رسالة المنبر الحسيني في فكر الامام الشيرازي
مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث
2019-09-08 06:36
بقلم: عبد الرزاق الحاتمي/مركز الإمام الشيرازي للبحوث والدراسات
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران: 104)
مقدمة
رغم مرور ما زاد على الألف وثلاثمائة عام على واقعة الطف، التي فجع فيها العالم الإسلامي بمقتل ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) - حامل علم التقى وراية النضال ضد الظلم والانحراف عن الصراط المستقيم- إلا أنها لا تزال ماثلة في وجدان الأمة الإسلامية، تستلهم منها الأجيال المتلاحقة الدروس والعبر.
لقد دأب من يحملون هذا الوجدان على التعبير عن ولائهم للإمام الحسين (عليه السلام) وتأييدهم لنهجه النهضوي، بإقامة المآتم على روحه الطاهرة وأرواح من استشهد بين يديه من ولده وأصحابه المخلصين لإمام زمانهم ولمبادئهم الدينية السامية الرافضة لسيطرة الطغاة والمنحرفين عن جادة الإسلام على رقاب أبناء أمتهم.
لقد اتخذت مراسم تلك المآتم صيغاً شتى، مثل: قراءة القرآن، قراءة قصة مقتل الإمام الحسين (عليه السلام)، تولّي الوعاظ مهمة توجيه النصائح والإرشادات للجماهير المشاركة في تلك المراسم، قيام المعزّين بمصاب الإمام الحسين (عليه السلام) باللطم على صدورهم أو جلد ظهورهم بالسلاسل الحديدية أو بشج رؤوسهم بالسيوف، تعبيراً عن الولاء المطلق، ومعايشةً لتلك الوقائع الدامية؛ خروج المعزّين في مواكب حاشدة، مرددين الأشعار الحزينة والمؤيدة للإمام الحسين (عليه السلام) أو بالأحرى لنهجه النهضوي المعادي للظلم والانحراف، إقامة ولائم لإطعام المعزّين وفقراء المسلمين، تقديم الماء للمشاركين في المراسم الحسينية، لتأمين راحة هؤلاء الناس المخلصين للإمام الحسين (عليه السلام) والمؤيدين لخطه السياسي أولاً وللإعراب الرفض لسياسة الحصار التي مارسها أعداء الدين ضد الركب الحسيني الشريف.
وعلى الرغم مما يوجَّه لبعض هذه المراسم من نقد، إما لعدم فهم مغزاها أو لتحريف البعض لأصولها والخروج بها عن أهدافها الحقيقية إلى أهداف لا تمت لنهضة الإمام الحسين (عليه السلام) بصلة ولا تعبر عن نهجه النهضوي، وعلى الرغم مما دار حولها من جدل - نبتغي الابتعاد عنه لكي لا نحوّل هذا الاجتهاد بالرأي إلى مصدر للخلاف بين أبناء الأمة الواحدة أو وسيلة لتمزيقهم وتناحرهم واستنزاف طاقاتهم واستعلاء أعدائهم عليهم -، فإننا نريد تبيان دور الاحتفاء بذكرى نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) في العشرة الأولى من محرم كل عام، في إقامة مجتمع إسلامي متطور ومتحرر من كل أشكال العبودية والتبعية والتخلف والانحراف عن الصراط المستقيم.
إن هذا التوجه هو باعتقادنا ما سيجعل تلك الذكرى التاريخية العزيزة المؤلمة المثيرة لأحزان المؤمنين أداة لبناء مجتمع إسلامي قوي متكاتف لا تهزّه الأعاصير، وإلى إيجاد مصادر قوة دائمة لا ينضب معينها ولا تتوقف عن مد الأمة الإسلامية بكل عناصر التفوق والازدهار، وإلى شعاع أمل لكل الجياع والمحرومين من الحرية والعدالة الاجتماعية، وإلى سلاح قوي بوجه كل من يريد الخسران المبين للمسلمين خاصة ومستضعفي العالم عامة، وإلى جهاز إنذار للتحذير مما يهدد أمة الإسلام من مخاطر وما يواجهها من مخططات، وإلى مؤتمرات جماهيرية لتدارس أوضاع الأمة والتعبير عن آراء أغلبيتها، وإلى حلقات اتصال بين الجماهير وطلائعها المثقفة، وإلى مدارس تربوية لإعداد أجيال واعية لا تنطلي عليها مخططات الأعداء، ولا تسكت عن الانحرافات، ولا تجهل الحقائق، ولا تخون مبادئها، ولا تتنكر لمقدساتها.
لقد كان المرجع الراحل الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي من مراجع الدين الكبار المتبنّين للتوجه الآنف الذكر، وهو ما يتضح من مراجعة سريعة ومحايدة لبعض مؤلفاته التي أربت على الألف ومائتين في شتى ميادين العلم والمعرفة- مثل: (الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام) و(الحسين (عليه السلام) مصباح الهدى) و(قبس من شعاع الإمام الحسين (عليه السلام)) و(عاشوراء والقرآن المهجور) و(إلى الهيئات الحسينية) و(رؤى عن نهضة الإمام الحسين (عليه السلام)) و(مقالات) و(رسالة إلى المساجد والحسينيات) و(المحاضرات).
في هذه الكتب والكراسات وغيرها تجد دعوة الإمام الشيرازي الراحل إلى استثمار المنبر الحسيني والاحتفاء بذكرى استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) في العاشر من محرم كل عام، من أجل إنهاض المسلمين وإقامة مجتمع دولي سلمي بعيد عن عوامل الظلم والاضطهاد والتخلف والتوتر والتناحر والصراع بين الإنسان وأخيه الإنسان.
في الصفحات التالية نشير بإيجاز إلى دور المنبر الحسيني، والاحتفاء بذكرى واقعة الطف، في بناء عالم جديد على وفق أفكار الإمام الشيرازي الراحل، وحسب المحاور التالية:
أ) تطبيق فريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ب) العمل بمبدأ التكافل الاجتماعي.
ج) نشر رسالة الإسلام.
د) استيعاب طاقات الأمة.
هـ) المساهمة في بناء الأمة عقائدياً.
و) تطوير الإعلام الجماهيري.
ز) دعم الحركة العلمية.
ح) تفعيل دور المرأة في المجتمع.
ط) المساهمة في توعية الأمة.
ي) المشاركة في حل المشاكل السياسية.
ك) دعم عملية التنمية الاقتصادية.
ل) تطبيق فريضة الصلاة.
م) عقد المؤتمرات والندوات.
ن) التذكير برموز الإسلام والمسلمين.
س) تقديم بعض الخدمات الاجتماعية.
تطبيق فريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
لقد كان السبب الرئيس لنهضة الإمام الحسين (عليه السلام)، بحسب ما أعلنه هذا الإمام الهمام، هو إصلاح ما فسد من أمور المسلمين على الصعد السياسية والاقتصادية والعقائدية والاجتماعية، كـ: تبديل نظام الحكم من نظام شوروي إلى ملكي وراثي بدون أيّ استحقاق أو كفاءة أو تفويض شرعي، السطو على المال العام من قبل المتنفذين في الدولة أو أركان الهيئة الحاكمة، سوء استغلال الحكومة للموارد البشرية- عبر توجيه المزيد من القوى العاملة المنتجة نحو أعمال الحرب وخدمة طبقة النظام (السلطة) بصفة خاصة-، ظهور توجهات فكرية إلحادية وأخرى شِركية معادية لمبدأ التوحيد، تعرض القوى المنتجة لعمليات استغلال ترفضها العقيدة الإسلامية، إثقال المنتجين بالضرائب، سوء إنفاق المال العام - حيث استُغل بعضه في تمويل ترف عناصر من الجهاز الحاكم -، ظهور البدع - كاعتماد العائلة الحاكمة لطريقة استحصال بيعة الأمة بالإكراه أو الرشوة-، إعراض بعض الرموز السياسية القيادية عن أحكام الكتاب والسنة.
إن مقولات الإمام الحسين (عليه السلام) التالية توضح لنا أسباب نهضته، وهوية من حاول الإمام تقويم سلوكهم لما فيه صلاحهم ونجاة أمتهم من المهالك:
- (ألا ترون إلى الحق لا يُعمَل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؟)(1).
- (ألا وأن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله)(2).
- (ألا وإني لم أخرج أشِراً ولا بَطِراً ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر)(3).
- (والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ إقرار العبيد)(4).
- (أنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيّه فإن سمعتم قولي واتبعتم أمري أهدِكم سبيل الرشاد)(5).
- (إني أدعوكم إلى الله وإلى نبيه فإن السنة قد أُميتت.. فإن تجيبوا دعوتي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد)(6).
استناداً إلى ما تم عرضه من أسباب نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) تجد أن تلك الحركة التاريخية إنما جاءت تطبيقاً لفريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الملزمتين لكل مسلم ومسلمة، واللتين قد أكد عليهما سبحانه وتعالى في كتابه المجيد في العديد من الآيات- مثل:
(ولتكن منكم أُمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف)(آل عمران/104).
(تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)(آل عمران/110).
(يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف)(آل عمران/114).
(يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة)(التوبة/71).
(الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله)(التوبة/112).
إيماناً من السيد محمد الشيرازي بمبادئ نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) وضرورة إدامتها فقد دعا أمة الإسلام إلى التمسك بفريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلى تولي المنبر الحسيني لمهمة دعوة المسلمين إلى تطبيق هاتين الفريضتين، إذ كتب:
(يلزم علينا أن نتمسك بقدرة الأمة لتقويم الانحراف)(7).
وتأكيداً من سماحة الإمام الشيرازي الراحل على أهمية تطبيق الفريضتين الآنفتي الذكر، فقد طالب علماء الدين على وجه الخصوص، باعتبارهم حماة الشريعة ورموزها، والذائدين عن بيضة الإسلام، بالعمل الجاد من أجل إزالة المنكرات الظاهرة على الساحة الاجتماعية ولإقامة علاقات سليمة بين كل أطراف المجتمع، ولجعل السياسات الحكومية متوافقة مع مبادئ الدين، ولتمكين الأمة من تطبيق مبادئ عقيدتها دون خوف أو تحريف، فقد كتب سماحته:
(يلزم على العالم أن يشمّر عن ساعد الجد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قولاً وعملاً. فأول الضروريات عليه أن يتجنب هو ويجنب ذويه عن المنكرات، حتى لا يكون في البلاد الإسلامية مظهر من المظاهر المحرمة- كالإفطار العلني في شهر رمضان، وحوانيت الخمور وموائد القمار ومظاهر السفور والتبرج)(8).
وقد أشار سماحته في مواضع مختلفة من كتبه وكراساته إلى بعض مصاديق تطبيق فريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من نحو ما يلي:
(أ- العمل على هداية المنحرفين.
ب- الإنفاق في مجالات الخير المختلفة من خلال إنشاء صناديق خيرية مختصة بهذا الشأن.
ج- تكثيف التحرك الإسلامي في المجتمع، سواء بممارسة الفقيه لمهمة الفصل في النزاعات القائمة بين الناس، أو بممارسة النشاطات الثقافية المختلفة، أو غير ذلك من أمور.
د- العمل من أجل زيادة عدد الخطباء والمبلّغين زيادة مناسبة، وبما يسد حاجة الأمة إلى خدماتهم.
هـ- السعي إلى اجتثاث جذور الصراع والتناحر بين سائر فئات الأمة وأطيافها المختلفة، تجنباً من تكرارها وامتدادها.
و- محاولة إحياء ونشر وتطبيق تعاليم وأحكام كتاب الله المجيد وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) وسيرة الأئمة المعصومين (عليهم السلام).
ز- الكفاح في سبيل تحقيق الاكتفاء الذاتي.
ح- حث المنتجين على إتقان العمل لتحسين الإنتاج المحلي وتحقيق الاكتفاء الذاتي، وبالتالي تقليل الواردات وتهيئة الفرصة لزيادة الصادرات، وتعديل الميزان التجاري لصالح التبادل الداخلي.
ط- مطالبة الحكومة بإنجاز وتحسين الخدمات العامة.
ي- الدعوة إلى العمل على استيعاب طاقات الأمة.
ك- دعوة المسلمين إلى أداء الحقوق الشرعية وإنفاقها فيما حلّله دين الإسلام.
ل- سعي عالِم الدين إلى تحويل المجالس الاجتماعية من أماكن لإضاعة الوقت ولهو العاطلين عن العمل، إلى أماكن لبناء جيل واعٍ مسلح بكل مصادر المعرفة المتاحة.
م- حث المواطنين على حضور مجالس العلماء للاستفادة من علمهم وبما يؤدي إلى نمو ثقافة المجتمع، أو تسريع عملية التنمية الاجتماعية.
ن- حث الناس على ارتياد أماكن العبادة بهدف إبعادهم عن أماكن السوء وبما يؤدي إلى بناء مجتمع متدين معادٍ للفساد وقريب من أعمال الفضيلة والصلاح.
س- حث العالِم للناس على تقدير العلم والعلماء وبما يؤدي إلى تطوير العملية التربوية وبناء مجتمع واعٍ متعلم معادٍ لكل خرافة وجهل وفساد وتضليل ومقاييس فاسدة(9).
ع- التشجيع على ممارسة المواطن لكل الأعمال الخاصة بالتكافل الاجتماعي(10).
ف- ممارسة ودعم أي عمل مناهض لسلب واغتصاب حقوق الناس(11).
ص- دعم العمل وسائر المنتجين من أجل زيادة الإنتاج والقضاء على مشكلة البطالة(12).
إن هذه الأمثلة على ما يمكن أن ينادي به ويعمل من أجله المنبر الحسيني حسب وجهة نظر الإمام الشيرازي الراحل تؤكد على أن من واجب المنبري ممارسة كل صنوف الأعمال المعادية للفساد والمؤيدة للخير والصلاح، وبذلك يكون خطيب المنبر قد مارس دوراً اجتماعياً نهضوياً، بحيث يمكن أن يشار إليه على أنه من موالي الإمام الحسين (عليه السلام) ومن مؤيدي نهضته والسائرين على نهجه الرسالي، كما أن ممارسة هذا الدور الاجتماعي المهم تتطلب من الخطيب الحسيني مراقبة الواقع الاجتماعي ورصد كل مظاهره السلبية ليعمل على كشفها للملأ وبما يؤدي إلى التعامل معها بطريقة تؤدي إلى القضاء عليها.
العمل بمبدأ التكافل الاجتماعي
لا يخلو أي مجتمع معاصر من الفقراء أو المحتاجين إلى مساعدة ودعم الآخرين من أبناء وطنهم، بغض النظر عن سبب ظهور هذه الفئة الاجتماعية أو سبب احتياجها للعون.
لربما تتمثل حاجة هؤلاء الناس: بمسكن يفتقدونه، أو بعجزهم عن الحصول على الطعام والعلاج الكافيين لإبقائهم أصحاء طيلة العمر المقدر لهم، أو بحرمانهم من المال اللازم لحصولهم على شريكات الحياة، أو بافتقادهم فرص العمل الشريف، أو بعدم قدرتهم على نيل الحظ الكافي من العلم، أو غير ذلك من أمور.
إن هذه الحاجة إلى العون تعكس معاناة بعض فئات المجتمع، كـ: الأيتام، والمتضررين من الكوارث، والأرامل، والعاطلين عن العمل، والمشردين، والعجزة، والعزاب، والعازبات، من مشاكل البطالة، وافتقاد المعيل، وقلة الرعاية الصحية، وافتقاد الزوج أو الزوجة، والحرمان من السكن.
لقد حث السيد محمد الشيرازي المسلمين عامة وأغنياءهم خاصة على مد يد العون لهذه الفئات الاجتماعية، كما دعا الحسينيات إلى المساهمة في هذا العمل الإنساني والديني- حيث يقول سماحته:
(فإذا استثمرت المجالس الحسينية، باعتبارها تثير الكوامن العاطفية في النفس وتؤثر على السلوك الإنساني، في قضاء حوائج الناس وفي التراحم والتوادد وإنجاز الخدمات الفردية والعامة لقضيت ملايين الحاجات كل عام)(13).
إن هذا التوجه الإنساني ينسجم كل الانسجام مع تعاليم كتاب الله، وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله)، وسيرة الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، التي أوجبت على الأغنياء إعالة الفقراء- عبر تسديد ما بذممهم من خمس وزكاة وخراج-، وشجعت المؤمن على إغاثة أخيه في الدين والإنسانية، واعتبرت الإيثار عملاً عظيماً وإغاثة المنكوب بمصيبة معينة فضيلة ونعمة، كما ذمّت من يتنكر لأخيه المحتاج إلى العون، فقد قال سبحانه في كتابه المجيد: (أرأيت الذي يكذب بالدين. فذلك الذي يدعّ اليتيم. ولا يحضّ على طعام المسكين. فويل للمصلين. الذين هم عن صلاتهم ساهون. الذين هم يراءون. ويمنعون الماعون)(سورة الماعون) و(كلا بل لا تكرمون اليتيم. ولا تحاضّون على طعام المسكين. وتأكلون التراث أكلاً لما. وتحبون المال حبّاً جماً. كلا إذا دكت الأرض دكّاً دكاً. وجاء ربك والملك صفاً صفا. وجيء يومئذ بجهنم. يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى. يقول ياليتني قدمت لحياتي. فيومئذ لا يعذب عذابه أحد. ولا يوثق وثاقه أحد)(الفجر/17-26) و(فلا اقتحم العقبة. وما أدراك ما العقبة. فك رقبة. أو إطعام في يوم ذي مسغبة. يتيماً ذا مقربة. أو مسكيناً ذا متربة)(البلد/11-16).
إن التكافل الاجتماعي المرغوب دينياً وأخلاقياً وسياسياً واقتصادياً قد يتمثل في الأمور التالية:
- الحث على بناء مساكن لإيواء الفقراء، تتناسب واحتياجاتهم الإنسانية الأساسية، وتحفظ للعائلة الفقيرة كرامتها وتوازنها واستقرارها، وتمنعها من الانجراف في طريق الجريمة والكفر.
- تشجيع المبادرات الهادفة إلى تأمين العلاج المناسب للمرضى العاجزين عن معالجة أنفسهم بسبب فقرهم. ويمكن أن تتمثل هذه المبادرات بإنشاء العيادات والمستشفيات الخيرية أو صناديق الرعاية الصحية.
- الحث على تشغيل العاطلين عن العمل، لما في ذلك من تنشيط للطلب على السلع والخدمات -وبالتالي تحرك عمليتي الإنتاج والتسويق أو بالأحرى مجمل النشاط الاقتصادي- بما يخدم المنتج والمستهلك أو صاحب رأس المال والأجير، وبما يمنع تحوّل العاطلين عن العمل إلى فئة اجتماعية مهملة أو خطر يهدد سلامة المجتمع عامة وأصحاب المال خاصة.
ـ التشجيع على إغاثة المتشرّدين والمنكوبين، لكون هذا العمل خير أسلوب معبر عن إنسانية الإنسان، ووسيلة لحفظ توازن المجتمع؛ نظراً لكونه أسلوباً لمنع تمزق المجتمع إلى فئات متناحرة (مستغِلة ومستغَلة) أو متفاوتة في مستوى تمتعها بخيرات الوطن(خاصة وإن تفاقم حدة هذا التفاوت المعيشي قد يمهد لابتلاء المجتمع بصراعات مدمرة، كما حدث بين الفلاحين العبيد وأسيادهم الإقطاعيين في أيام الدولة العباسية).
ـ الترغيب في رعاية العجزة والأيتام، لما في هذه الرعاية من التزام بأحكام الشرع المقدس - الذي أكد مراراً على المؤمنين بضرورة قيامهم برعاية العاجزين عن العمل من كبار السن وصغارهم.
- مساعدة العزاب والعازبات والأرامل بطرق مباشرة، كتزويدهم بالمال أو بزجهم في سوق العمل، وأخرى غير مباشرة، كالسعي من أجل خفض المهور أو التوفيق بين امرأة ورجل يرغبان بالزواج ولكن تحول بعض العقبات دون تحقيق رغبتهما، من أجل إدخالهم في بيت الزوجية.
نشر رسالة الإسلام
لقد حمل نبينا الأكرم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله) رسالة الإسلام إلى كافة بني الإنسان، بل حملها إلى الجن والإنس لقوله تعالى:(وأرسلناك للناس رسولا) (النساء/79) و(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)(الأنبياء/107) و(وما أرسلناك إلاّ كافة للناس بشيراً ونذيراً)(سبأ/28) و(إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً)(البقرة/119) و(قل أُوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً) (الجن/1-2).
إن هذه الآيات المباركة تؤكد أن الإسلام دين عالمي، ولم يختص بجماعة إنسانية معينة، ولذلك ينبغي على كل مسلم العمل وبذل ما في الوسع من أجل نشر هذا الدين في أنحاء الأرض- وإن كان رب العالمين قد كلف على وجه الخصوص المتفقهين في الدين بتنفيذ ذلك الواجب بحسب قوله سبحانه في كتابه العزيز: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) (التوبة/122) و(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف) (آل عمران/104).
إن بإمكان المنبر الحسيني، باعتباره وسيلة للاتصال بين المتفقهين في الدين الإسلامي وباقي الناس- مسلمين وغيرهم - مساعدة من يعتليه من المسلمين الرساليين على القيام بمهمة نشر أحكام الإسلام في أنحاء الأرض.
لقد سبق للإمام الشيرازي الراحل أن حث على استثمار المنبر الحسيني والاحتفال بذكرى عاشوراء في شهر محرم الحرام من أجل إيصال كلمة الإسلام إلى أقصى أرجاء المعمورة، إذ قال:
(يمكن أن يكون المحرم منطلقاً مناسباً لإبلاغ أهداف الإمام الحسين إلى البشرية، وذلك بجمع المال في المآتم والحسينيات وتشكيل الهيئات لأجل إرسال المبلغين إلى كل أنحاء العالم، لأن الإسلام دين عالمي لإخراج جميع الناس من الظلمات إلى النور وليس دين ألف مليون مسلم فقط)(14).
وقد أعرب الإمام الراحل عن أسفه لعجز المسلمين عن إرسال مائة داعية إسلامي إلى أصقاع الأرض القريبة والبعيدة في الوقت الذي نجح فيه أتباع ديانات أُخرى في إرسال مئات الآلاف من الأشخاص للتبشير بتعاليم دينهم واستقطاب الناس إلى جانبهم باسم الدين.
إن الوثنية الصريحة والمعلنة، كعبادة الأصنام والحيوانات والأرواح في الهند والصين واليابان والكوريتين وبعض أنحاء العالم الأخرى، والوثنية المبطنة غير المنظورة، كالقول بأن المسيح ابن الله جل وعلا وأن العزير هو أيضاً ابن لهذا الرب العظيم، قد أصبحتا ظاهرتين اجتماعيتين خطيرتين، بسبب استمرارهما على قيد الحياة منذ زمن طويل(15).
إنّ هذه الحقيقة توجب على المسلمين التحرك بأقصى سرعة ممكنة من أجل إزالة هذا الواقع الصعب والخطير والمشؤوم.
لقد أكد الإمام الشيرازي الراحل أن الإسلام قد سبق له أن انتشر في أنحاء الأرض عن طريق التجارة والمبلغين، كما أكد على إمكانية حصول مثل هذا الأمر مجدداً فيما لو شارك التجار وسائر المسلمين في تمويل حملات التبليغ الإسلامي ومآتم الإمام الحسين (عليه السلام) في محرم الحرام وبقية أشهر السنة، حيث قال:
(إذا ساهم التجار والأثرياء بنشر تعاليم الإسلام بأنفسهم أو بإرسال المبلغين أو بطبع الكتب الإسلامية الحيوية وتوزيعها أو بتأسيس إذاعات وتلفزيونات أو بإصدار الصحف والمجلات وتكثير الأشرطة التسجيلية إلى غير ذلك كان له أكبر الأثر. وبذلك نكون قد أسهمنا في إبلاغ رسالة الإمام الحسين الداعية إلى إحياء معالم الحق وإنقاذ البشرية من الظلمات والمتاهات الفكرية والعملية)(16).
إن هذه المشاركة بالمال والجهود الفكرية والبدنية هي في واقع الأمر أداء أو تنفيذ لواجب الجهاد، المفروض على كل مسلم ومسلمة. ولذلك فإن عظمة هذه الفريضة وأهميتها توجب على أرباب المنبر الحسيني استغلال ذكرى واقعة الطف لحث المسلمين على أداء هذه الفريضة التوعوية بكل أمانة وإخلاص ونزاهة ونكران للذات حتى تستقيم الحياة على هذه الأرض.
استيعاب طاقات الأمة
في العالم الإسلامي المعاصر توجد ظاهرتان اجتماعيتان متناقضتان؛ أما الأُولى، المفرحة لقلب كل مؤمن ومؤمنة بالإسلام ومخلص ومخلصة لهذا الدين وأهله، فهي امتلاك المسلمين لكفاءات علمية راقية المستوى وكثيرة العدد. أما الثانية المحزنة فهي قد تتمثل بهجرة بعض هذه الكفاءات من بلاد المسلمين إلى ديار أخرى، أو تتمثل بسوء استغلالها في أوطانها، أو إهمالها لدوافع سياسية أو طائفية أو غير ذلك من أُمور.
إن هجرة الكفاءات وسوء استثمارها هي ظاهرة مَرَضيّة خطيرة، لأنها تحرم أُمة الإسلام من وسيلة لتحقيق تقدمها والتخلص من الفقر والمرض والتبعية، ولأنها تبدد أو تهدر ثروة بشرية لم تكوّن إلا بإنفاق أموال وجهود طائلة.
ولاتخاذ هذه الظاهرة، خلال العقدين الأخيرين، منحنىً تصاعدياً ملفتاً للنظر ومثيراً للتساؤل، حيث بلغ عدد الأطباء والمهندسين وغيرهم من ذوي الاختصاصات العلمية المختلفة الذين هجروا ديار الإسلام رقماً تجاوز النصف مليون، فإنها أمست تستدعي من المؤمنين دق ناقوس الخطر وإلى التحرك الفوري من أجل مواجهتها بكل الوسائل المتاحة.
في لفتة ذكية أشار الإمام الشيرازي الراحل إلى ضرورة مواجهة ظاهرة هجرة الكفاءات وسوء استثمارها، بوسائل عديدة، أشار إليها سماحته بصورة موجزة في الصفحات 36-39 من كتيبه المعنون (الحسين مصباح الهدى)، يمكن تبيانها في النقاط التالية:
أ) إقامة أنظمة عادلة في بلاد المسلمين، لأن الأنظمة القمعية والتي ملاكها (الغاية تبرر الوسيلة) وغيرها من المبادئ الفاسدة هي أحد العوامل الرئيسية وراء ظاهرة هجرة الكفاءات من بلاد المسلمين وسوء استغلالها في أوطانها.
ب) استثمار المنبر الحسيني للكفاءات العلمية، وذلك من أجل تطوير نفسه وتحسين أدائه وإيصال صوته إلى أنحاء الأرض.
إن هذا الاستثمار لا يقوم على قاعدة تحويل المهندس والطبيب والصيدلي وغيرهم من أصحاب الاختصاص العلمي إلى خطباء منابر، وإن كان هذا الأمر ليس له ما يعيقه أو يمنعه، بل على أساس تكليفهم بإنشاء وتشغيل محطات إذاعة وتلفزيون وأجهزة انترنيت ومراكز أبحاث ودراسات وغيرها من وسائل الإعلام من أجل إدامة نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) وبقاء مبادئها حية قوية غير معرضة لعوامل الضعف والتراخي والانتكاس والتراجع، وكذلك من أجل تحقيق أهداف هذه النهضة- وخاصة فيما يتعلق بإقامة دولة الإيمان والعدل المناهضة للظلم والطغيان والانحراف عن الصراط المستقيم.
ج) تولي المنبر الحسيني مهمة الدفاع عن الكفاءات العلمية المضطهدة من قبل هذا الطرف أو ذاك في العالم الإسلامي حتى توضع الأمور في نصابها الصحيح، بأن يحتل الشخص المناسب المكان المناسب دون محسوبيات أو امتيازات طائفية وعنصرية وغيرها من المصالح الأنانية الضيقة.
د) تشجيع المنبر الحسيني لأصحاب الأموال والمشاريع على استقطاب أصحاب الكفاءات العلمية وزجهم في العملية الإنتاجية، لما في ذلك من أثر في القضاء على ظاهرة البطالة، ولماله من دور في الحد من هجرة هذه الكفاءات إلى الخارج وخسارة بلاد الإسلام لهذه الثروة البشرية التي لا تقدر بثمن.
المساهمة في بناء الأمة عقائدياً
إن تطبيق أحكام العقيدة التي جاء بها الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) استوجب إلمام أتباعها بأحكامها، وإلا فكيف لجاهلها أن يلتزم بأوامرها ونواهيها.
ولأجل تمكين المسلمين من معرفة مبادئ دينهم، كخطوة أُولى باتجاه التطبيق، كلف رب العالمين الحاكم الإسلامي أو من ينوب عنه بإعداد بعض المسلمين إعداداً عقائدياً ليعملوا كدعاة ومبلغين إسلاميين، حيث جاء في الذكر الحكيم:(ولتكن منكم أُمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف)(آل عمران/104) و(لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين) (آل عمران/164)، كما رفع المكانة الاجتماعية للعالِم والمؤمن بأحكام الإسلام لقوله سبحانه:(يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) (المجادلة/11) و(قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) (الزمر/9).
وفضلاً عن ذلك حثّ الشرع المقدس المسلمين على تعلُّم أحكام دينهم، كما اتضح ذلك من الآيات القرآنية الآنفة الذكر، فقد أكد رسولنا الأكرم (صلى الله عليه وآله) على ضرورة طلب المسلم للعلوم الدينية خاصة وباقي العلوم عامة، إذ قال:(العلم رأس الخير كله والجهل رأس الشر كله)(17) و(اطلبوا العلم ولو كان في الصين فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم)(18).
والتزاماً بأمر الله ورسوله الكريم (صلى الله عليه وآله) عمل أئمة وفقهاء المسلمين على تعليم أبناء أمتهم أحكام الإسلام، سواء بإعدادهم للدعاة والمبلغين إعداداً عقائدياً جيداً، أو بتوضيحهم مسائل الإسلام لعامة الناس أثناء لقائهم في المساجد والأماكن العامة الأخرى.
إن الإمام محمد الشيرازي قد تبنى النهج الآنف الذكر، حيث أوجب اشتراك الحسينيات في نشر مبادئ الإسلام بين جموع المسلمين وغيرهم - وهذا ما يعتبر تطويراً لعمل هذه المؤسسة الإسلامية وترسيخاً لنهج الإمام الحسين الإصلاحي الساعي إلى بناء مجتمع إسلامي بعيد عن أي انحراف عقائدي - حيث كتب سماحته يقول:
(يلزم أن يبلغ عدد هذه المجالس الملايين، توزع خلالها ملايين الكتب الإسلامية والتوعوية وأشرطة الكاسيت المفيدة بين مختلف الناس كي تتفهم الأمة الإسلامية قضاياها ومسائلها قليلاً قليلاً، فيرتفع مستوى الثقافة عند الجميع)(19).
وللتأكيد على هذا الدور الفاعل للهيئات الحسينية في بناء المجتمع بناءً عقائدياً قال سماحته:
(وعلى أي حال فعلى القائمين بشؤون المساجد والحسينيات تشويق الناس لطلب العلم، وفتح أبوابها لطلاب العلوم الدينية للتعليم والتعلم والمباحثة والتأليف وغيرها من شؤون العلم، كما ينبغي لهم تشويق سائر الناس للدراسة- ولو لكل يوم درس واحد مما ينفع غير أهل العلم في دينهم ودنياهم، أمثال(أصول الدين) أو(تفسير القرآن) أو(تاريخ الإسلام) أو(المسائل الفقهية) أو ما شابه ذلك - سواء كان الذين يدرسون من العوام أو من طلاب المدارس الحديثة أو الموظفين أو المدرسين والأطباء والمحامين ومن إليهم من سائر المثقفين)(20).
إن مثل هذا التوجه الإسلامي يحيي علوم الدين ويوسع مدى انتشارها ويسلّح الأمة الإسلامية بمبادئ عقيدتها ويحصنها ضد الأفكار والسياسات المعادية ويهيئ الأرضية الفكرية اللازمة لتطبيق أحكام الإسلام.
ومن أجل ترسيخ مبادئ الدين الحنيف في نفوس أتباعه، وخاصة طلبة العلوم الدينية، وتحصينهم ضد الغزو الثقافي وأي نهج فكري معادٍ، ينبغي أن تتولى المساجد والحسينيات مهمة تعريف المسلمين في مرحلة لاحقة لتسليحهم بمبادئ عقيدتهم بمخاطر ومساوئ الفكر المعادي وأوجه قصوره وأفضلية الإسلام عليه. وقد أشار الإمام الشيرازي الراحل إلى هذا الواجب بالقول:
(يجب على طالب العلم أن يتعلم ويدرس- تخصيصاً- علوم القرآن الكريم ونهج البلاغة والصحيفة السجادية.. مضافاً إلى ترويج درس العقائد في الحوزات العلمية، حتى نحصل على قدرة كافية لرد وتفنيد المذاهب والعقائد الباطلة والمزيفة الساعية إلى تحطيم الإسلام وتشويه مبادئه وأفكاره)(21).
تطوير الإعلام الجماهيري
لا يخفى على أي لبيب أهمية ودور الإعلام في: تنوير الرأي العام - باطلاعه على القضايا المتعلقة بمصالح الوطن والأمة والتحركات السياسية المحلية والدولية وما يواجهه المجتمعان المحلي والدولي من مخاطر وتحديات ومؤامرات ومخططات -، تطوير المدارك العقلية لأبناء الأمة، إنجاز وتسريع عملية التنمية الاجتماعية والاقتصادية، إيجاد نوع من الاتصال أو التفاعل بين المواطن والمسؤول، كشف ما يعانيه بعض أبناء المجتمع من مشاكل، فضح المنحرفين عن الخط الوطني المستقيم - بما فيهم المعتدون على أموال الدولة والمحتكرون وتجار الحروب -، تعريف المواطن بقرارات وسياسات الأجهزة الحاكمة....الخ.
وبنحو الإجمال يمكن القول بأن للإعلام أدواراً تنموية وتوعوية وتعليمية وتثقيفية وأمنية، وهي أدوار خطيرة- لأنها تؤثر على الاستقرار السياسي والاجتماعي وعلى الأمن الوطني واقتصاد البلاد والسلم العالمي والعلاقات السياسية والاقتصادية الدولية.
وبالنظر لفوائد الإعلام الكثيرة فقد حث الإمام الشيرازي أصحاب المنابر الحسينية على الدعوة لتطوير عملهم وتوسيع دائرة تحركهم عبر الاستعانة بوسائل الإعلام الحديثة، كالإذاعة والتلفزيون والسينما والانترنيت وأشرطة الفيديو ودور نشر الصحف والكتب والمجلات وغير ذلك.
ومما قاله سماحته بهذا الصدد:
(كانت كل من الدعاية والدعوة الإسلاميتين في الزمن السابق منحصرتين في المنبر والكتب. إن التطور الحديث جعل من وسائل مادية عديدة آلة للدعاية والدعوة، كالمدارس والنوادي والمسارح والسينمات والصحف ووكالات الأنباء. إن اللازم في العصر الراهن هو السعي من أجل تسخير هذه الطاقة الهائلة في الدعاية للإسلام والدعوة إليه)(22).
(يجب أن يهتم في عالم اليوم بنشر الكتب، إذ يجب نشر ما لا يقل عن ألف مليون كتاب في مختلف الجوانب الإسلامية ولمختلف المستويات وباللغات العديدة)(23).
(إذا أراد المسلمون التقدم فلا بد لهم من إعداد جيش من الكتّاب والخطباء الجيدين...وعلماء الاقتصاد والسياسة)(24).
(هناك فئات كثيرة من المجتمع الإسلامي وغير الإسلامي بحاجة إلى التوعية. إن إنجاز مثل هذه المهمة بحاجة إلى وسائل مختلفة، من جملتها نشر الكتب والنشرات والمقالات والخطب والمحاضرات عبر الإذاعات والتلفزيونات)(25).
إن ترجمة هذه الأقوال أو الوصايا إلى سياسة عملية تتطلب من خطباء المنابر العمل على تشجيع - إن لم نقل تبنّي - ما يلي:
أ) عقد دورات لإعداد كتّاب وصحفيين للقيام بمهمة إيصال مبادئ وأهداف النهضة الحسينية إلى جماهير واسعة في شتى أنحاء العالم. ولا شك بأن من واجب أية جهة تتولى هذه المهمة اختيار أناس مؤهلين علميا ودينياً لأداء هذه المهمة الإعلامية الخطيرة، لأن ضعف المستوى العلمي أو أي قصور في الوعي الديني لأمثال هؤلاء الناس سيخلق رد فعل معاكس لمبادئ وأهداف نهضة الإمام الحسين- إن لم يوقع من يقف وراء أولئك الإعلاميين في إشكالات دينية ومواجهات سياسية وثقافية قابلة للتفاعل وبما يؤدي إلى تبديد الطاقات والانشغال بمعارك جانبية غير مبررة أخلاقياً ودينياً.
ب) النتاجات الفكرية لأصحاب الكفاءات العلمية والثقافية المؤيدة والموضحة لمبادئ وأهداف نهضة الإمام الحسين (عليه السلام).
ج) الإنتاج المسرحي المحاكي لمبادئ وأهداف نهضة الإمام الحسين، على أن لا تنحصر هذه المهمة بعرض ملحمة استشهاد قائد هذه النهضة العظيمة على أرض كربلاء فحسب، بل يجب أن تستثمر للدعاية ضد كل انحراف عن الخط الإسلامي، كما يتوجب استغلالها من أجل نشر كل مبادئ الفضيلة التي جاهد من أجلها سيد الشهداء (عليه السلام).
د) أي نتاج إذاعي أو تلفزيوني أو صحفي أو سينمائي يخدم الإسلام والمسلمين عامة ويؤيد مبادئ وأهداف نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) خاصة.
دعم الحركة العلمية
إن أية عملية تنموية أو محاولة لتقوية الركائز التي تقوم عليها الدولة تتطلب استخدام العلوم التطبيقية التي أثبتت نجاحها في مناطق مختلفة من العالم ومنذ زمن ليس بالقصير. ولذلك يصبح من البديهي القول بأن من واجب أية جهة إسلامية مخلصة لأمتها وسائرة على نهج الإمام الحسين (عليه السلام) ومتبنية لمبادئ نهضته دعم الحركة العلمية المفيدة والداعية لبناء الأمة على أسس قوية وبما يضمن لها كرامتها وتحررها من كل أشكال التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية.
إيماناً بالحقيقة الآنفة الذكر فقد دعا الإمام محمد الشيرازي في مناسبات عديدة عبر مؤلفاته المختلفة إلى دعم الحركة العلمية، ومثال ذلك ما يلي:
- (يلزم الاهتمام من مختلف فئات المسلمين لأن يكون في كل بلد إسلامي أو غير إسلامي: مكتبة للمطالعة ومكتبة للنشر ومدرسة لتربية الطلاب وتعليمهم ومجلة شهرية أو أسبوعية أو نصف شهرية...الخ)(26).
في هذا النص نلمس حرص الإمام الراحل على وجود مراكز إشعاع فكري في كل منطقة يتواجد فيها المسلمون، لأنها وسيلة لتحقيق أو إنجاز التنمية البشرية أولاً، والتنمية الاقتصادية ثانياً، والتحرر الوطني أو التخلص من التبعيات السياسية والاقتصادية والثقافية ثالثاً.
- (من اللازم على الأجهزة العاملة في سبيل الإسلام جمع الأدمغة المفكرة والبناءة، لأن المفكرين والبناة هم الذين يتقدمون بالشعوب والبلاد إلى الأمام)(27).
إن هذا القول يشير بكل وضوح إلى أهمية الرصيد البشري في إنجاز وتسريع عملية التنمية بكل أبعادها وصورها، سواء على صعيد العلاقات الاجتماعية أو البناء الاقتصادي أو غير ذلك من أُمور، كما يؤكد على وجود معادلة طردية تربط عملية التقدم بوجود الكفاءات العلمية وجودة استثمارها- إذ كلما ازداد وتحسن استخدام هذا الرصيد البشري ازداد النمو والتقدم في البلاد.
وبالنظر لأهمية الكفاءات في إنجاز بناء الوطن على أسس حديثة متناسبة مع التطور الحضاري في الدول المتقدمة مادياً أكد سماحة الإمام الراحل على أهمية إعداد وتنمية الكفاءات، حيث قال:
(يلزم تكوين العقول المفكرة والبناة، وذلك بالوعي وإيجاد الأرضية المناسبة والتحريض الدائم ثم المشي معهم خطوة خطوة، والدعاء لهم، ودعمهم بمختلف أنواع الدعم)(28).
إن تكوين وتنمية الكفاءات العلمية يستلزم تضافر الكثير من الجهود، بما فيها:
أ) دعم إنشاء المزيد من المدارس.
إن هذا التوجه سيعمل على محو الأمية، التي تعيق أية إمكانية للتقدم على أساس علمي صحيح متناسب مع متطلبات ومظاهر وإنجازات العصر الراهن، كما سيمهد لظهور جيل على صلة بالعلوم التطبيقية، التي بدونها يحرم المجتمع من فرص تحقيق نمو وتقدم نافع للوطن.
ب) دعم إنشاء مراكز البحوث والدراسات.
يمكن أن تشتمل برامج هذه المراكز على إعداد خطط طويلة ومتوسطة وقصيرة المدى لبناء الوطن على أساس حضاري، وبما يمكنه من تجاوز عقبات تطوره وازدهاره.
ج) دعم عملية التأليف ونشر الأفكار الإسلامية والعلمية.
لقد أصبح من البديهيات السعي إلى نشر الأفكار العقائدية والعلمية، التي تساعد على قيام مجتمع عقائدي مسلح بالمعرفة الدينية -القادرة على مواجهة الغزو الفكري- وحائز على العلوم - المهيئة لقيام مؤسسات إنتاجية صناعية وزراعية على أساس علمي - وقادرة على استغلال الموارد المتاحة بكفاءة ودون تبذير.
إن إحدى وسائل تحقيق هذه الأهداف هي العمل على دعم عملية نشر الأفكار الإسلامية والعلمية.
د) تشجيع الباحثين والمؤلفين والمبتكرين.
إن نشر الفكر النافع لن يكون متاحاً للمجتمع إلا إذا وُجد الباحثون والمؤلفون والمبتكرون، الذين يقدمون نتاجاتهم الفكرية العلمية إلى دور النشر لطبعها وتوزيعها على أبناء الأمة. كما أن الكفاءات العلمية بحادة إلى دعم مادي ومعنوي مشجع للعمل في مجالي الفكر والابتكار العلمي، وإلا فسوف تلجأ هذه الكفاءات إلى أعمال مهنية لا علاقة لها بأجواء العلم والبحث العلمي لكنها تحقق الربح الوافر والسريع والسهل وهذا ما يؤدي بالتالي إلى ضياع العقول وهجرتها إلى مجتمعات تحتضن لكفاءات وتقدرها حق قدرها.
تفعيل دور المرأة في المجتمع
حينما يتحدث أي إنسان عن المرأة فإنما يتحدث عن الزوجة والأُم والبنت والأُخت والجدة والحفيدة، أو عن الطبيبة والمهندسة والفلاحة وعاملة المصانع وربة البيت والرسامة والمعلمة؛ أي إنه يتحدث عن نصف المجتمع.
فمن البديهي القول بأن أي مجتمع يريد النمو والتقدم لا يفرط بنصف طاقاته البشرية، وإلا لعُد مثل هذا التفريط هدراً لنعمة من نعم رب العالمين أو تجميداً لنصف رأس المال البشري المتاح للوطن، أو إعاقة حقيقية لإسهام نصف عدد سكان البلاد في التنمية الوطنية الشاملة.
فعلى فرض إهمال المجتمع الإسلامي لطاقات النساء، فإنه سيكون قد تبنى فكرة التفريط بنصف إمكانياته وقدراته على إنجاز هدف تنموي معين، وهذا الهدر بالنسبة للمسلمين غير مبرر دينياً- خاصة وأنه يسهم في إضعاف دولتهم ويمهد لاستقواء أعدائهم عليهم-، كما سيكون مثل هذا التفريط عائقاً خطيراً أمام عملية البناء الحضاري التي تتطلب مجتمعاً مسلحاً بالعلم.
لقد أدرك الإمام الشيرازي الراحل هذه الحقائق وعرف أهمية إشراك المرأة في بناء المجتمع وتطويره؛ فهو يقول:
(من الضروري إشراك النساء في العلم والعمل وفقاً للمنهج الإسلامي، فالمرأة يجب أن تتعلم ولكن بدون استهتار، ويجب أن تعمل ولكن بدون تورط، ويجب أن تشارك الرجال في كل الميادين باستثناء ما حظر الإسلام حفظاً لكرامتها وسلامة المجتمع)(29).
إن هذا القول يؤكد ضرورة استغلال المجتمع الإسلامي لنصف طاقته المتاحة استغلالاً يتناسب أو يتوافق مع أحكام الشريعة الحقة، لما في ذلك من تعزيز لقدراته وبما يمكنه من تطوير نفسه وإسعاد أبنائه ومقاومة كل التحديات الخارجية التي قد يواجهها في أية لحظة.
إن تفعيل هذا القول وتحويله إلى واقع ملموس يتطلب مشاركة كل القوى الخيّرة في المجتمع في تطبيقه والدعوة إلى تبنيه.
ولعل المنبر الحسيني خير وسيلة للدعوة إلى تبني هذا النهج النهضوي، المتوافق مع مبادئ نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) الإصلاحية باعتباره أداة اتصال فعالة بين العناصر المثقفة من الأمة وعامتها، ولكونه ممثلاً حاضراً لدعوة الإصلاح الاجتماعي التي نادى بها الإمام الحسين (عليه السلام) منذ ما يزيد على ثلاثة عشر قرناً.
ولكي يقوم المنبر الحسيني بهذه الوظيفة النهضوية فعليه التأكيد في كل مناسبة على مسائل عديدة، مثل:
أ) الدفاع عن حقوق المرأة في المجتمع الإسلامي، والمقرة من قبل الشارع المقدس، وهذا ما يستدعي من خطيب المنبر الحسيني توضيح حقوق وواجبات المرأة في الإسلام.
ب) تشجيع المبادرات النسائية الثقافية عامة والإعلامية خاصة، عبر رفدها بالنصح والإرشاد، والدعوة إلى دعمها بالمال ومختلف أشكال التشجيع.
ج) دعم أية مبادرة لمحو الأمية في الوسط النسوي.
د) تشجيع أية مبادرة لحصول النساء على تعليم عال.
هـ) تحفيز المرأة على الاشتراك في العمل الاجتماعي، وخاصة في مجال الطب والتعليم.
المساهمة في توعية الأمة
لربما لن يكون المرء مبالغاً إذا اعتقد بأن جهل الأمة بما يحيطها من مخططات معادية هو سبب ابتلائها ببعض، إن لم نقل بأغلب مشاكلها المعقدة والمستنزفة لثرواتها وطاقاتها، والتي قد تمنعها من نيل استقلالها السياسي والاقتصادي وصيانته.
عادة ما تلتبس الأمور على من لا يعرف ما يحدث وراء الكواليس، أو يجهل العمل السياسي أو الحركة السياسية على الصعيدين المحلي والدولي، وغالباً ما يكون الوقوع في الفتن الغامضة سبباً في تزلزل الأفكار وتضارب السياسات والمواقف، ولذلك يعتبر وعي الأمة بما يدور حولها من تحركات معادية وغير معادية سبباً لنجاحها في مقاومة أي تحرك مناوئ، وإفشال المخططات المعادية لمصالحها.
إن هذا الاستنتاج المنطقي، الذي ربط بين استقلال الأمة وابتعادها عن الوقوع في الأفخاخ والمصائد أو المصائب من جانب، وبين وعيها السياسي من جانب آخر، هو ما يدفع كل مخلص لأمته إلى العمل من أجل استكشاف حقائق الأمور أو السياسات المعادية والصديقة، ونشرها في الأوساط العامة عسى أن تنجح هذه الجماعة الإنسانية في الدفاع عن وجودها وكرامتها، ومواجهة أية مخططات معادية.
ولكي يتسلح أبناء الأمة بهذا الوعي ويتمكنوا من فرض وجودهم على الساحة الدولية ومقاومة التهديدات الخارجية والداخلية ارتأى السيد محمد الشيرازي استخدام المنبر الحسيني كوسيلة لنشر الوعي بين صفوف المسلمين، حين قال:
(على الخطيب الذي يصعد المنبر إعطاء هذه النقطة، أي تبيان الأسباب الحقيقية للأحداث، حقها في التحليل والتفصيل... يجب أن يذكر طواغيت العصر الحاضر... التنبيه إلى الأخطار والمخططات المحيقة بالأمة. وهذا يعني أن على خطيب المنبر الواعي حث كل فرد تحت منبره على حمل جرس إنذار للتحذير من الأخطار... المنبر هو أحد وسائل بناء الإنسان وذاته حتى يكون قوياً في الصراعات ووقوراً في الشدائد والأزمات)(30).
إن تكليف الإمام الراحل لخطيب المنبر بمهمة توعية الأمة وتسليحها بالقدرة على تحليل الأحداث ومراقبتها بدقة بعيداً عن الانفعالات والعواطف السلبية، يساعد المسلمين على طرح قضاياهم المصيرية والأقل أهمية على بساط البحث والتحاور والنقاش، كما يمكنهم من معرفة حقائق تلك القضايا - كأهدافها ومن يقف وراءها وأدوات تحريكها وما يحيطها من تعقيدات - ويعينهم على اختيار الموقف المناسب إزاء كل حدث يواجهونه وبما يدفع عنهم وعن أجيالهم أذى الآخرين ويحفظ مصالحهم من العدوان الخارجي والمؤامرات مهما كان مصدرها.
المشاركة في حل المشاكل السياسية
بحكم تغير الظروف السياسية والاقتصادية والعسكرية المحلية والدولية تتبدل أحوال الدول كما تتغير العلاقات بينها؛ فقد تتولى قيادة البلاد سلطة مستبدة على أنقاض أخرى ديمقراطية، أو تؤول مقاليد أمورها إلى أيادٍ عنصرية بعد أن كانت بأيدي عناصر بعيدة عن أية نزعة ضيقة، أو تصبح تحت إمرة حكومة ذات نزعة عسكرية بعد أن كانت خاضعة لحكومة مسالمة، أو تتحول العلاقات بين دولة أو أكثر، ودول أو دولة أخرى، من علاقات ودية إلى تجاذب ونزاع، كما قد يحدث عكس ذلك، أو تبتلي بالفقر أو المرض أو الجوع أو التضخم.
إن هذه التغيرات قد يتولد عنها الاستبداد والعنصرية والحروب الساخنة والباردة وغير ذلك من ظواهر اجتماعية مرضية توجب على كل إنسان حريص على مصالح أمته وعلى السلام العالمي، النضال ضدها بكل وسيلة ممكنة.
من أجل تحقيق هدف هذا النضال، أي القضاء على ما تواجهه الأمة من مشاكل وعقبات مختلفة- بما فيها السياسية- فقد أكد الإمام الشيرازي الراحل بأن لواقعة الطف والمنبر الذي يحيي ذكراها، القدرة على المساهمة في إنجاز المهمة السالفة الذكر، حيث كتب يقول:
(يمكن أن يستفاد من واقعة الطف في حل المشاكل السياسية التي تعاني منها الأمة، والتي منها: مشكلة الاستبداد والدكتاتورية السائدة في العالم الثالث والطواغيت الذين اتخذوا عباد الله خولاً وماله دولاً ودينه دغلاً...، العنصرية التي تعاني منها أغلب دول العالم....، الحروب في البلاد الإسلامية...، الجوع والفقر والمرض...الخ)(31).
وقد أشار الإمام الراحل إلى الخطوط العامة لمشاركة المنبر الحسيني في مواجهة تلك الأزمات إذ كتب:
(يتم حل المشاكل، إلى حد ما، عبر قيام الخطباء بأداء دورهم الديني، وقيام الهيئات الإدارية للمساجد والحسينيات بتوزيع الكتب التثقيفية والتوعوية، وقيام وسائل الإعلام بأدوارها الحقيقية)(32).
إن هذه التوجهات العامة يمكن تلخيصها بسعي المنبر الحسيني إلى تطبيق حكم الإسلام في الأرض، وبذلك يمكن حل الكثير من المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالنظر لما في الإسلام من أحكام صالحة لإسعاد البشر في حياتهم الدنيا، وضمان سعادتهم في الآخرة.
أما لو أردنا تفصيل هذه التوجيهات العامة فيمكن القول بأنها تتمثل بأعمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الحق، مثل:
- سعي المنبر إلى تحشيد الرأي العام باتجاه سياسة ما أو مواقف معينة من الأحداث الجارية على أرض الواقع.
- حث المنبر لبعض الحكام أو الساسة على تبنّي موقف ما تجاه حدث أو مشكلة معينة.
- تشجيع أصحاب الرساميل على استثمار مورد معين أو زيادة أجور عامليهم أو خفض أسعار منتجاتهم أو ممارسة أعمال أخرى.
- تشجيع العمال ونقاباتهم على زيادة الإنتاج أو تبني أي موقف يحل أزمة قد تنشب بينهم وبين أصحاب الرساميل أو الحكومة.
دعم عملية التنمية الاقتصادية
قد يستغرب البعض عن إعطاء المنبر الحسيني دور في عملية التنمية الاقتصادية، لكونه أداة للوعظ والإرشاد، ووسيلة لنشر مبادئ الدين، وليس مؤسسة تجارية أو صناعية أو زراعية.
إن مثل هذه النظرة السطحية إلى الأمور تفصل الدين عن السياسة والاقتصاد، أو بالأحرى عن الحياة العامة، وهذه هي الطامة الكبرى لكل مجتمع مكلف باتباع عقيدة الإسلام- التي جاءت أحكامها لتنتظم كل ميادين الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية والعسكرية والاجتماعية.
لقد أشار الإمام الراحل آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي في مؤلفاته إلى الكثير من المهام الممكن للإسلاميين عامة، بمن فيهم خطيب المنبر الحسيني- الذي له قدرة ملموسة على تكوين وتوجيه الرأي العام-، ممارستها للمشاركة في عملية البناء والتنمية في الوطن. وفي أدناه بعض الأمثلة عن تلك الإشارات، التي سنذكر مضامينها - باعتبار أن الاستشهاد بنصوص أقوال الإمام الراحل يتطلب مساحة واسعة تؤدي بهذا الكراس لأن يصبح كتاباً:
(أ- مساهمة رجل الدين في عمارة البلاد عبر تحفيزه الناس لبناء المساجد والمدارس والحسينيات وغيرها من المشاريع العمرانية.
ب- الدعوة إلى تحديث المدن.
ج- الدعوة إلى تنشيط القطاع الزراعي، والمشاركة الفعلية في ممارسة النشاط في هذا القطاع.
د- المساهمة في محاربة الفقر عن طريق دعوة الناس إلى أداء ما بذمتهم من حقوق شرعية لله ولرسوله والفقراء والأيتام وغيرهم، سواء تمثلت تلك الحقوق بالخمس أو الزكاة أو الكفارات أو النذور أو الهبات أو الصدقات أو غير ذلك.
هـ- دعوة الناس إلى التآلف ونبذ الفرقة بما يهيئ الفرص لخفض الإنفاق العسكري وزيادة كل من الإنتاج المادي وفرص العمل ودخل الفرد والدولة والصادرات.
و- إثارة النزعة الإنسانية بما يؤدي إلى زيادة التراحم والتعاطف بين الناس، فيعيل الغني الفقير، ولا يندفع التجار باتجاه رفع الأسعار، الذي يضر أصحاب الدخول الثابتة والمحدودة.
ز- المناداة بالسعي لتحقيق السلام العالمي، بما يساعد الشعوب على تجنب الحروب، والتفرغ لعمليات البناء والتنمية.
ح- المشاركة في إنجاز وتسريع عملية التنمية الثقافية، بالحضّ على طلب العلم والمعرفة وإنشاء المؤسسات الثقافية.
ط- الإسهام في حركة الإصلاح الاجتماعي، بالحث على الزواج وتكوين الأُسر، والتحذير من الطلاق والعزوبية.
ي- الدعوة والعمل على إزالة التمايز الطبقي بالنصح والإرشاد.
ك- السعي والدعوة إلى تحقيق توزيع عادل للدخل الوطني من أجل تجنيب المجتمع من الابتلاء بأمراض الفقر والبطالة وتجميد الأموال واكتنازها وغير ذلك.
ل- تنمية الوعي الصحي بتبيان نصائح النبي(صلى الله عليه وآله) وأهل البيت(عليهم السلام) والأطباء في المأكل والمشرب وغيرهما من الحاجات الطبيعية اليومية للإنسان، إن انتشار هذه المعرفة بين الناس وتطبيقها يساعدان على بناء مجتمع سليم وقادر على إنجاز المزيد من الأعمال وتنمية الإنتاج بصورة ملحوظة.
م- العمل على تنوير الأمة، بإطلاعها على عقيدتها والعقائد الأُخرى وبيان ما لعقيدة الإسلام من أفضلية على ما سواها- مما يسلح الأجيال بمعرفة سليمة تبعدها عن التورط فيما يخل باستقرار الوطن ويضر بسلامة الأمة.
ن- المساهمة في محاربة الجريمة، عبر التخويف من عواقبها والعمل على هداية الناس إلى ممارسة العمل الصالح، مما يبعد المجتمع عن أحد أبرز عوامل تأخّره واستنزافه.
س- العمل من أجل مواساة المنكوبين والمتضررين بالكوارث والحوادث، بما يضمن تلاحم فئات المجتمع وسلامته النفسية، ويحافظ على استقراره، ويساعده على تنمية إنتاجه.
ع- السعي إلى تنمية إنسانية شاملة، عبر حث الآباء على تنشئة أبنائهم تنشئة صالحة - تمنعهم من الانجراف في مهاوي الرذيلة والجريمة وتهيئتهم ليكونوا أعضاء نافعين في المجتمع- و وحثَّ الأبناء على احترام آبائهم وأداء حقوقهم، وتشجيع الفرد على مساعدة قريبه وجاره وابن عشيرته- بما يحفظ للأسرة وحدتها وللعشيرة ترابطها وللمجتمع استقراره وقدرته على إنجاز وتسريع نموه الاجتماعي والاقتصادي.
ف- محاولة تعريف الناس بمبادئ الحرية الصحيحة، لكي لا يحوّل البعض ما هو متاح لهم من حرية إلى وسيلة لاستغلال الآخرين والاعتداء على حقوقهم وبالتالي توريط المجتمع في أزمات تعيق نموه وتقدمه.
ص- العمل من أجل تعريف الناس بطريقي الحق والباطل، بما يمنع عدوان البعض على الآخرين، ويحفظ للمجتمع استقراره، ويساعده على استغلال ثرواته بأفضل السبل.
ق- دعوة الناس إلى بناء المشاريع الخيرية، كالحسينيات، ودور العجزة والأيتام، والمستوصفات، وغيرها، بما يصون المجتمع من بعض المخاطر، كتحول الأيتام إلى مشردين مستعدين لممارسة كل أنواع الجرائم المخلة باستقرار الوطن والمستنزفة لقدراته المالية.
ر- تشجيع المواطن على إقامة المصانع، وحثه على تشجيع الإنتاج الصناعي الوطني.
ش- العمل على مكافحة البطالة، بحثّ الإنسان على العمل وتشجيع أصحاب الأموال على توظيف أموالهم للصالح العام أو منعها من الجمود وغير ذلك من أُمور.
ت- مكافحة المظاهر السيئة السائدة في الأسواق، كالربا والغش والاحتكار، سواء عبر نصح وإرشاد التجار، أو لفت نظر الحكومة إلى هذه الأمور، أو غير ذلك من أساليب. إن القضاء على هذه المساوئ يمكن الاقتصاد الوطني من النمو على أسس صحيحة.
ث- محاربة الأفكار الهدامة المؤثرة سلباً على الأخلاق وسير العملية الإنتاجية واستقرار البلاد وتقدمها. ويمكن أن يتم التصدي لتلك الأفكار عن طريق وعظ الناس وإرشادهم وبيان مساوئها وحثهم على مقاومتها.
خ- المساعدة على إخماد الفتن، التي لا شك في أنها تؤدي إلى عرقلة عملية التنمية بعد أن تُدخل المجتمع في حالة من عدم الاستقرار)(33).
تطبيق فريضة الصلاة
من بديهيات الدين الإسلامي أن الصلاة عمود الدين أو ركنه الأساسي أو العلامة الظاهرة للمؤمن ودليل إيمانه المعلن. وبالنظر للأهمية الاجتماعية والعبادية للصلاة فقد أكد سبحانه وتعالى في كتابه العزيز على ضرورة إعداد أماكن لأدائها بصورة جماعية، إذ قال: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال. رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار)(النور36-37).
لقد درج المسلمون منذ زمن على استغلال الحسينيات لأداء فريضة الصلاة، وهذا ما جعلها بمثابة مساجد، ولذلك حث الإمام الشيرازي على بناء المزيد من الحسينيات واستغلالها بما يرضي رب العالمين، وخاصة في إقامة شعيرة الصلاة بصورة يومية منتظمة، إذ كتب في هذا الخصوص:
(المساجد موضوعة لصلاة الجماعة، والحسينيات يلزم الاستفادة منها في هذه الجهة أيضاً.... وبإقامة الجماعة في الأوقات الثلاثة - الصبح والظهر والمغرب - وبذلك تكون هذه المؤسسة الإسلامية قد أدّت ألفاً وخمساً وتسعين خدمة إسلامية في كل سنة)(34).
كما أشار سماحته إلى دور الحسينيات في إقامة صلاتي العيدين وغيرها من الصلوات، حيث قال:
(يضاف إلى ذلك صلوات يومي الفطر والأضحى والاستسقاء والآيات ونوافل شهر رمضان المبارك والصلوات المستحبة)(35).
إن قيام الحسينيات بدور المسجد يتطلب اعتمادها الأسس التالية، التي أوضحها الحكيم في كتابه العزيز:
أ) أن تكون الحسينيات وسيلة لإعلاء كلمة الله جل وعلا في الأرض، وليس للدعوة لأي شيء من حطام الدنيا أو رموز الضلال من أهل هذه الحياة الفانية، لقوله تعالى: (وان المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً)(الجن/78).
ب) اعتماد الحسينيات كمكان لتمجيد رب العالمين، عبر الإكثار من ذكره سبحانه، لقوله تعالى: (ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا)(الحج/40).
ج) أن يكون إنشاء هذه المؤسسات الدينية من قبل المؤمنين المخلصين لدينهم، وليس من قبل بعض العناصر الهدامة- التي تريد استخدام المراكز الدينية لإثارة الفتنة وتوريط المجتمع في الفتن والصراعات المختلفة-، لقوله تعالى: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون. إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلوة وآتى الزكوة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين)(التوبة/17و18).
د) أن لا تمنع الحسينية أي مؤمن من أداء فريضة الصلاة بشكل خاص أو ذكر رب العالمين بشكل عام، لقوله تعالى: (ومن اظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه)(البقرة/114).
هـ) أن تعمل الحسينية على جمع كلمة المسلمين وتعزيز قوتهم وترسيخ مبادئ عقيدتهم، لقوله تعالى: (والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد انهم لكاذبون. لا تقم فيه أبداً لَمَسجد أُسس على التقوى من أول يوم أحقّ أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين. أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لايهدي القوم الظالمين)(التوبة/107-109).
إن استغلال المنبر الحسيني والحسينيات في أداء شعيرة الصلاة يؤكد دورهما الفاعل في تطبيق أحكام الإسلام ونشر الفضيلة وأعمال الخير في أوساط الناس، وهذا ما يسهم في حفظ العقيدة في مسارها الصحيح، والتصدي بهذا القدر أو ذاك لكل أشكال الغزو الثقافي.
ولكي تتحقق هذه الأهداف ينبغي زيادة عدد المنابر الحسينية أو الحسينيات بشكل كبير وبما يسهّل استقطاب جموع الأمة إلى مراكز العبادة، وإبعادها عن مواطن السوء.
التذكير برموز الإسلام والمسلمين
لقد برز في تاريخ الإسلام والمسلمين الكثير من الشخصيات المخلصة لدينها وأمتها، كالنبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)، والعديد من الأحداث المهمة، كغزوة بدر وغيرها.
إن تذكير الأجيال الحالية والمقبلة من أمة الإسلام بتلك الرموز والأحداث، هو عمل أساسي لربط المسلمين على مر الزمان بعقيدتهم ربطاً قوياً، يبقي للإسلام حيويته ويؤكد حضوره وفاعليته في رسم تاريخ البشرية، وتحديد السياسات العامة للدول التي تتبناه كمنهج حياتي أو كمصدر وحيد للقوانين والتشريعات.
لا شك بأن للمنبر الحسيني دوراً مهماً في ممارسة عملية التذكير هذه، عن طريق مشاركته في إقامة احتفالات لإحياء ذكريات عظماء ورموز الدين والأحداث والمنعطفات التاريخية التي مرّب بها المسلمون. وقد أشار سماحة الإمام الشيرازي الراحل إلى هذا العمل الواجب في معرض حديثه عن الاحتفالات الممكن إقامتها في الحسينيات، حيث قال:
(الاحتفال بميلاد الرسول (صلى الله عليه وآله) والزهراءJ والأئمة الاثني عشر(عليهم السلام) وسائر الأجلاء من العلماء والخطباء والمحسنين.... والفاتحين والمكتشفين... الخ)(36).
ولكي تكون هذه الاحتفالات فاعلة فيجب أن تستهدف رفع راية الإسلام وإعلاء كلمة الله جل وعلا، وذلك بأن تكون نزيهة عن كل انحراف أو فتنة أو باطل. كما أن من شروط عملية الإحياء هذه أن تربط الماضي بالحاضر، ليكون الشريف والعظيم ممن فات من أشخاص وما فات من أحداث عبرة وعظة ورمزاً وقوة وموجهاً للحاضر والمستقبل، وكذلك بأن تستخدم وسائل دعائية لجذب المواطن إلى المنبر الحسيني، كاللافتات والنشرات البارزة.
وقد أشار سماحة الإمام الشيرازي الراحل إلى هذه الشروط بالقول:
(من اللازم أن تكون الاحتفالات نزيهة تلائم كرامة المسجد والحسينيات.... وتكون مربوطة بالحياة الحاضرة، محفزة للاقتداء... أن يكون الاحتفال أو مجلس الرثاء والإرشاد مزداناً باللافتات المناسبة وأن تنشر فيه الصور اللائقة والكتابات المفيدة... لنشر الفضيلة)(37).
من الثابت أنّ الاحتفال بالمناسبات التي سنذكرها تالياً، يسهم في تربية أجيال المسلمين تربية صالحة، تقوي نزعتهم التحررية، وتجعلهم يتطلعون إلى حياة أفضل، وتجنبهم الصراعات غير الشريفة، وتبعدهم عن الانحراف السياسي والاعتداء على المال العام:
أ) مناسبة ميلاد ووفاة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)
إن الاحتفال بهاتين المناسبتين يمكن أن يبين للمسلمين بكل وضوح دور النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) في إنقاذ الكثير من الناس مما كانوا فيه من أزمات ومشاكل وصراعات دائمة، حيث وصفهم سبحانه وتعالى بأنهم كانوا على شفا حفرة من النار.
لقد تحولت تلك المجاميع المتفرقة المتصارعة الضعيفة أمام الروم والأحباش والفرس إلى أمة قوية ودولة مترامية الأطراف.
ب) مناسبة ميلاد وشهادة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)
يمكن عبر هاتين المناسبتين توضيح ما للشباب والرجال من دور فاعل في الدفاع عن عقيدة الإسلام وأتباعها، وفي نشرها أو الدعوة إليها بكل الوسائل الشرعية، وكذلك لتبيان دور الأحزاب المنحرفة في توريط الأمة في صراعات جانبية تستنزف طاقاتها وتمنعها من التقدم، وتحول دون إصلاح الحاكم العادل لبعض الظواهر الاجتماعية الخطيرة- كالتمايز الطبقي وتزايد عدد الفقراء و محدودي الدخل.
ج) مناسبة ميلاد واستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام)
إن التذكير بحياة وجهاد الإمام الحسين (عليه السلام) إنما يستهدف بدرجة واضحة تبيان مستوى ثابت والتزام هذا الإمام العظيم بالعمل بفريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث جاهد ضد الانحراف السياسي- المتمثل بتحويل النظام السياسي الإسلامي إلى نظام ملكي وراثي- وضد الاعتداء على المال العام والاستئثار بالسلطة والمصالح العامة.
عقد المؤتمرات والندوات
قد تتعرض الأمة لحدث معين، من قبيل حرب أهلية أو غزو خارجي أو مجاعة أو ركود اقتصادي أو تضخم أو غير ذلك، مما يستدعي يتطلب توضيح أبعاده ومراميه وتأثيراته على حاضرها ومستقبلها، خاصة وأن عملية خلط الأوراق غدت سياسة منهجية للكثير من القوى الساعية إلى تحقيق أغراض معينة بطرق ملتوية بعيدة عن الواقع، أو تزيّن الحقيقة السيئة وتظهرها براقةً على خلاف جوهرها الرديء.
وقد تحتاج الأمة إلى تدارس قضية تاريخية لاستنباط حكمة تعينها أو قانون يساعدها على تصحيح مسارها أو تطوير قدراتها وتحصين مواقعها السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية، ومواجهة أية هجمة شرسة معادية. كما لا تخلو الأمة من حاجة إلى الاجتماع لاستذكار أحداثها التاريخية بهدف تربية أجيالها المتلاحقة على قيم الماضي الصافية النافعة، وتحذيرها من تكرار مآسيه.
كذلك فإن البحث العلمي يتطلب أحياناً اجتماعاً بين أبناء الأمة لتدارس مسألة علمية أو ثقافية معينة.
إن تلك الظروف وغيرها تحتم عقد الندوات والمؤتمرات المختلفة.
ويمكن القول بأن المنبر الحسيني والحسينيات توفر الفرص لأبناء الأمة لعقد تلك اللقاءات دون أن ترهقهم مالياً أو تضطرهم إلى تأجيلها زمناً قد يطول أو يقصر؛ بسبب تكاليف يفرضها استئجار صالة أو قاعة محاضرات ومؤتمرات في فندق أو منتدى ثقافي لهذا الغرض.
إن هذه الخدمة المجانية تساعد الأمة على اجتياز محنها وتطوير قدراتها، وهذا ما يسجل كنقطة إيجابية للمنبر الحسيني، ويؤكد دوره المهم في إنهاض الأمة وإدامة نهضة الإمام الحسين (عليه السلام).
لقد شجع الإمام الراحل محمد الحسيني الشيرازي على استخدام المنبر الحسيني والحسينيات لعقد تلك الاجتماعات المفيدة، سواء تمثلت بلقاء بين أحد طلائع الأمة وجماهيرها، أو بتحاور بعض المتخصصين في مجال معرفي معين، وسواء أكانت بطريقة إلقاء شخص معين محاضرة على مستمعيه ومحاوريه أو كانت بطريقة طرح الحضور أسئلة ما على محاوريهم، أو بتبادل وجهات النظر بين المتحاورين، أو غير ذلك من صور أو أساليب(38).
كما شجع سماحته على عقد المسلمين الكثير من الندوات والمؤتمرات، كأن تكون في كل أسبوع مرة أو بمعدل خمسين مؤتمراً أو ندوة في كل عام، لتدارس أمور دينهم ودنياهم، كما حث على طبع وقائع النقاشات الدائرة في تلك التجمعات بعد ترتيبها بطريقة تجعلها قابلة للنشر والتوزيع على الملأ لتستفيد منها جموع كثيرة من الأمة(39).
كما اشترط سماحته على من يريدون عقد تلك التجمعات الفكرية أن يبدأوا تحاورهم بقراءة بعض سور القرآن الكريم، ليكون تحاورهم ومجلسهم مرضياً لرب العالمين وتحت رحمته ومحط عنايته، وليصبح مصدر خير وبركة ونور للأمة والعالم(40).
تقديم الخدمات الاجتماعية
إن تنوع حاجات الإنسان المادية والمعنوية تتولد عنه متطلبات إلى خدمات عديدة. فمن يغيّبه الموت عن هذه الحياة الدنيا يحتاج أهله إلى مكان عام لاستقبال معزيهم بمصابهم هذا، وهم بذلك يقيمون شعيرة إسلامية متعارف عليها منذ زمن طويل، كما أن من لا تتسع داره لاستقبال ضيوفه في حفلة زواج أو مناسبة سعيدة تخصه يحتاج إلى مكان عام يوفر له خدمة استقبال كل مهنئيه. كذلك قد تحرم قرية أو أحياء مدينة ما حرماناً تاماً أو جزئياً من خدمات التعليم العام أو الديني، لذا تظهر حاجتها إلى منابر ومباني تسهم في تقديم خدمة التعليم لمن يحتاجها من أبنائها الصغار والكبار. وربما تحتاج بعض المدن أو القرى إلى أماكن لتجميع بعض مواطنيها لإنجاز هدف معين، مثل:
(أ- تعبئتهم للدفاع عن الوطن.
ب- المشاركة في حملة لإنقاذ بعض منكوبي ثورات الطبيعة وحوادث العمل.
ج- إنجاز عملية تبرع بالدم أو بالمواد الغذائية. تلقيح البعض بلقاحات معينة لمواجهة انتشار أو ظهور مرض معين.
هـ- توفير فرصة حصول بعض الفقراء على مساعدات مالية.
و- إنشاء مكتبات في حسينيات القرى والمناطق المحرومة من الخدمات المكتبية.
إن كل هذه الاحتياجات وغيرها يمكن للمنبر الحسيني والحسينيات تلبيتها، بما يخدم مصالح الوطن. وقد أشار سماحة الإمام الراحل محمد الشيرازي إلى هذا الدور بدعوته إلى إنشاء هيئات خاصة بالتعليم والتزويج وإسكان الزوار والحجاج والتشغيل وجمع التبرعات والإقراض والإرشاد وإعارة وبيع الكتب والأشرطة وغيرها في كل حسينية(41).
الخاتمة
لقد عرضت الصفحات السابقة العديد من المهام المعاصرة الحيوية للحسينيات عامة ومنابرها بشكل خاص.
إن تلك المهام قد بيّنت بوضوح دور هذه المؤسسات الدينية في بناء المجتمع الإسلامي على أسس صحيحة منسجمة مع تعاليم ديننا الحنيف وتراث أجدادنا، البعيد عن الانهزامية والاتكالية والحالات السلبية الأخرى، كما أظهرت ما يمكن أن تقوم به من أعمال لمواجهة أزمات الوطن الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
إن هذا الدور الفاعل قد غيّبته عن أنظار المسلمين كلياً في بعض الدول، أو جزئياً في دول أخرى، عوامل سياسية داخلية وخارجية. وإننا نأمل في قدوم ذلك اليوم حيث نعمل على إعادة إحياء ذلك الدور الحقيقي الكامل لتلك المراكز الدينية، وصولاً إلى بناء المجتمع العادل الذي يكون موضع رضىً لله جل وعلا ولرسوله الكريم (صلى الله عليه وآله).
إن عملنا المستمر والدؤوب من أجل إحياء ذلك الدور، هو وسيلتنا الحقيقية لإدامة نهضة الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) ضد الظلم والانحراف عن الصراط المستقيم. ولكي يكون عملنا هذا مجدياً بنّاءً، يتوجب علينا الحفاظ على الحسينيات ومنابرها في إطارها التوعوي والنهضوي وإبعادها عن الصراعات الجانبية والهامشية.