الْمَسِيرَةِ الْحُسَيْنِيَّةِ: علي الأكبر يتحَدِّى المَوتِ فِي الثَّعلَبِيَّةِ
الشيخ الحسين أحمد كريمو
2020-10-04 07:41
مقدمة
الموت حق على كل حي، وهو اليقين الذي لا شك فيه، إلا أنه السوط الذي لا بد منه ولكن يخافه جميع البشر، ويهربون منه وهو مطارهم في الأعمار، وملاقيهم في الآجال، فلا مفرَّ منه ولا مهرب عنه، ولكنه بنفس الوقت ترى الإنسان ساهي ولاهي عنه بالدنيا وتوافهها، فهو كذاك القصة التي ترويها كتب الأدب.
يُحكى أن رجلاً كان يتمشى في الغابة، وكان يتمتع بمنظر الأشجار وهي تحجب أشعة الشمس من شدة كثافتها، ويستمتع بتغريد العصافير ويستنشق عبير الزهور التي تنتج منها الروائح الزكية، وبينما هو مستمتع بتلك المناظر الخلابة، فجأة سمع صوت عدو سريع يقترب منه باطراد، التفت الرجل إلى الخلف إذا به يرى أسداً مخيفاً ينطلق نحوه بسرعة خيالية، ومن شدة الجوع كان الأسد ضامر الخصر، أخذ الرجل يجري بسرعة والأسد يطارده من خلفه، وعندما أخذ الأسد يقترب، رأى الرجل بئراً قديمةً، فوثب وثبةً عاليةً فإذا هو في البئر، وأمسك بحبل البئر الذي يسحب به الماء، أخذ الرجل يتمرجح داخل البئر، وعندما التقط أنفاسه وسكن روعه، وهدأ زئير الأسد، إذا به يسمع فحيح ثعبان ضخم الرأس عريض الطول في جوف البئر، وفيما هو يفكر بطريقة يتخلص منها من الأسد في الخارج والثعبان في الداخل، إذا بفأرين أحدهما أسود والآخر أبيض يصعدان إلى أعلى الحبل، ويبدءان بقرض الحبل.
فخاف الرجلُ خوفاً شديداً، فأخذ يهزُّ الحبل بيديه لتخويف الفأرين، واشتد في ذلك حتى صار يتمرجح يميناً وشمالاً داخل البئر ويصطدم بجوانبه، وفيما هو يصطدم أحسَّ بشيء رطب ولزج، لمس يده، وإذا بذلك الشيء عسل النحل، فبدأ الرجل يتذوق العسل فأخذ لعقةً ثم كررها، ومن شدة حلاوة العسل نسي ما هو فيه من موقف مهيب.
وقالوا: أن الأسد هو الموت الذي يُريد قبض روحك، والبئر الذي به الثعبان هو القبر الذي ينتظرك، وأما الحبل الذي تتعلق به هو عمرك، والفأران الأسود والأبيض فهما الجديدان اللذان يبليان كل جديد فالليل والنهار يقرضان عمرك، وما قطراتُ العسل إلا هي بعض حلاوة الدنيا التي أنستك حلاوتها ما وراءك من موت، وحساب، والجنة أبداً، أو النار سرمداً..
تلك حالنا نحن البشر إلا أولئك المخلَصين الذين عرفوا حقيقة الدنيا فاختاروا الدائم الأبدي على المؤقت الفاني، حيث عرفوا الدنيا على حقيقتها، وأنزلوها منزلتها من أنفسهم وفي حياتهم، كأمير المؤمنين الإمام علي (ع) الذي كان الغيب عنده كالشهود، فقال: (لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً)، فهو الخبير فيها، والنطاسي في عللها وآفاتها في هذه الحياة، فهي (دار ممر لا دار مقر) ولكن لا بدَّ منها للتمايز بالأعمال، (إن الدنيا لم تُخلق لكم دار مقام، بل خُلقت لكم مجازاً لتزودوا منها الأعمال إلى دار القرار)، و(إن الله سبحانه قد جعل الدنيا لما بعدها، وابتلى فيها أهلها، ليعلم أيهم أحسنُ عملاً، ولسنا للدنيا خُلقنا، ولا بالسعي فيها أمرنا، وإنما وُضِعنا فيها لنُبتلى بها).
