دلالات التسامح الحسيني في عالم متغير
د. نضير الخزرجي
2018-10-31 06:04
يتقلب الإنسان في الحياة الدنيا بين مجموعة من القيم والمثل الإنسانية التي تتأرجح بين المطلقة والمحدودة، والمثل العليا المطلقة يصعب تعريفها بتعريف جامع شامل لأن التعريف يحدها والحد تقييد للقيمة المطلقة، أو تحديد لها يخرجها عن إطلاقها، لكن الإطلاق يجعلها مرتعا خصبا للإنفتاح على نماذج كثيرة لهذه القيمة المطلقة، واستشراف مديات أوسع وأكبر والتحرك في إطارات عدة.
والمُثُل مفهوم قيَمي ذات دلالات واسعة وانعكاسات كثيرة على الواقع الشخصاني والمجتمعي والأممي والكوني، فالإنسان مهما بلغ شأواً فهو كغيره من البشر على علاقة مباشرة بالواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه وهذا الواقع له قدرة التأثير عليه، كما أن للشخص قدرة التأثير على الواقع، فهناك علاقة ترابطية أبدية بين الفرد والمجتمع، لها قابلية التمدد والتقلص سلبا أو إيجابا بنفس حجم تعاطي الفرد مع مكونات المجتمع من إنسان وحيوان وجماد ومحيط داخلي وخارجي يحتك بهما باستمرار.
وهذه العلاقة تكشف عن ماهية الفرد، وتكشف عن الصورة العامة للمجتمع، فنقول هذا مجتمع هادئ، وذاك مجتمع متعصب، وثالث متشنج، ورابع عطوف، وخامس ظلوم، وسادس متسامح، وسابع غشوم، وهكذا.
فالصبغة التي انطبع بها المجتمع، إنما هي نتاج فعال أفراده، ففي صفوف المجتمع الخيّر هناك أشرار، وفي المجتمع الظلوم هناك أخيار، لكن الخير يخص والشر يعم حتى وإن كان الأشرار قلّة، وفي مثل هذه الصورة المجتمعية غير السليمة يبذل الأخيار أقصى جهدهم للخروج من طائلة الصبغة الظلومة القاتمة التي اصطبغ بها مجتمعهم، أما الأشرار فكأن الأمر لا يعنيهم، لا من قريب ولا من بعيد، بل أنهم لا يتوانون عن التمادي في الغي، لأنهم يرون مبتغاهم في مثل هذه الأجواء المريضة، ولا يهمهم مبلغ أذاهم للغير.
في حين أن المجتمع السليم هو الذي يتطلع إلى المثل السامية التي يجد فيها ضالته والسفينة التي يمخر بها عباب الحياة، والسلطان الذي ينفذ به نحو سماء التكامل والرقي.
والإنسان ذو الفطرة السليمة ميال بطبعه إلى تلمّس ثريّا المثل العليا، والحط على جُرمها والسياحة في فضاءاتها.
قيمة التسامح
ولعلّ واحدة من هذه المثل والقيم هي قيمة التسامح التي يُجسدها قوله تعالى: (إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) سورة فصلت: 34، والتسامح هو مظهر حي من مظاهر سماحة الإسلام التي سعى رسول الله محمد (ص) إلى إقرارها في واقع المجتمع الإسلامي الفتي بالقول والفعل، ولذلك لم تكن الحروب التي خاضها إبتدائية، فكلها حروب دفاعية، وحتى في هذه الحروب لم يكن سلامه الله عليه ليبدأ القوم بحرب فهو يعظهم ويستنفذ كل الطرق في إلقاء الحجة عليهم أملاً في هدايتهم، ولشدة حبه للإنسان وتسامحه مع مَن ألقى في طريقه أحجار البغضاء أن كانت تذهب نفسه عليهم حسرات، وكان يأسف لشركهم وسباحتهم في آسن غيهم.
