نساء عاشوراء.. أم المذبوح
مروة حسن الجبوري
2015-11-08 03:18
الشمس كورت، والنجوم انكدرت، والسماء تكاد ان تنطبق على الارض، هكذا كان يوم عاشوراء. حمرة لون السماء كالدم العبيط، وصورة طفل جميل ترتسم على القمر، مهد لا ضوء فيه يهزه عزرائيل، أم ترضع طفلها من دموعها، تحاكيه، وتلعبه، تناغيه والسهم ينتظره... تناغيه ليلا لعله ينام، فلا ماء ولا حليب، يا طفلي الرضيع لا تخف، سيأتي الماء في الصباح.. يا طفل الحسين يا عصفورا في كربلاء يا للابتسامة الظمآنة على مبسمك، لا تحزن يا رضيعي عند جدك الحوض.
يا طفلي الصغير قد جف اللبن في صدري، اعتذر يا ولدي، أقدم لك الاعتذار، لروحك، لنحرك المذبوح. سأشتاق لعينيك البريئتين ولمناغاتك. يا قمري ليس لدي شيء أقدمه لك، فأنا مثلك مكسورة الجناح وفي قلبي ألف جمرة من الظمأ. آه يا طفلي الحبيب يا بدرا بين الهواشم قد انخسف قبل اكتماله، يا زهرة قطفت قبل تفتح أزهارها. أسبلت عيونك من العطش ونامت ألحانك، كأنك طائر الجنة، يغفو على غصن ذابل، كأنك نجمة ضاعت مابين السحب والضباب، جثث تركت شاهدا للموت الذي لا مفر منه، فهذه الارض يا طفلي ليست ارض السلام، لا مهد فيها ولا ماء، لا تحزن يا ولدي، دم نحرك لا يركع بل ارتفع إلى السماء، معلناً شكواه لرب عزيز ذو انتقام.
جاء الصباح ليسرق ابتسامة رضيعها وليدفن ملامح البراءة. مناغاتها مع طفلها، أوقفني متسائلأ..! من يا ترى تكون...؟! ولماذا جاءت إلى هذه الأرض مع طفلها؟! أجابت كربلاء: هذه أم الطفل الرضيع هذه رباب بنت امرئ القيس الكلبي بن عدي بن أوس بن جابر، أمّها هند الهنود بنت الربيع بن مسعود، من سادات قريش وإحدى زوجات الامام الحسين عليه السلام، أنجبت منه اثنين فقط، عبد الله الرضيع والسيدة سكينة سلام الله عليهما.
عن زواجها ذكر في كتب التاريخ. إن الإمام علي (ع) قد خطب بنات أمرئ القيس قائلاً: (أنا علي بن أبي طالب ابن عم النبي (ص) وهذان ابناي من ابنته، وقد رغبنا في صهرك فانكحنا). فقال له: قد أنكحتك يا علي الحياة ابنة امرئ القيس، وأنكحتك يا حسن سلمى بنت امرئ القيس، وأنكحتك يا حسين الرباب ابنة امرئ. الرباب كانت من خيار النساء جمالاً وأدباً وعقلاً، أسلم أبوها في زمن تولي عمر، وكان نصرانياً من عرب الشام، فولّاه عمر على قومه من قضاعة، وما أمسى حتى خطب إليه علي بن أبي طالب (ع) ابنته الرباب على ابنه الحسين فزوّجه إياها.
تميزت (الرباب) من بين قومها بالعبادة، اخذت الأدب والفصاحة من أسرتها حتى عرفت بالفصاحة والحكمة ونظم الشعر، وكان والدها وأعمامها كبار وجوه الجزيرة العربية، وكان لهم معرفة خاصة في أنساب العرب وحسم الخلافات بسبب ما عرِفوا به من رجاحة العقل وحسن البلاغة ورزانة الشخصية.
دخلت هذه السيدة رباب بيت الإمام الحسين (ع) وحظيت بالسعادة والفرح ومن مثلها تزوجت سيد شباب أهل الجنة وابن بنت رسول الله (ص)، وولدت له (سكينة) عقيلة بني قريش، و(عبد الله الرضيع)، بادلها الإمام الحسين الحب والإعجاب والارتياح حتى قال عنها شعرا:
لعمركَ أنّني لأحبّ داراً تحلُّ بها سكينةُ والربابُ
أحبّهمـا وأبذلُ جُـلَّ مالـي ولـيس لعاتب عندي عتابُ
ولستُ لهم وإنْ عَتبوا مطيعاً حياتي أو يغيّبني التراب.
أي منزلة تحظى بها هذه المرأة عند الإمام الحسين! مرت الأيام والسيدة رباب تعيش الحب والأمان مع سيدها الامام الحسين واطفالها. عندما حان موعد انطلاق القافلة قرّر الإمام الحسين (ع) التوجّه إلى أرض العراق رافقته السيدة (الرباب)، وكانت قريبة منه تشاركه همومه تقف إلى جانبه مع باقي الهاشميات.
الرباب في واقعة الطف
لم تختلف السيدة (الرباب) عن باقي الهاشميات فكانت ذات عزيمة قوية وإيمان صلب، وكيف لا تكون كذلك وهي زوجة الحسين، عاشت في بيت الإمامة وتخلقت بأخلاقه ونهلت من صفاته الإلهية وسجاياه المحمدية وخصاله العلوية، الإمام الذي وقف أمام الطواغيت ورفض الذلة والسلة، أذهل جميع عقول البشرية على طول التاريخ إلى يومنا هذا.
