لماذا نقول: يا ليتنا كنا معكم؟
فاطمة مرتضى معاش
2021-09-20 08:56
هناك أسماء كثيرة سطرها التاريخ ولكن البعض منها أصبح خالدا بشكل آخر.
(ريان بن شبيب) هو من الأشخاص المعروفين في التراث الشيعي حيث اقترن اسمه بحديث في قضية الامام الحسين (عليه السلام) وهو من الأحاديث الموثوقة المذكورة في المصادر الأولية ككتاب الأمالي للشيخ صدوق (رحمه الله)، كما تتحدث كتب الرجال عن ريان بن شبيب أنه ثقة وأنه من أصحاب الامام الرضا والامام الجواد (عليهما السلام) ومن الأمور المثيرة في هذه الشخصية أنه كان خال المعتصم العباسي، شخصان من نسب واحد كل منهما اختار طريقه الخاص في الحياة.
يقول ريان بن شبيب أنه دخل على الامام الرضا (عليه السلام) في أول يوم من شهر محرم، وقال له الامام عديد من الأمور التي أصبحت مرجعا للفقهاء في قضايا الامام الحسين واستحباب الكثير من الشعائر الحسينية.
ومما جاء في الحديث الذي روي عن الامام الرضا (عليه السلام): "يَا ابْنَ شَبِيبٍ إِنْ سَرَّكَ أَنْ يكُونَ لَكَ مِنَ الثَّوَابِ مِثْلَ مَا لِمَنِ اسْتُشْهِدَ مَعَ الْحُسَيْنِ علیه السلام فَقُلْ مَتَى مَا ذَكَرْتَهُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً"[1]، كلمات عديدة يتبعها ثواب لايتناهى يفوق القدرة على تصور العقل، كما يقول اميرالمؤمنين (عليه السلام) في صفات المتقين: "تجارة مربحة يسرها لهم ربهم[2]"، تجارة عظيمة تزرع بذرة صغيرة وتحصد الثمار اللامتناهية في عالم الآخرة، فأين نحن وأصحاب الحسين (عليه السلام) الذين ضحوا بأنفسهم وكل ما يملكون في سبيل الله؟! ولكن من لطف الله سبحانه وتعالي أنه يسر طرقا لعباده لنصل او نقترب من مقام اولئك ولو بقول جملة بسيطة.
فماهي الأثار التربوية لقول هذه الكلمات: "يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزا عظيما"؟
أحاديث المعصومين (عليهم السلام) متعددة الأبعاد في بناء شخصية الإنسان: بعد لبناء الحياة الخالدة للإنسان في عالم الآخرة، وبعد لبناء شخصية الإنسان في الدنيا، فالبعد الأخروي بالعمل وذخر الأعمال الصالحة وثوابها يبني حياته في الآخرة، ولكن يبقى البعد الدنيوي فما هو أثره على حياة الانسان؟ هل هناك أثر تربوي بقول جملة صغيرة على بناء شخصية الانسان؟
الدين الإسلامي فيه طرق متعددة في التربية، عندما نقول تربية فنعني المطلق من هذه الكلمة وهي أعم من تربية الانسان لنفسه وتربية الوالدين لأولادهم، سنبحث في هذا المقال عن بعض الطرق التربوية الموجودة في هذا الحديث المبارك لبناء شخصية الإنسان:
- الإيحاء الذاتي (Indoctrinate):
الإيحاء الذاتي حديث داخلي مع النفس، والإيحاء رسالة الى الذات تؤثر في سلوكنا باستدعائها المباشر لخيالنا.
الإنسان لايكاد يأتي عملا من الأعمال دون ان يستخدم خياله، في البدء يرسم صورة ذهنية به، فإذا أردت مثلا أن تزحزح كرسيا أو ترفع كوبا إلى شفتيك، فأولا ترسم صورة زحزحة الكرسي أو رفع الكوب في ذهنك ثم تحوله الى الفعل، الإنسان مثل قبطان السفينة حين يعطي الأوامر والايحاءات لنفسه، فإنه سيقود دفة السفينة الى حيث يريد، لأن الحركة تبدأ من داخله، هو نفسه قادر على توجيه نفسه وسلوكه ومشاعره، الإيحاء الذاتي هو الواسطة التي من خلالها يمكن للإنسان إرادياً أن يغذي عقله الباطن أفكاراً خلاقة، أو أنه بإهماله يمكن أن يسمح للعقل الباطن أن يتغذى على الأفكار ذات الطبيعة الهدامة.