فرسالة الإٍسلام تتقصى في المسلم الإنسان، وتبحث عن الإنسانية في غير المسلم، ولذلك كان الرسول (ص) يتألم إشفاقا على أعداء الدين، ولم يكن ليدعو عليهم وشعاره دوما وأبداً (أللّهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)، قالها وهو في الطائف وقد تعرض للأذى الجسدي، فمن باب أولى أنه يدعو لهم بالخير والهداية في المواقف الأقل سخونة، وهذا ديدن الرسول (ص) التسامح ثم التسامح ثم التسامح، وكان من تسامحه أن عفى عن قتلة الصحابة في بدر وأحد وحنين عندما تمكن من رقابهم في فتح مكة، وقال لجموع القوم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، لأنه كريم وابن أخ كريم، وكان أن عفى عن قاتل عمه حمزة بن عبد المطلب (ع) لأن العفو مذهبه.
وإذا كانت الحرب العالمية الثانية قد أزهقت نفوس سبعين مليوناً من بني البشر فإن عدد القتلى والشهداءِ من الجانبين في كل حروب الرسول (ص) مع الآخر لم تتجاوز الألف في أكثر الفروض، وهذا ينبيك أن الرسول كان يتطلع إلى إنسانية الإنسان وإسلامه لا إلى رقبته وسفك دمائه.
وصورة التسامح هذه، الواضحة المعالم على لوحة الحياة المحمدية، تحاول بعض القوى الداخلية والخارجية الخدش بها من خلال الزعم أن النبي محمد (ص) نشر دينه بمنطق القوة لا بقوة المنطق، في محاولة منها الإساءة إلى الإسلام ونزع لباس الأمن والسلام عنه.
حديثنا هنا عن سياسة النبي محمد (ص) في إدارة دفة الحروب بخاصة، وإدارة دفة الحكم بعامة، التي تعتبر حجة لا يمكن لأحد التخلف عنها لأنه: (وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى) سورة النجم: 3-4، ولا يعنينا من الناحية الشرعية سياسة الآخرين، فالقرآن هو الحجة الدامغة حيث يدعو إلى مجادلة الآخر بالتي هي أحسن، فمن باب أولى أن يكون التسامح في ما بين النسيج الإجتماعي الواحد هو العنوان الأبرز، والسنّة هي الحجة البالغة حيث تدعو إلى العفو عند المقدرة، ودرْ الحدود بالشبهات، فمن باب أولى أن يكون التسامح هو شعار المجتمع الواحد.
نسيج واحد
وعلى منوال (حسين مني وأنا من حسين) يأتي النسيج متشابها لتشابه الخيوط وتماثل اللحمة، بل هي اللحمة بعينها، وهي قطعة النسيج ذاتها، ولا يقتصر مصداق (المِن) على العلاقة النسبية كونه السبط الثاني بعد الإمام الحسن (ع)، بل يتعدى المصداق إلى الشاهد الرسولي التبليغي المنفتح على الشاهد الإمامي التبليغي، فحيث كان النبي محمدٌ رسولاً من الله إلى الأمة التي تنازعتها الأهواء وقسّمتها ثلاثمائة وستون صنما على أبواب مكة، نهض سليل النبوة ومعصم الرسالة في زمن عصفت بالأمة رياح التضليل وصار الدين لعق على ألسنة المسلمين يدرّونه ما درّت معايشهم، فكانت غضبة الدين التي جاءت لإصلاح إعوجاج الأمة وإحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي قلّ العاملون بها حيث صار الأمر بالمنكر حليف الأمة والناس على دين ملوكهم، وصار النهي عن الحق هو الصبغة العامة والناس يدخلون مداخل الملوك وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً وساء مدخلاً.
وحيث كانت القواسم المشتركة بين نبي الإسلام وسبطه وسيد شباب أهل الجنة كثيرة، كانت هجرة السبط إلى العراق كما كانت هجرة الجد إلى المدينة، وفي الطريق إلى الكوفة عاصمة الخلافة الراشدة الرابعة والخامسة تصله الأخبار بما لا تسر، لكنه يمضي إلى مسؤوليته، ويحيط به جيش من ألف فارس يقودهم الحر بن يزيد الرياحي أحد فرسان الكوفة ممن لم يكاتب الحسين (ع)، يجعجع به الطريق ويحجره عن الحركة فلا هو إلى الكوفة ذاهب ولا هو إلى المدينة راجع، ويحط الرحال في كربلاء.
وعلى الرغم من هذا الموقف العدائي للحر الرياحي، فان تسامح الحسين (ع) قاده إلى أن يروي عطش هذا الجيش القادم لاعتقاله، ويزيد على تسامحه تسامحا أن رشّف خيلهم وأزال عن الفرسان ومطاياهم حر الرمضاء اللاهبة.
وفي المفهوم العسكري الميداني فإن الحر الرياحي يمثل نقطة تحول كبيرة في مسيرة الحسين (ع) انتهت إلى وقوع فاجعة كربلاء وسقوط الرجال مرملين على صعيد الطف والنار تلتهم الخيام، وحوافر الخيل ترتقي جسد الحسين التريب وتسحق رحل الحسين وأهل بيته وأنصاره.
ولكن في لحظة صحوة الضمير يخير الفارس الكوفي نفسه بين الجنة والنار، بين البقاء على الغي أو تلمس طريق الحق، فينزل في ساحة الحسين (ع) يطلب الصفح والعفو والتوبة، وحيث يبحث الحسين (ع) كجده عن إنسانية الإنسان يقبل توبته ويصفح عنه، فالتسامح شعاره، كان الحسين (ع) يدرك في تلك اللحظات أن الشهادة حليفه حيث شاء الله أن يراه قتيلا، وكان بإمكانه أن يعتذر عن قبول توبة الحر فيلتحق هو الآخر بعارها وشنارها دنياً، وبنارها وحريقها آخرة، لكنه جاء كجده رحمة للعالمين واقتضاء الرحمة أن يتسامح، بخاصة وأن تسامحه في مثل هذه الظروف انتشال للإنسان الآخر من الضياع وإن كان الآخر هو أحد أسباب المحنة والمصيبة، فالآخر وسلامته في الدنيا وسعادته في الآخرة هو محط أنظار أرباب الرسالة السماوية.
فالذي يتسامح مع مَن كان في المنظور الإنساني المجرد عن البعد الغيبي هو أحد أسباب نكبة كربلاء، فمن باب أولى أن يتسامح في ساعات أقل شدة وأقل وطأة، لأن الإسلام في واقع الأمر يريد من الإنسان حياته لا موته، فطلب الموت للغير من سنّة الجبابرة الذين يتبوأون مقاعد السلطة ولو على رقاب الإنسان وكرامته، في حين أن كرامة الإنسان في دائرة المفاهيم الإسلامية أعظم من بيت الله، فقطرة الدم مقدسة، وقطرة الدمع مقدسة، وقطرة صفحة الجبين مقدسة.
كان الحسين (ع) كجده يبكي القوم في كربلاء لأنهم سيدخلون النار بسبب قتلهم له، فهم يريدون موته وهو يريد حياتهم، ولكن لا حياة لمن تنادي، وهل يرعوي من لبس رداء الشيطان وتمنطق سيفه وامتطى جواده!
الصحيفة التسامحية
ومن التسامح أن العائلة الأموية الحاكمة في المدينة المنورة وبعد عامين من واقعة كربلاء تعرضت لنكبة على يد الثوار، وكان بإمكان سليل الإمامة والطالب بثأر أبيه الإمام علي بن الحسين السجاد (ع) الذي رأى بأم عينيه كيف تهاوت رؤوس أعمامه واخوانه وأصحاب أبيه من على أجسادها، ورأى رأس أبيه على رأس رمح طويل، ورأى منظر عماته وأخواته ونساء الأصحاب يهرولن مرعوبات مولولات من خيمة إلى خيمة، كان بإمكانه أن ينتقم لأن كل هذه المناظر الباعثة على الأسى كافية لأن تدفع به لوضع سيف الإنتقام على رقاب العائلة الأموية الحاكمة وهي في ضعفها، ولكن حوادث كربلاء وما حملته من مآسٍ وآلام تهاوت على أعتاب التسامح الذي أبداه الإمام السجاد (ع)، فيمد يد العون للأسرة الحاكمة ويسعفها من القتل والسبي ويحميها من انتقام ثوار المدينة.
فالسجاد (ع) وهو من بيت المثل العليا المطلقة، لا تسمح به شهامته ونخوته إلا أن يتسامح، ولو لو يكن كذلك لما كان إماماً، فهو متسامح لأنه إمام ولأنه إمام فشأنه التسامح، وهو بذلك كأجداده وآبائه يسن سنة التسامح حتى مع الأعداء الذين ما تركوا منكراً إلا وارتكبوه، وخلت صحائفهم من فعل الخير.
وفي سياق تسامحه جاءت سلسلة الأدعية المباركة التي ضمتها الصحيفة السجادية، حيث وجد أن المجتمع المسلم نتيجة للسياسة الإعلامية الأموية يعيش احتباسا روحانيا أجدبت معه مساحات كبيرة من أخلاقياته، فراح يغسل بكلماته النورانية الأدران التي علقت في نفوسه وأرواحه، فهي كلمات وادعات تناجي الرب وتناغي فطرة المربوب، وتقترب من واقعه الإنساني القيَمي المستند إلى المثل العليا.
كانت الصحيفة السجادية إلى جانب تطهير النفوس، تستبطن الجانب الإعلامي في مقارعة الظالم عبر استنهاض النفوس وإحياء الأرواح، فالحاكم طالما ارتاح لنوم المجتمع أو موته، تستهويه النفوس الخاملة والضمائر الميتة، وإذا سرى الموت إلى النفوس تمكن الظالم من رقاب الناس وساقها حيث يشاء ومتى شاء، جاءت الصحائف السجادية على تعددها لتحكّم بوصلة الأمة التي تاهت عن مبتغاها، وتعيد التوازن إليها بعد أن غامت رؤاها، والصحائف السجادية وإن كانت من إفرازات الواقع السيء الذي وصلت إليه الأمة بحيث تقدم على قتل ابن بنت نبيها، فإنها ماضية في كل زمان ومكان، فمن أخذ بمضامينها ضمن السلامة ومن تنكب عنها دارت عليه الكارثة ولات حين مندم.
بين خيارين
واعتقد فيما أراه من خلال قراءتي لواقع حركة المختار الثقفي التي حلّت في الكوفة بعد ست سنوات من استشهاد الإمام الحسين (ع) أن المختار الثقفي لم يستوعب بصورة جيدة رسالة الإسلام في مجال العفو والتسامح، ولم يدرك مبتغى الإمام السجاد (ع) في نشر ثقافة التسامح عبر صحائفه المباركة، فهو لم يقرأ بصورة سليمة واقعة فتح مكة، ولم يقرأ قبول توبة الحر الرياحي عند مشتبك القنا، ولم يقرأ ثورة أهل المدينة على الحاكم الأموي في عهد السجاد (ع)، فكان الأولى من منظوره في الحدث المكي أن ينعم الرسول (ص) ناظريه بتطاير رؤوس أعدائه من المشركين، وفي الحدث الكربلائي أن يترك الحسين (ع) عدوه بالأمس هو وشأنه يتلظى بنار جهنم، وفي الحدث المدني أن يتشفى الإمام السجاد (ع) بقتل قاتل أبيه وسبي نسائهم انتقاما لنساء النبوة، لكن الرحمة الإسلامية تأبى ذلك وتأباها الرحمة المحمدية وترفضها الرحمة العلوية.
ولا يخفى أن سياسة العنف وتطاير الرؤوس وهجرة الأسر والعشائر هي التي طغت على سياسة المختار الثقفي، فيما طغت سياسة المرحمة وصون الحُرَمة في عهد المختار الهاشمي، فسادت الثانية إلى يومنا هذا وبادت الأولى في غضون عامين، فألّفت مكة بين القلوب، وألّبت الكوفة النفوس، فأنتجت أربعة ألوية كل منها يريد رأس المختار، فواحدة مالت إلى بني أمية وثانية ذهبت إلى بني الزبير، وثالثة عبرت الحدود إلى إيران تنغص على الكوفة عيشها، ورابعة متخفية في الكوفة كخلايا نائمة تتحين الفرص للانقضاض على حكم المختار، ولم يستمر حكم المختار طويلا، وبتقديري أن أرث السنتين من حكم المختار استمر ثقيلا على صدر العراق، حتى انزاح مؤخرا.
والحياة عِبر، ومن اعتبر ظفر، ومن الحكمة أن تكون قيمة التسامح في العراق الجديد هي السائدة، والإبتعاد عن سياسة الثأر والإنتقام، وإشاعة مفهوم المصالحة الوطنية، ومن معالم المصالحة إلغاء المحاكمات لرجالات النظام السابق، فسقوط الصنم تم وانتهى، مع ملاحظة أهمية تعويض المتضررين من النظام البائد. فعراق اليوم بحاجة إلى إفشاء روح السلام والمحبة ونشر الصحائف السجادية على رؤوس الأشهاد، لإعادة التوازن إلى النفس، فنحن مأمورون بالإستنان بسنة النبي (ص) وأهل بيته الكرام (ع) حتى تستقيم الأمور، وهذه السنة تغنينا عن سنة فعل الآخرين قربوا من دائرة الولاء الحسيني أو ابتعدوا، فسنة المختار الهاشمي هي الأولى أن تتبع لا سنة المختار الثقفي، ولا بديل عن ذلك، والأمور بشكل عام متروكة لظروفها يقررها ولاة الأمر وساسة العباد.
والشيء الأكيد أن مظاهر الدماء ينبغي أن تزال عن خارطة العراق إذا أريد له أن يعيش بأمان، فمن يأنس لرؤية الدماء إنما هو مريض النفس، فالإسلام لا يبيح لمن يذبح دجاجة أن يفعل ذلك أمام نظائرها من الدجاج، فكيف يجيز الإنسان لنفسه ذبح أخيه الإنسان، بل كيف يأنس الإنسان لرؤية الدماء ولو من على شاشة التلفاز، فهل يصح أن يمتنع الإعلام الغربي من إظهار صور الدماء حماية لذائقة المشاهد وسليقته وفطرته، ويتفنن الآخر بقتل العراقي، ويتفنن الإعلام العراقي والعربي بإظهار صور الدماء والأشلاء، وبخاصة الأشلاء العراقية التي استبيحت بفتاوى مستوردة من خارج الحدود وتوطنت في أدمغة بعض أنصاف رجال الدين.
وهنا مفارقتان:
الأولى: أن الذين أعملوا الدمار في العراق، وفجروا العتبات المقدسة، وبخاصة تفجيرات كربلاء ومن ثم سامراء والكاظمية، إنما قدموا بجهلهم خدمة إعلامية كبيرة لأهل البيت (ع)، فالعالم كله وبكل لغاته ولهجاته من شرق الأرض وغربها بات يعرف اسم كربلاء ويعرف الحسين (ع)، وبات يعرف اسم سامراء والإمامين العسكريين (ع) وبات يعرف الكاظمية والإمامين الكاظمين (ع).
الثانية: ومن المفارقات الباعثة على القرف أن بعض الإعلاميين العراقيين يعترضون على رجال الشرطة والأمن حينما يمنعونهم من الإقتراب من نقطة التفجير الإرهابي ومن مركز الحدث المأساوي المتوزع الأشلاء، متذرعين بقانون حرية الصحافة، في حين يفترض في الإعلامي الملتزم أن يصون فطرة الإنسان ويمتنع عن نشر مشاهد الدماء والأشلاء ويكتفي بها كشواهد في الأرشيف، لإن حماية الذائقة البصرية حماية للطفل العراقي الذي يُراد له أن يعكف على الدراسة لبناء مواطن خلاّق، فرؤية الدماء ليس أقل في حدود الطفولة حتى وإن كان تحت مدعى الحب والولاء تترك أثرا سلبيا في كينونته، وتتفجر عنده في لحظات الغضب وتترجم إلى واقع مميت.
ولا شك أن رؤية الدماء تحت أي مدعى خلاف رسالة التسامح، فكيف يمكن الموالفة بين الدماء وقيمة التسامح؟ بل كيف يمكن تنشئة مجتمع سليم الذهن والفطرة في حين أن الدماء الحلال والحرام تسفك أمامه وتتسابق وسائل الإعلام إلى نشرها ولهانة جذلة، وكأنها إن لم تنثر الدماء على كامل واجهة الشاشة الفضية ولم تسلّكها عبر شبكة الإنترنيت، لم تظفر بالنصر ولم تبلغ الفتح!
قراءة واعية
من الثابت أن الإنسانية تملك شخصية كبيرة مسامحة كمحمد (ص) وتملك شخصية مسامحة كالحسين (ع)، لكن المشكلة في حملة العلم المحمدي كيف يمكنهم عرض الرسالة الإسلامية الخاتمة وجذب قلوب الناس إليها لانتشالهم من وحل الفراغ الروحاني والعقائدي، وبعضهم يقدم حصان العنف والتطرف أمام عربة التسامح والإعتدال؟
لماذا يقرأ البعيد الإمام الحسين (ع) قراءة يعجز القريب عن قراءتها؟
لماذا قرأ زعيم الهندوس المهاتما غاندي في الحسين تسامحه والأعداء تحيط به من كل جانب، فانتصر غاندي على أقوى امبراطورية محتلة عبر سلاح اللاعنف والعصيان المدني، لا عنف السلاح والذبح المدني؟!
لماذا يقرأ الزعيم البوذي (الدلاي لاما) في الحسين معالم نهضته الخالدة، إلى الدرجة التي يتمنى معها أن يكون الحسين بوذيا حتى يجعل الناس كلهم بوذا، فالبوذية قائمة على الروحانية وعلى مبدأ التسامح، وحسب تعبير الدلاي لاما زعيم البوذ في العالم: (إذا كانت لدينا نحن البوذ شخصيات مثل الإمام علي والإمام الحسين، وإذا كان لنا نهج البلاغة وكربلاء فإنه لن يبقى في العالم أحد إلا ويعتنق العقيدة البوذية، نحن نفتخر ونعتز بهاتين الشخصيتين الإسلاميتين).
فهل يعقل أن يفهم غاندي والدلاي لاما رسالة الحسين الإصلاحية التسامحية، ولا ندرك نحن المسلمون ذلك؟
هنا أرى أن نعيد قراءة النهضة الحسينية من جديد، كما قرأها سماحة البحاثة آية الله الدكتور محمد صادق الكرباسي في موسوعته الفريدة (دائرة المعارف الحسينية) في ستمائة مجلد من ستين بابا، صدر منها حتى يومنا هذا ستون مجلدا، ففيها ما يحتم على المتلقي قراءة الواقع الحسيني كما أراده الإمام الحسين (ع) لا كما نريد، فما نريد ينتابه الخطل، وما يريد لا يصيبه الزلل.