النهضة الحسينية واسرار قوتها وخلودها

باسم حسين الزيدي

2020-09-28 07:12

اغلب التحركات النهضوية والثورية التي يمارسها الافراد المؤثرين (مصلحين، قادة، مفكرين، وطنيين) داخل مجتمعاتهم عبر التاريخ تكون محدودة الهدف والطابع والتأثير، بمعنى ان القصد من قيامها جاء لتغيير واقع معين لفئة معينة ضمن مجتمع او امة معينة، ونادراً ما يتحول هذا التأثير المحدد سلفاً ليلامس باقي المجتمعات والأمم الإنسانية الأخرى التي تختلف عن منبع هذه النهضة او الثورة دينياً واجتماعياً وثقافياً وسياسياً وتربوياً.

لكن مع "النهضة الحسينية" الأمر مختلف تماماً!، لان الامام الحسين بن علي (عليهما السلام) لم يخرج ليحقق مطلب يعود بالفائدة الشخصية له ولمن معه او يخصص نهضته لفئة من الناس دون الأخرى او سعى لكسب بعض المنافع الانية منها، بل ركز سعيه لإنقاذ الإنسانية من براثن الاستبداد والتبعية وارساء الأساس الإلهي للعدل الاجتماعي وتحرير الناس من عبودية الداخل والخارج وطلب الإصلاح.

ان ما يميز النهضة الحسينية عن سواها عدد من عناصر القوة والخلود التي تضمنتها وحولتها الى نهضة لا مثيل لها ولا نظير في سجل الإنسانية الحافل بالأحداث والمتغيرات وأبرزها:

1. الإنسانية:

يقول الآثاري الإنكليزي ـ وليم لوفتس: "لقد قدم الحسين بن علي ابلغ شهادة في تاريخ الإنسانية وارتفع بمأساته إلى مستوى البطولة الفذة"، نعم ان نهضة الامام الحسين (عليه السلام) كانت نهضة إنسانية وفي سبيل الانسان مهما كان مستواه الفكري والاجتماعي ومهما اختلف دينه ولونه وجنسه وقوميته وعاداته وتقاليده، فهي قريبة من وجدان الجميع، وقد لامست هموم وتطلعات كل انسان يسعى للحرية والانعتاق من القيود المصطنعة، لأنها كسرت حواجز السلطة والاستبداد، ومحت الخطوط الحمراء التي استهدفت الفقراء والمستضعفين، وساهمت في بناء فكر جديد وقادة ومصلحين واحرار كان مثلهم الأعلى الامام الحسين (عليه السلام).

2. الإصلاح:

يقول الامام الحسين (عليه السلام) في احدى خطبه التي وجهها لمن جاء يقاتله طمعاً في غنيمة او منصب او رضى السلطان: "لم اخرج أشراً، ولا بطراً، ولا مفسداً، ولا ظالماً، وانما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (ص) أريد أن آمر بالمعروف، وانهي عن المنكر، واسير بسيرة جدي وأبي"، والإصلاح هو المبدأ الذي سار عليه الامام الحسين (عليه السلام) منذ البداية وحتى وقت استشهاده، وقد كانت هناك الكثير من الطرق التي يمكن ان يسلكها (عليه السلام) لتجنب استشهاده، بل وحصوله على الكثير من المغانم الدنيوية، والتي رفضها رفضاً قاطعاً ومضى الى طريق الإصلاح.

3. المستقبل:

صحيح ان واقعة الطف الرهيبة لم تحسم على المستوى العسكري لصالح الامام الحسين (عليه السلام) وانتهت باستشهاده واهل بيته واصحابه وسبي عياله، لكنها حققت انتصار الأهداف التي خرج من اجلها (عليه السلام)، واحد اهم هذه الأهداف هو ان النهضة الحسينية لم تكن من اجل الماضي او الوقت الذي استشهد من اجله (عليه السلام) فقط، لأنه كان يعلم باستشهاده ومن معه جميعا، وانما كانت للمستقبل ايضاً، لذلك كانت وما زالت نبراساً ومثالاً لجميع الطامحين للتغيير او التجديد او الإصلاح وهم يستلهمون من هذه النهضة الحسينية الخالدة.

4. المبدئية:

ان وضوح المبادئ التي خرج من اجلها الامام الحسين (عليه السلام) وعدم التراجع عنها حتى اللحظة الأخيرة من استشهاده وجميع من خرج معه من اهل بيته وانصاره كانت كفيلة بكل الاعتزاز والفخر والعظمة التي نالتها واقعة الطف الأليمة، وهذه المبدئية والثبات عليها هي التي اثرت واذهلت الجميع وهزت وجدان وضمير الشخصية المسلمة على وجه الخصوص، لذلك ترى المستشرق الأمريكي غوستاف غرونييام يؤكد على: "أن واقعة كربلاء ذات أهمية كونية، فلقد أثرت الصورة المحزنة لمقتل الحسين، الرجل النبيل الشجاع في المسلمين تأثيراً لم تبلغه أية شخصية مسلمة أخرى".

5. الايثار:

من أروع الكلمات التي قالها الشهيد السعيد ايه الله السيد حسن الشيرازي (رحمه الله) حول ايثار الامام الحسين (عليه السلام) وتجرد النهضة الحسينية من أي معنى من معاني الانا او المطالب الشخصية قوله: "عاشوراء حدث جسد مبداً، فهي ثورة الحق المكبوت على الباطل الطاغي، وتلاشت المواصفات الفردية فيه، لان الامام الحسين عليه السلام صاغه صياغة بعيدة عن اية ظلال للأنانية، بشكل يبدو مبداً محصناً لا حدث فيه، فأصبح مستمرا في كل مظهر من مظاهر ثورة الحق المكبوت على الباطل الطاغي، فعاشوراء مستمر لا يمكن مسحه من ذاكرة الحياة مع بقية مبادئ الكون التي لا تنمحي من ذاكرة الحياة"، وكذلك كان الامام الحسين (عليه السلام) طوال حياته ووقت استشهاده.

6. التجديد:

في كل وقت وزمان نحتاج الى الامام الحسين (عليه السلام) ليحارب الجاهلية والتخلف ويجدد في دمائنا وعقولنا ثورة الإصلاح ضد الباطل والاستبداد والفساد والجهل والظلم، لذلك فان فكر الامام الحسين (عليه السلام) ونهضته الخالدة تتجدد مع كل جيل تواق للحرية وفي كل زمان يحتاج الى الإصلاح ولا يطلبه او يجده سوى في ديوان الامام الحسين بن علي (عليه السلام)، وقد ذكر المرجع السيد صادق الشيرازي (دام ظله) في احدى كلماته التي استقبل بها قدوم شهر محرم الحرام هذا المعنى بقوله: "إن العالم اليوم بحاجة إلى الاستنارة بنور الإمام الحسين أكثر من قبل، فجاهلية اليوم أشد وأعنف وأوسع من الجاهليّة الأولى.

جاهلية اليوم هي الجاهلية الأولى مزودة بالتقنية الحديثة، ومجهزة بالوسائل الفتاكة في شتى الأبعاد.

فالحروب التي تأتي على الحرث والنسل، والفساد في عامة أنواعه، والظلم في مختلف المستويات، والتعدي على الحقوق في كافة الأصعدة، والتطاول على الكرامات في كل مجال، وبالتالي اللاإنسانية المنتشرة تحت غطاء الإنسانية شملت البلاد والعباد.

في مثل هذا اليوم تكون الدنيا بحاجة ماسة إلى تعلم الطهر من الإمام الحسين وتعميم تعليمه للجميع في كل مكان وكل مجال.

الطهر في النفس بتطهير العقول عن العقائد الفاسدة.

والطهر في الفكر بتطهير الأدمغة عن الأفكار السيئة.

والطهر في السلوك بطرد رذائل الأخلاق عن الممارسات.

والطهر في اللسان واليد وسائر الجوارح بالالتزام بما ينبغي، والاجتناب عمّا لا ينبغي.

ولنبدأ بتطهير أنفسنا، ثم بتطهير المجتمع الصغير (البيت، والأقرباء، والعشيرة) والمجتمع الكبير (المدينة والمنطقة) والمجتمع الأكبر(العالم) عن جميع مظاهر الفساد والضلال.

7. الشمولية:

ان شمولية النهضة الحسينية أسست وعبدت الطريق امام جميع من يسعى للتغيير او الإصلاح او تطبيق العدالة الاجتماعية او مقارعة الظلم والجهل والتخلف، او محاربة الاستبداد والفساد، فالإمام الحسين (عليه السلام) قدم كل شيء يملكه، او كما يقول الامام محمد الشيرازي (رحمه الله): "لقد ضحى الامام الحسين عليه السلام بكل شيء النفس فقتل، الاهل فقتلوا وسبوا، الاموال فانتهبت، السمعة حتى لعن وسمي خارجيا، فاللازم عدم الخوف حتى من تحطم السمعة في طريق الإصلاح"، من اجل ان ينهل الجميع من عطاءه من دون حدود او قيود، فقد اعطى دروسا وعبرا للجميع بعد ان شاركت المرأة الى جانب الرجل، والشاب الى جانب الكهل، والحر الى جانب العبد، والأسود الى جانب الأبيض، وحتى الطفل الرضيع في صناعة هذه النهضة الخالدة، حتى قال عنها الكاتب المسيحي انطوان بارا: "لم تحظ ملحمة إنسانية في التاريخين القديم والحديث، بمثل ما حظيت به ملحمة الاستشهاد في كربلاء من إعجاب ودرس وتعاطف، فقد كانت حركة على مستوى الحدث الوجداني الأكبر لأمة الإسلام، والتي لولاها كان الإسلام مذهبا باهتا يركن في ظاهر الرؤوس، لا عقيدة راسخة في أعماق الصدور، وإيمانا يترع في وجدان كل مسلم".

ان الامام الحسين (عليه السلام) خرج من اجل اسعاد البشرية وتحريرها من الفكر الضيق الذي أراد رسمه الحاكم المستبد ليسلب الانسان ما منحه الله (عز وجل) من التكريم والتفضيل (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) الاسراء: اية (70)، ويحوله الى تابع ذليل منقاد لا يملك لنفسه او لغيره أي حول او قوة، لكن ما يؤسف له ان الكثير، وخصوصاً من المسلمين، قد ابتعد او تناسى عظمة الدروس التي تقدمها لنا النهضة الحسينية ومدى الاستفادة التي يمكن ان نتحصل عليها من الاطلاع على اسرارها وعبرها وأهدافها، وكما يقول الإمام السيد محمد الشيرازي (رحمه الله): "من المؤسف حقاً أن كثير من المسلمين -وحتى في هذه العصور المتطورة نسبياً- لا يطلعون على تاريخ أئمة أهل البيت (ع) الأمر الذي جعلهم يتخبطون في مغالطات كثيرة"، لذلك ينبغي ان نسعى بجد وإخلاص الى الاستفادة القصوى من كل ما يتعلق بهذه النهضة المباركة وتبيان عظمتها والتعرف عليها عن قرب من خلال:

- دعم مراكز الأبحاث والدراسات لكتابة المزيد من المقالات التخصصية حول النهضة الحسينية والتعمق في هذا الفكر الخالد ونشر المزيد من الدراسات والحلقات والمطابخ الفكرية حولها.

- السعي لطباعة الكتب الرصينة التي تناولت ابعاد وجوانب النهضة الحسينية وتحقيقها واثراء المكتبة الحسينية بكتب جديدة تتناول جوانب جديدة لهذه النهضة العظيمة.

- تدريس نهضة الامام الحسين (عليه السلام) في المناهج لمختلف المراحل الدراسية لتعزيز روح التحرر ونزعة الإصلاح وترسيخ مبدأ العدالة الاجتماعية لدى الأجيال اللاحقة.

- دعم وتعزيز العمل الإعلامي لإبراز عالمية وإنسانية القضية الحسينية وعدم اقتصارها او تحجيمها داخل الإطار الإسلامي عموماً او الشيعي على وجه التحديد.

- استقطاب كفاءات محلية وعالمية في مختلفة المجالات الفنية والأدبية والإعلامية والأكاديمية والثقافية للتفاعل مع قضية الامام الحسين (عليه السلام) ونشر حقيقة النهضة العالمية وأهدافها في مختلف بقاع العالم.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2020Ⓒ
http://shrsc.com

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي