زيارة الأربعين والآفاق المستقبلية للعراق
شبكة النبأ
2022-09-14 05:45
في العشرين من شهر صفر الهجري، يتم بشكل دوري سنوي، إحياء مراسيم زيارة أربعين الإمام الحسين (عليه السلام)، ويشارك في هذه الشعيرة الحسينية ملايين الزوّار الكرام القادمين من مناطق وبلدان العالم كافة، برّا وبحرا وجوّا، بالإضافة إلى سكان العراق من الشرق والغرب والشمال والجنوب.
هذه الملايين تتدفق كالسيل الهادر إلى وجهتها المحددة، في مدينة كربلاء المقدسة، حيث مرقد الإمام الحسين وأخيه العباس (عليهما السلام)، فتشارك في هذه الشعيرة عبر تأدية الزيارة للمرقد الشريف، وكذلك المشاركة في مجالس العزاء، والمواكب الحسينية المباركة، وهذه الجموع الغفيرة من الزوار تتشح بالسواد والحزن تعبيرا عن مناصرة سبط رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
تعدّ زيارة الأربعين الحسيني أكبر تجمع بشري سنوي على مستوى العالم، حيث تستقطب الملايين من الزوار الكرام، وقد تزايدت الأعداد وتضاعفت بشكل تصاعدي منذ سقوط نظام صدام المستبد الذي كان يمنع توجّه الزوار إلى مدينة كربلاء المقدسة لإحياء هذه الزيارة، ولكن بعد زواله وسقوط عرشه تضاعفت أعداد الزائرين الكرام بشكل كبير لتبلغ عدة ملايين، وفي تصريح حديث لمحافظ كربلاء قال فيه أن أعداد زوّار الأربعينية الكرام للسنة الحالية بلغ عشرين 20 مليونا ومن المتوقع أن يصل إلى اثنين وعشرين 22 مليون زائر.
هذا العدد الكبير من الزوار الكرام يتوجّه كما ذكرنا إلى كربلاء المقدسة عبر المدن والطرق المؤدية إلى المرقد الشريف، وهنالك المطارات التي تستقبل الآلاف أيضا، لاسيما في النجف الأشرف، وهناك المنافذ الحدودية التي تستقبل الزائرين الكرام من دول الجوار، حيث يسيرون مئات الكيلومترات مشيا على الأقدام، ولهذا تُقام آلاف المواكب الحسينية وتُنصَب آلاف السرادقات لتقديم الخدمات اللازمة مثل الطعام والشراب والراحة والمنام والتطبيب وما إلى ذلك.
يبقى هذا السيل البشري متدفقا على مدينة كربلاء المقدسة من أوائل شهر صفر إلى العشرين منه حيث توقيت الزيارة الأربعينية، وهناك الكثير من الزائرين يواصلون إقامتهم بشهريّ محرم وصفر في مدينتي النجف الأشرف وكربلاء المقدسة لإحياء مراسيم زيارة العاشر من محرّم يوم استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) وذويه وصحبه الأطهار، وهذا الكم البشري الهائل في تصاعد سنوي مستمر وهو دليل على أهمية المبادئ الحسينية والفكر الحسيني على المستوى العالمي.
استثمار زيارة الأربعين اقتصاديا وثقافيا
كثير من المهتمين والخبراء والمحللين يعلنون بأن العراق كلّه محظوظ بهذه الزيارة المليونية السنوية المباركة، ويؤكدون على مدينة كربلاء المقدسة ومستقبلها الزاهر، لأنها المدينة الوحيدة بالعالم تستقطب هذه الأعداد الهائلة التي يمكن أن تفتح آفاقا مستقبلية عظيمة لهذه المدينة وللعراق كلّه، ويدعم هؤلاء الخبراء رأيهم هذا بحقائق واقعية لو التزام بها قادة العراق، واستثمروها بالشكل العلمي العملي الصحيح، فإنها سوف تجعل من هذه المدينة نقطة انطلاق للتقدم الإسلامي، وحافزا عمليا عظيما لتقدم العراق كله.
ينطلق الخبراء الاقتصاديون وغيرهم، من تكرار الزيارات المليونية سنويا، ومن السعي لاستيعاب مدينة كربلاء المقدسة لهذه الأعداد الهائلة، حيث أكدوا على حتمية بناء وتطوير البنية التحتية لكربلاء المقدسة، بما يجعلها قادرة على تقديم كامل الخدمات لضيوف الحسين (عليه السلام) وزواره الكرام، ولذلك فإن الزيارة الأربعينية يجب أن يتم استثمارها اقتصاديا لصالح كربلاء المقدسة وللعراق كله، بعد أن ازدهرت دينيا وأثبتت قدرتها على استيعاب هذه الأعداد الضخمة، مع التزامها (الأهالي والحكومة) بتقديم الخدمات كافة لزوّرها الكرام.