كيف يحصل الإيحاء؟
العلم اليوم يستطيع أن يعرف كيفية استجابة المخ للمؤثرات، إحدى الطرق لدراسة الدماغ البشري وأنشطته هو تسجيل النشاط الكهربائي للدماغ، وهو ما يسمى بـ "تخطيط كهربية الدماغ"(EEG[3])، وهي تقنية لتسجيل النشاط الكهربائي للقشرة الدماغية من الجمجمة، يخلق النشاط الكهربائي الخفيف في الدماغ أنماطاً تسمى موجات الدماغ، وتختلف أعداد هذه الموجات باختلاف الحالات التي تتوارد عليه:
- حالة β (البتا): إذا كانت الأمواج من 13 الى 15موجة كهربائية في الثانية الواحدة (هيرتز) فإن الإنسان سيكون في حالة يقظة تامة.
- حالة α (آلفا): إذا أصدر المخ من 8 الى 13 موجة كهربائية في الثانية الواحدة(هیرتز) يمثل هذا التردد نمط نشاط الدماغ أثناء الإسترخاء والراحة ويحدث عندما لا تعالج القشرة المعلومات والمرئية.
- حالة θ (الثتا): إذا كانت الأمواج من 4 الى 8 موجة كهربائية في الثانية الواحدة(هيرتز) فيحصل النوم.
ويعتمد الإيحاء على حالة آلفا وهي حالة من الاسترخاء العضلي والهدوء الذهني فهو أقرب ما يكون الى التأثر بالإيحاء والتلقين فإن هذه الحالة أضعف حالات النفس الإنسانية.
كيف يؤثر الإيحاء في عقائدنا؟
الاسلام يتتبّع هذه الطريقة بصورة غير مباشرة نجدها في الأحاديث الشريفة، فمثلاً يقول الامام اميرالمؤمنين (عليه السلام):" وَعَوِّدْ نَفْسَكَ التَّصَبُّرَ عَلَى الْمَكْرُوهِ وَنِعْمَ الْخُلُقُ التَّصَبُّر[4]"، عند التصرف أمام مشاكل الحياة فإن لم يستطع الإنسان الصبر فإن الطريق الثاني الذي يكون أمامه هو التّصبر أي أن يوحي ويلقّن نفسه الصبر حتى لو كان ذلك صعباً عليه، فإذا الإنسان رسم لنفسه صورة الصبر فإنّ تحويلها إلى فعل سيكون أسهل بكثير، وفي حديث آخر يقول اميرالمؤمنين (عليه السلام):" إِنْ لَمْ تَكُنْ حَلِيماً فَتَحَلَّمْ فَإِنَّهُ قَلَّ مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ إِلَّا أَوْشَكَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُم[5]"، فإذا لم تجد في نفسك الحلم وضبط النفس فلقّن نفسك الحلم، فإنّ روحك بالايحاء سوف تغيّر مسيرها نحو السلوك الصحيح، ونرى أيضاً أنه من المستحبات المؤكدة عند ولادة المولود أنه قبل أن يسمع شيئاً أن يُقرأ الأذان في الأذن اليمنى وتُقرأ الإقامة في الأذن اليسرى وهذا ايضاً نوع من الايحاء للطفل، وعندما ينتقل الانسان إلى عالم الآخر لايستغنى عن الايحاء أيضاً فيلقن بما يعتقده.
وأيضاً نرى ذلك في الرواية المذكورة، يقول الامام الرضا (عليه السلام):" فَقُلْ مَتَى مَا ذَكَرْتَهُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً" فهنا يطرح سؤالان:
اولاً: في أي وقت يذكر الامام الحسين (عليه السلام)؟
في هذه الرواية لايوجد قيد فاذاً تدل على اطلاق الكلام ولعلّه وفقاً لهذه الدلالة يجدر أن يذكر ابوعبدالله الحسين (عليه السلام) ومصائبه الموجعة طيلة أيام السنة وليس فقط في أيام محرم وصفر، من الأوقات المحبذة ذكر سيدالشهداء (عليه السلام):
1- عند شرب الماء: يقول الشاعر:" إنكم قتلتموه ولكن لم تعطوه الماء؟!" فمنذ اليوم الذي قتل فيه الامام الحسين (عليه السلام) عطشاناً فإنّ الله سبحانه يحب أن يرى كلّما شرب الإنسان الشيعي الماء يتبعه بذكر الحسين (عليه السلام)، يقول داود الرقي أنه كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) إِذَا اسْتَسْقَى الْمَاءَ فَلَمَّا شَرِبَهُ رَأَيْتُهُ قَدِ اسْتَعْبَرَ وَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ بِدُمُوعِهِ، ثُمَّ قَالَ (علیه السلام) لِي يَا دَاوُدُ: لَعَنَ اللَّهُ قَاتِلَ الْحُسَيْنِ وَمَا مِنْ عَبْدٍ شَرِبَ الْمَاءَ فَذَكَرَ الْحُسَيْنَ وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَلَعَنَ قَاتِلَهُ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ لَهُ مِائَةَ أَلْفِ حَسَنَةٍ وَحَطَّ عَنْهُ مِائَةَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ وَرَفَعَ لَهُ مِائَةَ أَلْفِ دَرَجَةٍ وَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ مِائَةَ أَلْفِ نَسَمَةٍ وَحَشَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلِجَ الْفُؤَاد[6]."
2- عند قراءة زيارة عاشوراء
3- عند ذكر مصائبه الشريفة يوميا اقتدائا بمولانا صاحب الزمان الذي يقول في زيارة الناحية المقدسة:" لأَندُبَنَّكَ صَباحاً و مَساءً ولأَبكِيَنَّ عَلَيكَ بَدَلَ الدُّمُوعِ دَماً."
في كل تلك الحالات فإنّ الإنسان يكون في حالة من السكون والهدوء فبالتبع ايضاً يحصل الإيحاء، فعندما تقول: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً، فترتسم لديك الصورة الذهنية للفوز العظيم مع الحسين (عليه السلام) وأنصاره وتمني الكينونة معهم وتغيير السلوك غير المباشر نحو ذلك.
ثانياً: ما هي الايحاءات التي يتلقاها الإنسان من هذه العبارة الشريفة "يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً" ؟
1- يا لَيْتَنِي: الإنسان بطبعه يتمنى الصور اللإيجابية التي يخلقها في عقله وتعطيه الإنطباع الحسن، فإذاً يجدر به أن يكون الانسان قبطاناً وموجهاً لتمنياته حتى تعطيه السعادة في حياته.
2- كُنْتُ مَعَهُمْ: الانسان كائن اجتماعي وليس هناك مفر من أن لايكون مع أحد، ولكن مع من يجب أن يكون؟! هذا ما يحدد مصير الإنسان، الصيرورة مع الإمام الحسين عليه السلام؛ وتمني الكينونة معه (عليه السلام) هو من الأمور التي يجب أن تكون في نظام قناعات الانسان.
3- فَأَفُوز: يجب على الإنسان أن يسعى للفوز في حياته، الحياة من دون الفوز هي حياة من دون معنى وتصبح روتينية.
4- فَوْزاً عَظِيماً: إذاً هناك انتصارات متعددة ويجب على الإنسان أن يسعى لأحسنها وأعظمها، وما هو أعظم من أن يصل الانسان إلى نظام قناعات وسلوك الذي وصل اليه أصحاب الحسين (عليه السلام).
فهذه كلها إيحاءات يحتاجها الإنسان ليستعد ويكتمل من أجل حياة خالدة بانتظاره في العالم الآخر.
- التكرار(Repetition):
هي ايضا طريقة أخرى لبناء شخصية الإنسان، فبالإيحاء تتشكل الصور الذهنية ولكن يمكن ان تنمحي هذه الصور، فلذا نحتاج الى طريقة التكرار لترسيخ هذه الصور ليكون تحولها الى سلوك أسهل وأحسن.
هل سبق لك أن قرأت كتاباً، أو شاركت في دورة تدريبية، أو عرض لك معلومة في مجال يهمك، ثم تجد انه بعد بضعة أسابيع فقط انك لا تتذكر شيء؟!
انّنا نتذكر الأشياء بشكل أفضل عند قراءتها أو سماعها أو مشاهدتها لأول مرة، ولكن مع مرور الوقت تبدأ ذكرياتنا في التلاشي تدريجياً، الايحاء الذاتي تقنية مؤثرة جداً وتشكل الصورة الذهنية للإنسان ولكن لتخزين هذه الصورة وعدم محوها نحتاج الى برنامج ذو نظم وروتين وتكرار معين، حيث یسمح لنا مراجعة المعلومات بنقل معارفنا ومهاراتنا الجديدة من الذاكرة قصيرة المدى إلى الذاكرة طويلة المدى، ثم الاحتفاظ بها هناك.
أحد الدراسات في هذا المجال هو منحنى النسيان الذي توصل اليه الطبيب النفسي "هيرمان ابينغهاوس"[7] والذي أجرى بحثه حول الذاكرة وكيفية تخزين المعلومات فيها، يصف لنا "منحنى النسيان" آلية فقدان المعلومات التي نتلقاها:
- عند تلقي المعلومة: نذكر 100% من المعلومات
- بعد 20 دقيقة: نذكر 60% من المعلومات
- بعد ساعة واحدة: نذكر 45% من المعلومات
- بعد يوم واحد: نذكر ۳۳% من المعلومات
- بعد 6 أيام: نذكر فقط 25% من المعلومات
- بعد 21 يوم: نذكر فقط 20% من المعلومات
- بعد 30 يوم: لانذكر شيئا من المعلومات طبعا ان لم نستخدم تلك المعلومات.
فاذا أردت الاحتفاظ بالمعلومات يجب أن تعكس آلية عمل منحنى النسيان وأن تكرر وتعيد المعلومات على نفسك ضمن مراحل متعددة:
التكرار الأول: 9 ساعات بعد تلقي المعلومة (في نفس اليوم)
التكرار الثاني: اليوم التالي لتلقي المعلومة
التكرار الثالث: يومان بعد تلقي المعلومة
التكرار الرابع: اسبوع بعد تلقي المعلومة
التكرار الخامس: شهر بعد تلقي المعلومة
ونرى أن هذه أيضاّ من الطرق التربوية الموجودة التي استخدمها دين الإسلام، حيث فيه الكثير من البرامج التربوية ذو نظم وروتين معين التي على الإنسان المسلم الإلتزام بها، نحن نسمع نداء الأذان ثلاث مرات يومياً، الأذان يحتوي على أهم ما يجب على الإنسان بأن يعتقد به من التوحيد والنبوة والإمامة والسعي الى الفلاح في الحياة، وبالتكرار يذكّر الانسان بهذه المفاهيم ويزيل غبار الغفلة عن قلبه، ونصلي باليوم خمس مرات مكررة فعن رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): "عَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّهَا عَمُودُ دِينِكُمْ كَابِدُوا اللَّيْلَ بِالصَّلَاةِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ إِنَّمَا مَثَلُ هَذِه الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ مَثَلُ نَهَرٍ جَارٍ بَيْنَ يَدَيْ بَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ فِي الْيَوْمِ خَمْسَ اغْتِسَالاتٍ فَكَمَا يَنْقَى بَدَنُهُ مِنَ الدَّرَنِ بِتَوَاتُرِ الْغَسْلِ فَكَذَا يَنْقَى مِنَ الذُّنُوبِ مَعَ مُدَاوَمَتِهِ الصَّلَاةَ فَلَا يَبْقَى مِنْ ذُنُوبِهِ شَيْء"[8]، فعلى اثر هذا التكرار يترتب أثر على بناء المعنوي وبناء الشخصية لدى الإنسان في آن واحد.
وأيضاً شاهد المقال الرواية المذكورة، يقول الإمام الرضا (عليه السلام):" فَقُلْ مَتَى مَا ذَكَرْتَهُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً"، نحن نذكر الامام الحسين (عليه السلام) كثيراً طيلة أيام السنة، فبعده يجدر أن تكرر هذه العبارة، فبذلك التكرار تترسخ التمنيات الايجابية ذات الجذور المبدئية الصحيحة التي تبنى على أساسها شخصية الإنسان على الاتجاه الصحيح لسيد الشهداء (عليه السلام) ومن استشهد معه وبذل مهجته في طريقه، فيا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً.