النبي الأكرم ورسالته الحسينية
محمد علي جواد تقي
2021-09-12 03:59
"الصلاة يرحمكم الله {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}"، (سورة الأحزاب، الآية 33)
نداءٌ للنبي الأكرم عند باب دار علي وفاطمة لمدة تسعة أشهر هذا النداء جاء امتثالاً من النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، للأمر الإلهي في الآية الكريمة: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}، (سورة طه، الآية133)، فجاء النبي الى دار علي وفاطمة، وهتف بصوت يسمعه الناس: "الصلاة يرحمكم الله"، تم يتلو الآية الكريمة التي صدرنا بها المقال، ثم انتبه المسلمون الى أن النبي راح يكرر هذا النداء كل يوم، وعند حلول وقت صلاة الصبح، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، وليس يوماً او يومين، بل استمر الأمر لتسعة أشهر كاملة.
وهذا ما أثار التساؤلات في ذلك الوقت، وطوال القرون الماضية، وحتى اليوم، عن دوافع هذا التكرار، علماً أن النبي الاكرم كان يقرن نداءه بآية التطهير حتى لا يفسّر البعض في ذلك الزمان، وأيّ زمان آخر، بحرص النبي على تكريس المطلب في الاذهان خشية النسيان! فالآية الكريمة تبين منزلة أهل البيت من الله –تعالى-.
في التكرار رسالة حضارية
ربما تنبه علماء التربية والتعليم الى فائدة التكرار لتعليم القراءة والكتابة، لما له من أثر انطباعي في الذهن، يتعرّف الطفل من خلاله، بل وحتى الرجل الأمي، على شكل الحرف فيحفظه، ومن ثم طريقة النطق، ومن بعدها الكتابة، ونجاح هذه العملية يحتاج لفترة طويلة من القراءة والحفظ والكتابة المكررة ليخرج لدينا الطفل الصغير وقد تعلم القراءة والكتابة من المدرسة.
هذا ما يتعلق بالتعليم في المدارس، نفس الأمر ينطبق على المشروع التربوي داخل الأسرة، فهو يحتاج الى التكرار لأي توجيه أو توصية للأولاد لتكون عالقة في الذهن، ويأتي الأسلوب والطريقة كأهم عامل للحفظ، فقد نلحظ نصيحة او كلمة من الأب او الأم تبقى في ذهن الطفل حتى مراحل طويلة من عمره، بل وحتى يصبح شيخاً كبيراً.
أما الغاية التي يتوخاها رسول الله من ذلك التكرار يتجاوز الاطار الفردي، الى بعد حضاري يتعلق بجميع أفراد الأمة على مر التاريخ، وهو ايجاد حلقة الوصل بينه هو من جهة، وبين الصلاة، وبين أهل بيته، من جهة اخرى، ليكون لدينا مثلث الايمان والولاية: رسول الله- الدين- أهل البيت، فيكون الاستذكار الدائم، ليس في تلك الايام والفترة التي عاشها النبي، بل وبعدها بأعوام وقرون، والى يوم القيامة.
وفي أواسط القرن الماضي وفق نظرية "المنعكس الشرطي"، كما توصل اليه الطبيب الروسي؛ بافلوف (توفي عام1936) بأن الانسان يستجيب لحالات خارجية بتأثير من حالة نفسية (المنعكس الشرطي) تتمثل في أمرين: المثير الصناعي، والمثير الطبيعي، وقد مثّل في الاول: بالجرس الدالّ على أمر ما، وللثاني بالطعام، وربما حتى المثيرات الغرائزية الاخرى فتظهر على الانسان آثار دالة على التأثر نتيجة للمنعكس الشرطي.
