعتلى الحزن في وجهها، طرف عينها دمعة لم تجف بعد.. تصوروا إن الطفلة غطت في سبات عميق، طلعت الشمس ولم تحرك ساكنا، سمعوا صوت الامام زين العابدين: عمة ارفعيها لقد فارقت رقية الحياة ملتحقة بأبيها واخوانها مجلس عزاء وبكاء في خربة بعيدة عن الاوطان.
تكفلت السيدة زينب في تغسليها وتكفينها واختار موضعا مناسبا لقبرها الشريف.
بقيت خربة الشام علامة ما بقي الدهر شاهدا حيا، ان الانتصار للمظلوم وان الشهداء احياء عند ربهم يرزقون فتمر الاجيال تلو الاجيال لتقف امام هذا الصرح الطاهر لتؤدي السلام بخشوع واجلال.