فالبلاء علَّة الوجود والبشري، وذلك بالطاعة لله ورسله وأنبياءه وحُججه على العباد، وما الموت حقيقة إلا ولادة جديدة في عالم آخر، فهي انتقال وارتحال من حال إلى حال، كما الجنين في بطن أمه، الذي ينتقل من علم الأرحام، إلى عالم الدنيا الفسيح ولكن بمخاض الولادة العسير، فيولد الإنسان يبكي لأنه خرج مرغماً، والناس حوله يضحكون فرحاً بولادته لعلمهم بالدنيا وهو لا يدري، وكذلك حين يموت ويُغادر هذه الدنيا مرغماً أيضاً، ولكن الناس من حوله يبكون لأنهم يجهلون إلى ما يُقدم عليه، ومما يروونه عن الإمام الشافعي قوله:
ولدتك أمك يا بن آدم باكياً *** والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا*** في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
ولكن ليس يستطيع ذلك إلا أهل الإيمان والعمل الصالح، كعلي بن الحسين الأكبر (عليهما السلام) ذاك الفتى الحسيني الذي ورث شمائل جده رسول الله (ص) الشخصية كاملة، وشجاعة جده أمير المؤمنين الإمام علي (ع) وفتوة بني هاشم الأكارم، الذي كان من قصته عجباً في طريق المعراج الحسيني، حيث أنه كان يسير مع والده كظلِّه، ويُراقبه كأشد ما تكون المراقبة حتى إذا همس كلمة سأله عنها، وإذا حوقل، أو استرجع سأله عن السبب في ذلك، وما ذلك إلا حرصاً منه على والده وبراً به (ع).
تحدي الموت في منزل الثعلبية
ونأخذها من جناب الإمام الراحل السيد الشيرازي (قدس سره) حيث يقول: "وسار الإمام الحسين (ع) حتى نزل (الثعلبية؛ بعد الشقوق وقبل الخزيمية)، وقت الظهيرة، فوضع رأسه فرقد ثم استيقظ فقال: (قد رأيتُ هاتفاً يقول: أنتم تسرعون والمنايا تسرع بكم إلى الجنة!).
فقال لـه ابنه علي (الأكبر (ع): يا أبةِ أفلسنا على الحق؟
فقال (ع): (بلى يا بنيّ والذي إليه مرجع العباد).
فقال: يا أبة إذن لا نبالي بالموت.
فقال لـه الحسين (ع): (جزاك الله يا بُنيّ خير ما جزى وَلَداً عن والده). (من حياة الإمام الحسين (ع) السيد محمد الشيرازي: ص121)
فهذه الحادثة البسيطة تُؤشِّر لنا إلى مدى لصوق سيدنا علي الأكبر (ع) بأبيه (ع)، وما يحمله من إيمان ويقين، وذلك لأن الدنيا عنده لا تُساوي شيء عنده فالموت والحياة عنده سواء بما أنه محقاً، ويعيش بالحق، ويسير في حياته إلى الحق تعالى، فلماذا يخاف المحق من الموت؟
ولهذه الكلمة رواية أخرى تنقلها كتب التاريخ والمقاتل الحسينية، وهي: "لمّا ارتحل الحسين بن علي (ع) من قصر بني مقاتل، خفقَ وهو على ظهر فرسه خفقة، ثمّ انتبه وهو يقول: (إنّا للهِ وإنّا إليهِ راجِعُون، والحمدُ للهِ رَبِّ العَالَمين)، كرّرها مرّتين أو ثلاثاً.
فقال علي الأكبر (ع): (ممّ حمدتَ الله واسترجَعت يا أبه)؟
فأجابه (ع): (يا بُنَي، إنِّي خفقتُ خفقة فعنّ لي فارس على فرس وهو يقول: القوم يسيرون والمنايا تسير إليهم، فعلمت أنّها أنفسنا نُعِيت إلينا).
فقال علي الأكبر (ع): (يا أبتَ، ألَسنا على الحق)؟
فقال (ع): (بلى، والذي إليه مَرجِع العباد).
فقال علي الأكبر (ع): (إذاً لا نبالي أوقعنا على الموت أو وقع الموتُ علينا)، فأجابه الإمام الحسين(ع): (جَزَاك اللهُ مِن وَلدٍ خَير مَا جَزَى وَلَداً عن والِدِه).
هذا الموقف العجيب لم يقفه أحد على ما روي في التاريخ إلا عن جدِّه أمير المؤمنين الإمام علي (ع) الذي عقمت النساء أن يلدن مثله، الذي قال عنه رسول الله(ص) برواية ابن عباس: (عليّ أشجع الناس قلباً) (المناقب لابن المغازلي: 151/188، المناقب للخوارزمي: 290/279)
ويروي عنه حفيده الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: حدّثتني امرأة منّا قالت: رأيت الأشعث بن قيس دخل على عليّ (عليه السلام)، فأغلظ له عليٌّ، فعرَّض له الأشعث بأن يفتك به، فقال له عليّ (عليه السلام): أ بالموت تُهدّدني!! فوَاللَّه ما أُبالي وقعتُ على الموت، أو وقع الموت عليَّ). (مقاتل الطالبيّين: 47، شرح نهج البلاغة: 6/117)
وبرسالة له (عليه السلام) يقول: (وَكَأَنِّي بِقَائِلِكُمْ يَقُولُ إِذَا كَانَ هَذَا قُوتُ؟ اِبْنِ أَبِي طَالِبٍ؟ فَقَدْ قَعَدَ بِهِ اَلضَّعْفُ عَنْ قِتَالِ اَلْأَقْرَانِ وَمُنَازَلَةِ اَلشُّجْعَانِ أَلاَ وَإِنَّ اَلشَّجَرَةَ اَلْبَرِّيَّةَ أَصْلَبُ عُوداً وَاَلرَّوَاتِعَ اَلْخَضِرَةَ أَرَقُّ جُلُوداً وَاَلنَّبَاتَاتِ اَلْبَدْوِيَّةِ أَقْوَى وَقُوداً وَأَبْطَأُ خُمُوداً، وَأَنَا مِنْ؟ رَسُولِ اَللَّهِ؟ كَالصِّنْوِ مِنَ اَلْصِّنْوِ وَاَلذِّرَاعِ مِنَ اَلْعَضُدِ، وَاَللَّهِ لَوْ تَظَاهَرَتِ اَلْعَرَبُ عَلَى قِتَالِي لَمَا وَلَّيْتُ عَنْهَا وَلَوْ أَمْكَنَتِ اَلْفُرَصُ مِنْ رِقَابِهَا لَسَارَعْتُ إِلَيْهَا وَسَأَجْهَدُ فِي أَنْ أُطَهِّرَ اَلْأَرْضَ مِنْ هَذَا اَلشَّخْصِ اَلْمَعْكُوسِ وَاَلْجِسْمِ اَلْمَرْكُوسِ حَتَّى تَخْرُجَ اَلْمَدَرَةُ مِنْ بَيْنِ حَبِّ اَلْحَصِيدِ) (نهج البلاغة: ك 45)
يعني معاوية بن هند في كلامه (ع) قال ابن أبي الحديد: "الإشارة في هذا إلى معاوية سمَّاه شخصا معكوساً، وجسماً مركوساً؛ والمراد انعكاس عقيدته وأنها ليست عقيدة هدى بل هي معاكسة للحق والصواب، وسمَّاه مركوساً من قولهم ارتكس في الضلال، والرَّكس رد الشيء مقلوباً.."، والأمر أبعد من ذلك يا ابن أبي الحديد، ولكن لا نُريد هنا المزيد.
وفي كلمة عجيبة عنه (عليه السلام): (إنّي واللَّه لو لقيتهم واحداً وهم طِلاع (ملئ) الأرض كلّها ما باليتُ، ولا استوحشت) (نهج البلاغة: ك 62، الغارات: 1/319)
هذه الكلمات العلوية الشريفة، التي ترجمها في حياته كلهاً، وحروبه التي خاضها، فلم يتطرق الخوف إليه في معركة قط حتى يصفه أحد جنوده وأصحابه فعن سعيد بن قيس الهمداني: نظرتُ يوماً في الحرب (صفين) إلى رجل عليه ثوبان، فحرّكتُ فرسي فإذا هو أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقلتُ: يا أمير المؤمنين، في مثل هذا الموضع؟ فقال: (نعم يا سعيد بن قيس، إنّه ليس من عبد إلّا وله من اللَّه حافظ وواقية؛ معه ملكان يحفظانه من أن يسقط من رأس جبل أو يقع في بئر، فإذا نزل القضاء خلّيا بينه وبين كلّ شيء) (الكافي: 2/59/8، المناقب لابن شهرآشوب: 3/297، بحار الأنوار: 42/58/1)
وهذا ما دعى الشيخ المفيد في الإرشاد ليقول فيه (عليه السلام): "ومن آيات اللَّه تعالى فيه أيضاً أنّه مع طول ملاقاته للحروب، وملابسته إيّاها، وكثرة من مُنيَ به فيها من شجعان الأعداء وصناديدهم، وتجمّعهم عليه، واحتيالهم في الفتك به (لقتله) وبذل الجُهد في ذلك، ما ولَّى قطُّ عن أحد منهم ظهرَه، ولا انهزم عن أحد منهم، ولا تزحزح عن مكانه، ولا هابَ أحداً من أقرانه، ولم يلقَ أحدٌ سواه خصماً في حرب إلّا وثبتَ له حيناً وانحرف عنه حيناً، وأقدَمَ عليه وقتاً وأحْجَمَ عنه زماناً" (الإرشاد: 1/308)
ولكن حفيده وسميَّه علي بن الحسين الأكبر (ع) فإنه واجههم وهم طلاع الأرض في كربلاء، حيث ملؤوها عليهم خيلاً ورجالاً، فكانوا ثلاثين ألف وهو وحيداً فريداً، فبز إليهم في أوَّل مَنْ برز من الهاشميين الأكارم بعد أن استشهد الأصحاب جميعاً فكان علي الأكبر أوَّلهم طلباً للموت.
موقفه يوم العاشر
فقد روي أنّه لم يبقَ مع الحسين يوم عاشوراء إلاّ أهل بيته وخاصّته، فتقدّم علي الأكبر، وكان على فرس له يُدعى الجناح، فاستأذن أباه في القتال فأذن له، ثمّ نظر إليه نظرة آيِسٍ منه، وأرخى عينيه، فبكى ثمّ صاح بعمر بن سعد: (ما لك؟ قطع الله رحمك كما قطعتَ رحمي، ولَم تحفظ قرابتي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلّط عليك من يذبحك على فراشك) (مقتل الخوارزمي: ج٢ ص ٣٠)
ثمّ رفع شيبته المقدّسة نحو السّماء وقال: (اللهمّ اشهد على هؤلاء فقد برز إليهم أشبه النّاس برسولك محمّد خَلقاً وخُلُقاً ومنطقاً، وكنّا إذا اشتقنا إلى رؤية نبيّك نظرنا إليه، اللهمّ فامنعهم بركات الأرض، وفرِّقهم تفريقاً، ومزِّقهم تمزيقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترضِ الولاة عنهم أبداً، فإنّهم دعونا لينصرونا، ثمّ عدَوا علينا يقاتلونا)، ثمّ تلا قوله تعالى: (إِنّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرّيّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (آل عمران: 33)
ونأخذ وصفه وقتاله من العلامة المحقق السيد عبد الرزاق المقرم حيث يقول: "ولم يزل يحمل على المَيمنة ويعيدها على المَيسرة ويغوص في الأوساط، فلَم يقابله جحفل إلاّ ردّه، ولا برز إليه شجاع إلاّ قتله فقتل مئة وعشرين فارساً.. وقد اشتدّ به العطش فرجع إلى أبيه يستريح ويذكر ما أجهده من العطش فبكى الحسين (ع) وقال: (وآ غوثاه! ما أسرع الملتقى بجدّك فيسقيك بكأسه شربةً لا تظمأ بعدها)، وأخذ لسانه فمصّه، ودفع إليه خاتمه ليضعه في فيه. (مقتل الخوارزمي ٢ ص ٣١، والعوالم ص ٩٥)
ورجع عليٌّ إلى الميدان مبتهجاً بالبشارة الصادرة من الإمام الحجّة (عليه السّلام) بملاقاة جدّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) فزحف فيهم زحفة العلوي السّابق، وغبَّر في وجوه القوم ولَم يشعروا أ هو الأكبر يطرد الجماهير من أعدائه أم أنّ الوصي (عليه السّلام) يزأر في الميدان؟ أم أنّ الصواعق تترى في بريق سيفه فأكثر القتلى في أهل الكوفة حتّى أكمل المئتين؟ (مقتل الحسين (ع) السيد عبد الرزاق المقرم: ص259، عن مقتل الخوارزمي ٢ ص ٣١)
فقال مرّة بن منقذ العبدي: "عليَّ آثام العرب إنْ لَم أثكل أباه به"، فطعنه بالرمح في ظهره، وضربه بالسّيف على رأسه ففلق هامته، واعتنق فرسه فاحتمله إلى معسكر الأعداء، وأحاطوا به حتّى قطّعوه بسيوفهم إرباً إرباً.
ونادى رافعاً صوته: عليك منّي السّلام أبا عبد الله، هذا جدّي قد سقاني بكأسه شربةً لا أظمأ بعدها، وهو يقول: إنّ لك كأساً مذخورةً)؛ فأتاه الحسين (عليه السّلام) وانكبّ عليه واضعاً خدّه على خدِّه، وهو يقول: (على الدنيا بعدك العفا، ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول، يعزّ على جدّك وأبيك أنْ تدعوهم فلا يجيبونك، وتستغيث بهم فلا يغيثونك) (مقتل العوالم ص ٩٥)
هكذا تحدَّى علي الأكبر الموت في يوم عاشوراء، وأراهم بأم أعينهم أن أصحاب الحق لا يهابون الموت بل يستقبلونه بصدر رحب ما داموا محقين، فالحق هو المقياس وليس السلطة والحكم والطغيان على الناس، كما في حالة بني أمية وطغاتهم الأرجاس الذين لا يعرفون من الحق شيء إلا حق الكرسي والحكم ولو قتلوا رسول الله (ص) كما سعى لذلك جدهم أبو سفيان كهف المنافقين، وفرع الشجرة الملعونة في القرآن.
ويروي السيد الإمام الراحل عن موقف الثعلبية أيضاً: "ثم بات (ع) في الموضع، فلما أصبح (ع) إذا رجل من أهل الكوفة يُكنَّى أبا هرَّة الأزدي قد أتاه فسلّم عليه ثم قال: يا ابن رسول الله ما الذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدك رسول الله (ص)؟
فقال الحسين (ع): (ويحك أبا هرة إن بني أمية أخذوا مالي فصبرتُ، وشتموا عرضي فصبرتُ، وطلبوا دمي فهربتُ، وأيم الله لتقتلني الفئة الباغية وليلبسنهم الله ذلاً شاملاً وسيفاً قاطعاً، وليسلطن الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من قوم سبأ إذ ملكتهم امرأة فحكمت في أموالهم ودمائهم) (اللهوف في قتلى الطفوف: ص43-44)
وفي حديث: لقي رجل الحسين بن علي (ع) بالثعلبية وهو يُريد كربلاء، فدخل عليه فسلّم عليه فقال لـه الحسين (ع): (من أيِّ البلاد أنتَ)؟ قال: من أهل الكوفة.
قال: (أما والله يا أخا أهل الكوفة لو لقيتك بالمدينة لأريتك أثر جبرئيل (ع) من دارنا ونزوله بالوحي على جدي، يا أخا أهل الكوفة أ فمستقى الناس العلم من عندنا فعلموا وجهلنا؟! هذا ما لا يكون) (الكافي: ج1 ص399)
ولكن هل عرف بني أمية معنى لذلك، وهل تعترف بجبرائيل (ع) أو يعنيها زغب الملائكة الكرام الذين كانوا ينزلون إلى أهل البيت (ع) ويتشرفون بخدمتهم؟ وكيف يعرفون ذلك وطاغيتهم يزيد يضرب ثنايا أبو عبد الله (ع) ويقول:
ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل
لاستهلوا واستطاروا فرحاً * ولقالوا: يا يزيد لا تُشل
لستُ من خَندف إن لم انتقم * من بنى أحمد ما كان فعل
قد قتلنا القرم من أبنائهم * وعدلناه ببدر فاعتدل
لعبت هاشم بالملك فلا * خبر جاء ولا وحي نزل