نعم صبرت السيدة (الرباب) على ألم لا يصبر عليه أحد، فقدت طفلها الرضيع والذي ذكر في كتب التاريخ في واقعة كربلاء، فقد قُتِل على مرأى منها ولا يخفى على أحد أن ألم قتل طفل رضيع ليس له ذنب، ولم يشترك بقتال، أم فقدت رضيعها البالغ من العمر بضعة أشهر، مذبوحا عطشانا لا ماء ولا حليب قد جف لبن أمه، يا له من ألم يصعب تحمله. لكنها قدمت طفلها عبد الله قربانا كباقي القرابين الهاشمية، وصبرت واحتسبته عند الله، مواسية بذلك الزهراء (ع) حتى سجل صبرها أعلى مراحل الصبر فضُربت بها الأمثال.
ولا تزال السيدة (الرباب) في ذاكرة الشعراء والمفكرين الذين قالوا فيها أروع القصائد التي تحكي قصة أم ثكلى، كانت تناغي طفلها الرضيع وتهزّ مهده الخالي ولا تهدأ كلما رأت طفلا رضيعا.
السيدة (رباب) بعد واقعة الطف
وبعد انتهاء المعركة واستشهاد الإمام الحسين (ع) وطفلها الرضيع لم يتبق أحد لها، أُخِذت أسيرة مع النساء الهاشميات إلى الكوفة ثم إلى الشام، وتعرضت إلى الضرب والشتم، ترى رأس زوجها مرفوعا رمح الغدر، ورأس رضيعها الصغير أيضا رفع، مولولة باكية بألم وحسرة.
اما الحديث عن وفائها واخلاصها للإمام الحسين، فقد كانت نعم الزوجة الوفية، الصابرة، وقد تحدّث المؤرخون من الشيعة عن السيدة رباب بعد رجوعها إلى المدينة وذكروا أنها لم تستظل بسقف؛ بل طلبت من البنّاء أن يقلع سقف الدار وجلست لا تستظل بظل صيفاً ولا شتاء حتى فارقت الحياة، وخطبها الأشراف والأثرياء ووجهاء المدينة إلا أنها امتنعت على الرغم من محاولتهم، إلا انها كانت ترفض فتردّ عليهم بذلك الجواب الذي يبيّن مدى حبها ووفائها للإمام الحسين (ع): ما كنتُ لأتخذ حمواً بعد بن رسول الله (ص) فوالله لا يؤويني رجلاً بعد الحسين أبداً.
لم تبقَ السيدة (الرباب) في المدينة سوى بضعة شهور حتى عادت إلى العراق، وأقامت عند قبر الحسين (ع) سنة كاملة تبكيه وترثيه وتذكر ما جرى عليه كما ذكر ذلك عديد من الكتّاب والمؤرخين من الشيعة الإمامية في كتبهم، وبعد مضي سنة على مكوثها عند القبر الشريف طلب منها بعض رجال بني هاشم ترك كربلاء والعودة إلى المدينة، لأن المرض أخذ منها مأخذاً، فعادت إلى المدينة ولكنها لم تتوقف عن البكاء والنوح والعويل على الإمام. رغم محاولات بني أمية من منعها والوقوف أمامها لكنها اتخذت الرثاء وسيلة لفضح بني أمية وما فعلوا بالإمام وأهل بيته في معركة الحق على الباطل ضد الظلم والطغيان.
وجاء في تذكرة الخواص، إن الرباب بنت امرىء القيس زوجة الحسين أخذت الرأس ووضعته في حجرها وقبّلته وقالت:
وا حسيناً فـلا نـسيتُ حُسيناً أقصدتـه أسنّـة الأعــداءِ
غـادروه بكـربلاء صـريعاً لا سقى الله جانبي كربلاء
وممّا قالته السيدة رباب في موضع آخر وهي ترثيه الامام (ع):
إنّ الذي كان نوراً يُستضاءُ به بكربـلاءَ قتيـلٌ غيـرُ مدفونِ
سبطُ النبيّ جزاكَ الله صـالحةً عنّـا وجُنّبتَ خسران الموازينِ
قد كنتَ لي جبلاً صلدً ألوذُ بهِ وكـنتَ تصحبنا بالرحمِ والدينِ
فمن يجيبُ نداء المستغيثِ ومن يغنـي ويؤوي إليه كلّ مسكينِ
تا الله لا أبتغي صهـراً بصهركـم حتى اُوسّدَ بين اللحد والطينِ
هذا بعض ما ذكر في سيرة حياة هذه المرأة العظيمة نأخذ منها العبرة في إخلاصها وحبها ووفائها لزوجها، عل الرغم من أنها بقيت تنعى الإمام بقلب جريح قد ملأ من نار الفراق ودمع يهمل حتى آخر ساعة من حياتها، بعد عام ونصف والبعض يذكر عاما فقط، عاشت بعد استشهاد الإمام الحسين (ع) كما يذكر المؤرخون.
هذه واحدة من النساء اللواتي حضرن عاشوراء، فكل واحدة قدوة واسوة تقتدي بها اﻻمهات الفاقدات، وأعطين بشهادة فلذات اكبادهم الدروس المشرّفة لكل محبةٍ ومواليةٍ لأهل البيت من صغيرهم إلى كبيرهم.