ينظر الخبراء والمهتمون إلى هذا التجمع البشري غير المسبوق، من خلال إصرار المؤمنين بمبادئ الحسين (عليه السلام)، على جعل العالم أفضل، وتخليصه من أزماته المختلفة، ومن طابع التشنج العالمي الذي يحدث بسبب تراجع قيم الخير، واستفحال المدّ الدنيوي المادي في العالم أجمع، مع إصرار القوى العالمية، والحكومات والشركات التي تفرّدت بثروات الأرض والبشرية، للهيمنة المطلقة على العالم، الأمر الذي يجعل من عيون وقلوب سكان الأرض تبحث عن البديل السياسي والاقتصادي الذي يخفف من حدة أزمات العالم، ممثلا بالفكر الحسيني وقيم عاشوراء.
هذه القيم المستقاة من وقفة سبط النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، حيث التعاون والاعتدال والإنصاف، وقيم الخير هي الركائز التي تقوم عليها ثقافة عاشوراء، وهي القيم التي يفتقدها العالم اليوم، لهذا يتشبث الناس بسبل الخلاص وإيقاف إنحدار العالم إلى الهاوية، والدليل على ذلك تضاعف أعداد زوار الأربعينية سنة بعد أخرى، وإلا ما الذي يفسر هذا التعاظم والتمسك بثورة الحسين ومبادئها، سوى حاجة الناس للاستقرار والعدالة والسلام؟
لذا فإن زيارة الأربعين تفتح الآفاق واسعة أمام العراق والعراقيين، لجعل هذه الزيارة منطلقا للتقدم الاقتصادي الكبير، من خلال إطلاق برنامج سياحي ديني يقوم على توفير ما يحتاجه الزائرون الكرام من خدمات مختلفة، والبدء بشكل فوري بتمكين المدينة المقدسة وسكانها كي يكونوا أهلا لمسؤولية تضييف وخدمة زوار الإمام الحسين (عليه السلام)، ولكي يتم تحقيق هذا الهدف الجوهري، لابد للجهات المعنية رسمية أو غيرها، الشروع بالتالي:
أهداف لابد من إنجازها
أولا: رسم خطة واقعية لدعم البنى التحتية لمدينة كربلاء المقدسة والمدن والمناطق التي تؤدي إليها، وجعلها قادرة فعليا على تقديم الضيافة الكريمة التي يستحقها زائرو الأربعينية الكرام.
ثانيا: توسيع الآفاق السياحية انطلاقا من هذه الزيارة، والتخطيط الاقتصادي السليم لاستثمارها في تطوير العراق وكربلاء المقدسة اقتصاديا.
ثالثا: هنالك آفاق ثقافية مهمة ترافق زيارة الأربعين، لابد من تطويرها والاستفادة منها كي تنعكس على واقع العراقيين وتجعل من حياتهم الثقافية أفضل.
رابعا: الاستفادة من الانعكاسات والآفاق الفكرية التي تحملها زيارة الأربعين، وجعلها رافدا فكريا داعما للتفكير الذي يطور حياة العراقيين.
خامسا: التركيز على زيادة فرص العمل انطلاقا من زيارة الأربعين واستثمار الملايين القادمة للحسين (عليه السلام) من خلال إنشاء المعامل الصغيرة والمتوسطة التي تلبي حاجات الزوار وتعود بالفائدة الاقتصادية على كربلاء والعراق.
سادسا: استثمار الجانب العلمي الذي يرافق هذه الزيارة المقدسة، من خلال ما يحمله زوارها من علوم مختلفة، فهناك تجارب علمية كبيرة على مستوى عالمي يمكن توظيفها لصالح العراقيين بالتنسيق المتبادل بين الأطراف المعنية.
سابعا: هناك آفاق تجارية كبيرة تتيحها هذه الزيارة المليونية للعراق، ولابد من دراسة هذه الفرصة بشكل دقيق من قبل مختصين من ذوي الخبرات التجارية كي ينعكس ذلك على واقع مدينة كربلاء المقدسة والعراق عموما.
ثامنا: إن الإصرار المتعاظم على إحياء الأربعين الحسيني والتمسك بمبادئ النهضة العاشورائية، يتطلب من العراقيين على نحو حاسم استثمار هذه الزيارة بشكل حقيقي وعلمي وعملي وبشكل منظّم ودقيق، لأن هذا التجمع البشري الهائل يمكن أن يكون نقطة انطلاق فعالة لبناء مدينة كربلاء المقدسة، اقتصاديا وتجاريا وثقافيا وفكريا وجعلها من أعظم مدن العالم.
خلاصة الأمر، نرى أن زيارة الأربعين فرصة عظيمة للعراق ولكربلاء المقدسة للتطور والتغيير نحو الأفضل، ولكن يجب أن تكون هناك رؤية ثاقبة لهذا التغيير على المستويات كافة، وتبدأ بالتغيير الاقتصادي إلى الأفضل، والتجاري، والخدمي (البنية التحتية)، وتوفير فرص العمل الكثيرة والكبيرة، على أن يتم ذلك في خطة منتظمة ودقيقة وليست عشوائية، وبهذه الطريقة يمكن أن تتضاعف آفاق التطور الشامل للعراق وكربلاء، ونعني بذلك التطور الاقتصادي والثقافي والديني والفكري والمدني أيضا.