وقبل اربعة عشر قرناً، قدم لنا النبي الأكرم، نظرية المنعكس الشرطي "متعدد الابعاد، فعندما ترى أو تسمع باب دار فاطمة يحترق، تتذكر على الفور أن ذلك لم يكن إحراقاً لباب فاطمة فقط، بل هو إحراق لدار رسول الله، وعندما ترى الاعتداء والتطاول على الامام الحسين، عليه السلام، تستيقن بانه قد حصل التعدّي على رسول الله شخصياً"، (الامام الحسين، وفروع الدين- آية الله السيد مرتضى الشيرازي)، ومن ثمّ "بمجرد استذكار الامام الحسين، يستذكر المسلمون الظلامة التي جرت بحقه، وظلمه وقتله بتلك الطريقة المفجعة، ويتذكرون عن مقتله، أن ذلك هو قتل لرسول الله ولرسالته، ولأهدافه"، لاسيما وأنه، صلى الله عليه وآله، قالها مراراً وتكراراً على مرأى ومسمع من المسلمين: "حسينٌ منّي وأنا من حسين، أحبّ الله من أحب حسينا"، و"إن الحسين مصباحُ هُدىً وسفينة نجاة".
هذا هو المثير الصناعي الذي يوجد الترابط العضوي والجوهري بين الاضلاع الثلاثة: النبي، والصلاة، وأهل البيت، وللتأكيد على حقيقة محورية، بأن أهل البيت الوجه الحيّ والفاعل على أرض الواقع للدين، بكل أحكامه وقيمه ونظامه، وأيّ تجاوز على حرمتهم، او التطاول عليهم، فهو تجاوز وتطاول على الدين كله. ومن ثمّ؛ فان قضية الصراع بين أهل البيت، وبين خصومهم وأعدائهم، وتحديداً؛ الامام الحسين، كونه فجّر هذا الصراع بوجههم، لن تنحصر في اختلاف وجهات النظر، ولا اجتهاد في الرأي، ولا هي قضية محدودة بقيمة معينة مثل الحرية، بل هي أوسع من هذا بكثير، فهي تشمل المنظومة القيمية والحضارية للإسلام والتي انتصرت بالدم على سيوف بني أمية.
الامام الحسين الامتداد الطبيعي لرسول الله
هذا ما لا يماري فيه أحد اليوم، ولكن! حصل يوم عاشوراء عندما اتفقت كلمة جموع من المسلمين في الكوفة والشام وأمصار أخرى على أن الامام الحسين ليس امتداد لرسول الله، وأنه يحمل طموحا سياسياً خلال مسيره نحو الكوفة، وقد حاولت بعض الأقلام المحسوبة على "علماء"، و"مثقفين" بفصل قضية عاشوراء عن النبي الاكرم وعن الرسالة، ولكن؛ الرسالة الحسينية لرسول الله للأمة، في زمانه وبعد وفاته، هي التي أحبطت كل هذه المحاولات.
يكفي أن نعرّج على مشهد واحد حصل في مجلس يزيد بالشام، وهو مزهوٌ بانتصار جيشه في معركة الطف، وقد وضع رأس الإمام الحسين، عليه السلام، في طشت له أمامه، وراح يضرب ثغر الإمام بسوط له، وكان قريباً منه، الصحابي المعروف؛ سهل بن سعد الساعدي، فلم يتمالك نفسه أن انطلق معترضاً على هذا الفعل قائلاً: "ارفع سوطك عن هاتين الشفتين، فوالله الذي لا إله هو، رأيت فم رسول الله، بما لا أحصيه عدداً يقبلهما"، فذاك التقبيل لهذا الموقف.
إن الامر لا ينجح بهذه السهولة، فالتحديات عنيفة ومستمرة لتطويق حادثة عاشوراء في إطار الزماني والمكاني، ومحاولة "شخصنة" القضية –إن جاز التعبير- وفصلها عن رسالة الإسلام، وعن شخص رسول الله، لتكون مجرد افكار، وفي بعض الحالات؛ عواطف ومشاعر انسانية لا تلبث ان تخبو حرارتها مع أواخر أيام شهر صفر، ليعود الناس الى برودتهم في المشاعر، وحيادهم الكامل إزاء القيم الدينية والاخلاقية خلال حياتهم اليومية طيلة الأشهر العشر من السنة، الامر الذي يدفعنا لإعادة قراءة مواقف وكلمات الرسول الأكرم فيما يتعلق بأهل البيت، وتحديداً بالامام الحسين، عليه السلام، لتتبلور لنا حقيقة أن النهضة الحسينية امتداد للدين، ولسيرة النبي ورسالته الحضارية البناءة للبشرية جمعاء.