الْمَسِيرَةِ الْحُسَيْنِيَّةِ فِي طَرِيقِ الْمِعْرَاجِ إِلَى الْمَلَكُوْتِ

في المدينة المنوَّرة

الشيخ الحسين أحمد كريمو

2020-08-23 03:34

مقدمة فكرية

في التاريخ البشري محطات كُبرى، ومنعطفات أساسية يقف عندها التاريخ لتصبغه بمنطقها وأسلوبها المميَّز، ومن تلك المنعطفات الأساسية كانت مأساة عاشوراء، التي حدثت على أرض كربلاء، فحوَّلتها من أرض إلى قطعة من الجنان، وذلك بما شربته من دماء زكية طاهرة لأقدس النفوس البشرية في عصر يوم الجمعة العاشر من المحرم سنة 61ه.

فالتاريخ قبل عاشوراء ليس هو كما بعدها قطعاً، وذلك لننا نرى إلى اليوم تأثيرات ذلك اليوم مازال خالداً ومؤثراً في الملايين من البشر في كل صقع ومكان في هذه الكرة الترابية، ومن كل الأجناس والأشكال والقوميات والأديان، وأعلامها ترفرف من أعلى نقطة مسكونة في جبال الهيمالايا، وحتى أدنى الأرض فلسطين، أو البصرة، ومجالس ذكراها تفوح بكل أنواع العطور والخيرات والبركات في كل مكان رُفعت فيه راية لسيد الشهداء الإمام الحسين (ع) شهيد كربلاء في يوم عاشوراء.

وهكذا هم العظماء في التاريخ يصبغون الزمان والمكان بلونهم ويجعلونه بصبغتهم الخاصة، ولكن ليس في التاريخ عظيماً فَعل فِعل الحسين (ع)، أو فُعِل فيه كما فُعل بالحسين (ع) فكانت الفِعلة شنيعة بشكل لا يُصدَّق من بشر هم للوحوش أقرب، بإمام عظيم همام كالإمام الحسين (ع) سبط نبي الرحمة (ص) وفرخ فاطمة الزهراء (ع)، فهو سيد شباب أهل الجنة، وإمام الأمة قام أو قعد كما قال عنه جده رسول الله (ص)، ولذا من الجدير بنا أن نتلمَّس خطى الإمام الحسين (ع) في طريقه إلى المعراج في الملكوت لنعرف سر الخلود في تلك الثورة الإنسانية الراقية ونعيد دروسها القيمة لعلنا نلتحق في ركابها ويكون لنا فتح من فتوحها، ونُكتب مع الشهداء الذين أدركوا الفتح مع إمامهم وقائدهم الإمام الحسين بن علي (ع).

أوَّل الخطوات رفض الطغاة

المدينة المنوَّرة كانت منبع النور الذي انطلق منه نور الإسلام والقرآن الحكيم ليعم الجزيرة العربية ثم لينتشر في ربوع العالم ليُنيره بالنور الرباني، فيخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم العلي العظيم على يدي رسول الله (ص) واهل بيته الأطهار (ع) الذين هم الامتداد الطبيعي لجدهم الرسول الأعظم (ص).

ولكن السلطة القرشية التي انقلبت على الدين والعقيدة الإسلامية طمعاً بالكرسي والسلطة فأخرجتها من معدنها إلى بيوتهم المختلفة حسب الاتفاق فيما بينهم، ولكن الذي حصل هو أنهم أوصلوها بعد اثني عشر سنة إلى أعدى الأسر في مكة المكرمة، الذين كانوا أبغض البيوت والأسر إلى رسول الله وهم بني أمية الذين نزلت فيهم آيات تلعنهم وتُحذِّر النبي (ص) والأمة منهم، فأخرج البخاري في تاريخه، وابن جرير الطبري، وابن المنذر، وابن مردويه عن عمر بن الخطاب في قوله: (الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) (إبراهيم: 28)

قال: هما الأفجران من قريش بنو المغيرة، وبنو أمية، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين)، وهو مروي عن أمير المؤمنين الإمام علي (ع)، فكانت أمية ونسلها من أبغض الخلق إلى النبي الأكرم (ص) الذي قال عنهم: (شر قبائل العرب بنو أمية) (ينابيع المودة للقندوزي: ج2 ص76)

وقال (صلى الله عليه واله): (ويل لبني أمية) ثلاث مرات. (الإصابة لابن حجر: ج2 ص104 ح1825)

وعن ابن مسعود قال(ص): (إن لكل دين آفة، وآفة هذا الدِّين بنو أمية). (كنـز العمال للمتقي الهندي: ج14 ص87 ح38013)

هذه الأسرة المبغوضة البغيضة وصلت إلى الحكم، وراح عثمان يمكنهم من الولايات ويوزعهم على البلدان المفتوحة وهم شباب لا يعلمون من الدين شيء ولكن هذا كان أمر كبيرهم الأعمى صخر بن حرب أبو سفيان الذي قال لعثمان حين وصل إلى الحكم بكل وقاحة: (كان هذا الأمر (الحكم)، في تيم (أبو بكر)، وأنى لتيم وهذا الأمر، ثم صار إلى عدي (عمر) فأبعد وأبعد، ثم رجعت إلى منازلها واستقر الأمر قراره! فتلقفوها تلقف الكرة)! (جمهرة الأمثال / 423 والسقيفة / 39)

وفي رواية: (إن أبا سفيان دخل على عثمان حين صارت الخلافة إليه فقال: صارت إليك بعد تيم وعدي فأدرها كالكرة، واجعل أوتادها بني أمية، فإنما هو الملك ولا أدري ما جنة ولا نار! فصاح به عثمان: قم عني فعل الله بك وفعل). (الغدير: 8 / 278، و(الإستيعاب: 2 / 690). وفي تاريخ الطبري: 11 / 357)

ومرة أخرى قال: (يا بني عبد مناف! تلقفوها تلقف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان، ما زلت أرجوها لكم ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة)! (مروج الذهب: 1 / 440)

وأخرج ابن عساكر عن أنس: إن أبا سفيان دخل على عثمان بعد ما عمي فقال: هل هنا أحد؟ فقالوا: لا. فقال: اللهم اجعل الأمر أمر جاهلية، والملك ملك غاصبية، واجعل أوتاد الأرض لبني أمية". (تاريخ ابن عساكر 6: 407)

فالأمر بنظر بني أمية هو نفس الجاهلية والحكم فيها للأقوى، والأغنى، والأخبث، ولا يعرفون معنى الدين، ولا القرآن، ولا الجنة والنار، وإنما هو الملك، والحكم، وكل وسيلة إليه مبررة لديهم ولذا عندما وصلوا إلى الحكم وبالخصوص معاوية بن هند الهنود، راح يُرتب كل الأمور لإعادة الحياة إلى الجاهلية ويدفن الإسلام دفناً، كما روى المطرّف بن المغيرة بن شعبة، قال: دخلتُ مع أبي على معاوية -وكان أبي يأتيه فيتحدث معه ثم ينصرف إلي، فيذكر معاوية وعقله، ويُعجب بما يرى منه- إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء، ورأيته مغتماً فانتظرته ساعة، وظننت أنه لأمر حدث فينا.

فقلت: ما لي أراك مغتماً منذ الليلة؟

فقال: يا بني جئتُ من عند أكفر الناس وأخبثهم، (معاوية بن أبي سفيان)!

قلتُ: وما ذاك؟!

قال: قلت له وقد خلوتُ به: إنك قد بلغت سناً يا أمير (المواطنين)، فلو أظهرتَ عدلاً وبسطتَ خيراً، فإنك قد كبرتَ، ولو نظرتَ إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم، فو الله ما عندهم اليوم شيء تخافه، وإن ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه.

فقال: هيهات هيهات، أي ذكر أرجو بقاءه! مَلكَ أخو تيم (أبو بكر) فعدل، وفعل ما فعل، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلاّ أن يقول قائل: أبو بكر، ثم ملك أخو عدي (عمر)، فاجتهد وشمّر عشر سنين، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلاّ أن يقول قائل: عمر، وإن ابن أبي كبشة (يقصد به رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ليُصاح به كل يوم خمس مرات " أشهد أن محمداً رسول الله [صلى الله عليه وآله]، فأيُّ عمل يبقى وأيُّ ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك، لا والله إلاّ دفناً دفناً!" (مروج الذهب: 4/41، الأخبار الموفّقيّات: 576/375، شرح نهج البلاغة: 5/129؛ كشف اليقين: 466/565، كشف الغمّة: 2/44 كلّها نحوه، بحار الأنوار: 33/169/443)

ولم يكتفِ بذلك فقط بل كان إذا سمع المؤذن يؤذن يقول: "لله درَّك يا ابن عبد الله لقد كنت عالي الهمَّة ولم تقبل إلا أن تقرن اسمك باسم رب العالمين"، فهذا الداهية الذي تسلَّط على الأمة أربعين سنة – عشرين والي مطلق اليد في الشام، وعشرين حاكماً عاماً للدولة الإسلامية – بحيث كرَّس كل دهائه وخبثه لإخراج الناس من الدين أفواجاً كما دخلوا فيه أفواجاً على عهد رسول الله (ص)، ولكن كان يُطلي ذلك كله بغطاء من الدين وإظهار التدين مكراً ونفاقاً ليضمن الشرعية له ولحكمه لأنه يعلم أن لا شرعية له إلا بالقوة والغلبة، ولهذا صالحه الإمام الحسن السبط (ع) ليكشف للأمة هذا الغطاء المزيف عن الرجل، وبالفعل ما مات حتى لبس الصليب وخرج من الملة كما أخبر رسول الله (ص) بقوله: (معاوية لا يموت على ملتي)، وهذا ما يشهد به زياد بن أيوب فيقول: سمعتُ يحيى بن عبد الحميد الحمَّاني يقول: كان معاوية على غير ملة الإسلام". (ميزان الاعتدال 4: 392)

ولذا عندما هلك معاوية في شهر رجب وحيث كان ولده يزيد الشر في الصيد في حوران ورجع بعد ثلاثة أيام أرسل إلى والي المدينة وبقية الأمصار ليُجددوا له البيعة، ونأخذها من الإمام الراحل حيث، يقول: " لما مات معاوية في منتصف رجب سنة ستين من الهجرة وخلّف بعده ولده يزيد، وكان يزيد فاسقاً فاجراً يشرب الخمور، وكان صاحب الطنابير والقيان، ويلعب بالقرود والكلاب، ويجاهر بالكفر والإلحاد، ويستهين بالدِّين..

ثم قال: "وكتب يزيد إلى ابن عمه الوليد بن عتبة والي المدينة بأخذ البيعة على أهلها وخاصة على الحسين (ع) ولا يرخّص لـه في التأخر عن ذلك وقال: إن أبى عليك فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه. (تصوَّر هذه الجرأة على الله ورسوله (ص) من هذا الطاغية).

فاستدعى الوليد الإمام الحسين (ع) في ليلة السبت لثلاث بقين من رجب سنة ستين، فعرف الإمام (ع) الذي أراد، فدعا بجماعة من أهل بيته ومواليه وكانوا ثلاثين رجلاً وأمرهم بحمل السلاح وقال لهم: (إن الوليد قد استدعاني في هذا الوقت ولستُ آمن أن يكلفني فيه أمراً لا أجيبه إليه وهو غير مأمون، فكونوا معي فإذا دخلتُ فأجلسوا على الباب فإن سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه لتمنعوه عني).

فصار الحسين (ع) إلى الوليد ووجد عنده مروان بن الحكم، وقرأ الوليد كتاب يزيد وما أمره فيه من أخذ البيعة، فأراد الحسين (ع) أن يتخلَّص منه بوجه سلمي، فقال: (إني أراك لا تقنع ببيعتي سراً حتى أبايع جهراً فيعرف ذلك الناس)، فقال الوليد: أجل، فقال الحسين: (نصبح ونرى رأينا في ذلك)، فقال الوليد: انصرف حتى تأتينا مع جماعة الناس، فقال لـه مروان: "والله لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع لا قدرتَ منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، ولكن احبس الرجل فلا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه"!

فلما سمع الحسين (ع) ذلك وثب وقال لمروان: (ويلي عليك يا ابن الزرقاء أنت تأمر بضرب عنقي، كذبت والله ولؤمت، ثم أقبل على الوليد فقال: إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة)، ثم خرج" (من حياة الإمام الحسين (ع) السيد محمد الشيرازي: ص76)

كانت هذه هي الشرارة النورانية انطلقت من الإمام الحسين (ع) الذي كان يُمثِّلُ النور النبوي، والعلوي، وكل أنوار أصحاب الكساء الخمسة، قالها مدوِّيةً: (مثلي لا يبايع مثله)، وهل في الكون يومها كان مثيلاً للحسين بن علي (ع) سبط النبي (ص) وسيد شباب أهل الجنة؟!

واجبنا تجاه القضية الحسينية؟

في هذا العصر الأغبر والاستثنائي في كل شيء، لا سيما ما نصطليه من هذا الفيروس المنحوس (الكورونا) الذي بلبل الحياة على الكرة الأرضية، وجاء موسم المولى أبو عبد الله الحسين (ع) ورحنا نختلف حوله كما كنا نفعل من قبل، بين مؤيد لإقامة الشعائر كاملة، وبين رافض لذلك خوفاً من انتشار هذا البلاء الذي لا يرحم أحداً.

ولكن لا بدَّ لنا من أن نسير في الطريق الوسطى بين الإفراط والتفريط، لنكون من السعداء بإذن الله تعالى، فنقوم بالممكن من المجالس، ونسعى لزيادتها قدر الإمكان فنحوِّل كل حياتنا وبيوتنا وشوارعنا وساحاتنا وملاعبنا لما يخدم المجالس الحسينية، مع مراعاة كاملة لكل نصائح الأطباء وأهل الاختصاص في ذلك، فنُحيي الشعائر ونحمي أنفسنا من هذا البلاء، والمهم لدينا كلا الأمرين لأهميتهما في الحياة والواقع، شعائر الحسين فيها حياتنا، ولا يمكن لنا أن نُحيي الشعائر إلا إذا حمينا أنفسنا وأهلينا من هذا البلاء المنحوس، فلنجمع كلا الحُسنيين لنفوز في الدارين بصحبة الإمام الحسين (ع).

ومن الجميل ما وجَّهنا به سماحة الإمام الراحل تجاه الشعائر عندما سئل: "ما هو واجبنا تجاه القضية الحسينية؟ وما هي مسؤوليتنا (تجاهها)؟

فكان الجواب: يلزم الاهتمام بالشعائر الحسينية بمختلف أنواعها والسعي لنشر ثقافة عاشوراء والنهضة الحسينية مضافاً إلى التبليغ الديني فإن أفضل فرصة لخدمة العقيدة الإسلامية والتبليغ الديني على مستوى العالم، وإيقاظ وتوعية المسلمين، هو شهر محرم وصفر، وكذلك شهر رمضان وموسم الحج، وإن كانت أيام الحج قليلة ولكنها فرصة مناسبة.

ويلزم علينا إقامة مجالس العزاء في المساجد، الحسينيات، الطرقات، المكتبات، النوادي، المستشفيات، وحتى في منازلنا الشخصية طيلة أيام السنة ونجعل منها محلاً للتحرك والتوعية الصحيحة للناس.. ويلزم أن يبلغ عدد هذه المجالس الملايين، توزع خلالها ملايين الكتب الإسلامية والتوعوية (والأقراص المدمجة) المفيدة بين مختلف الناس، كي تتفهم الأمة الإسلامية قضاياها ومسائلها قليلاً قليلاً، فيرتفع مستوى الثقافة عند الجميع. (موجز عن النهضة الحسينية؛ السيد محمد الشيرازي ص44)

وليعلم الجميع؛ أن الخلاص بالإمام الحسين(ع) وليس بغيره، لأن الإمام الحسين (ع) هو مشروع الله في هذه الدنيا، وما قام بنهضته العملاقة التي انطلقت من المدينة المنورة إلا ليُعلِّم الأجيال أن طريق العزة والكرامة هي برفض طاعة الطغاة، بل بالخروج عليهم ومحاربتهم لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الحكام هي السفلى، ولو أدَّى ذلك إلى الشهادة في سبيل الله، فالشهادة فتح للمؤمن وهي (باب من أبواب الجنة افتتحه الله لخاصة أوليائه)، كما قال أمير المؤمنين (ع)، فلنجتمع على الإمام الحسين (ع) ولنلتفَّ حول رايته المباركة، فإن الفوز والفلاح في ذلك..

السلام على الحسين أبد الدَّهر ومدار العصر وعلى أبنائه وإخوته وأصحابه..

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي